الجزائر وتصارع أركان الحكم
تعدُّ الجزائر من الدول العربية الإسلامية التي تتميز بوزن ومكانة، وبشبكة علاقات عربية وأوروبية مميزة، تتكئ على مصادرَ نفطيةٍ متعددةٍ، وتصدِّر الغاز لبعض دول أوروبا. وحسب تصنيف المعهد الأمريكي "غلوبال فاير باور" لسنة 2015م يحتل الجيش الجزائري المكانة الثانية عربياً و 27 عالمياً. وقد كانت هي والمملكة العربية السعودية والعراق من بين الدول التي أوقفت تصدير البترول للدول الداعمة لدولة الكيان الصهيوني، وعلى رأس تلك الدول الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973م إبَّان حرب العاشر من رمضان (أكتوبر).
ولكن المشهد الجزائري هذه الأيام يكتنفه الغموض، خاصة بعد تراجع الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة وغيابه عن كثير من المناسبات والاكتفاء بكلمات بسيطة أو تكليف من يوصل رسائله للجمهور.
وبدت محاولة التكهن بما يدور داخل أروقة قصر "المُرادية" (قصر الرئاسة في العاصمة) أو من يصنع القرار ضرباً من المستحيل، وطفا على سطح المشهد السلطوي شبح صراع داخل الهيكل الحاكم والمقرب من الرئيس، كـ (التراشق الإعلامي بين رئيس الحكومة عبد المالك سلال ورئيس ديوان الرئاسة أحمد أويحي)، وصدرت قرارات إحالة لبعض قيادات أمنية كبيرة لها وزن كبير، ومنهم من هو معروف على مستوى الجزائر بأنه الذي كان يختار ويحدد رؤساء الجزائر منذ ما يقارب ثلاثة عقود، كمسؤول المخابرات السابق محمد مدين أو ما يعرف بـ "سي توفيق"، ومحاكمة اللواء حسان في حدث يتكرر لأول مرة منذ عقود، أثار هذا الحدث تساؤلات، منها: أن الرئيس بوتفليقة لم يكن بمقدوره إحالة هؤلاء خارج سلك السلطة في فترة قوته وعنفوانه؛ فكيف استطاع أن يفعل ذلك وهو بحالة مرضية واضحة؟ ومن سيخلف الرئيس بوتفليقة لحين الترتيب وإجراء الانتخابات الرئاسية؟ وما دور وتأثير المؤسسة العسكرية في تحديد شخصية الرئيس القادم؟
هذه الأسئلة دفعت بشخصيات وازنة في السياسة الجزائرية، عُرف عن بعضها قربُها المباشر من الرئيس تجتمع تحت اسم "مجموعة الـ 19"، وتطلب مقابلة الرئيس من أجل الحصول على إجابات شافية لمجموعة التساؤلات السابقة، وكان من بينهم لويزة حنون، ووزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي التي قالت بصراحة: "إن هذه القرارات تتنافى مع مبادئ فخامة الرئيس ومواقفه". الأمر الذي يحمل تشكيكاً في مصدر هذه القرارات. واحتوت رسالة الشخصيات الـ 19 موقفهم من تعقد المشهد الحالي ومسألة تعديل الدستور والواقع الاقتصادي المتردي والمخاطر الناجمة عن أزمة النفط التي تهدد استقرار البلاد، وأيضاً الحديث عن تدهور الحق العام وبعض القرارات التي تتضمن صراحةً التخلي عن بعض مكونات السيادة الوطنية من خلال فتح الباب أكثر للخصخصة. ويعتبر كثير من تيار المعارضة أن إقرار قانون الموازنة يأتي في ظل تراجع سعر البترول بشكل ملحوظ ليكرس بداية سنوات عجاف، سيضطر المواطن فيها لاتباع سياسة تقشفية؛ حيث وصفت زعيمة حزب العمال اليساري الإجراءات الواردة في مشروع قانون الموازنة بـ "اللاوطنية واللادستورية". ويرى البعض أن الجزائر إذا أرادت أن تخرج من أزمتها يتوجب عليها أن تشرع في تنويع اقتصادها وخفض الاعتماد المطلَق على إيرادات النفط، وأن تفرض رقابة أكبر على مؤسسات الدولة، وتحارب مظاهر الفساد الإداري والمالي.
وقال محمد حديبي المتحدث باسم حركة النهضة: "إن إقرار قانون الموازنة لعام 2016م هو نتاج غياب المسؤولية الأخلاقية والسياسية للدولة، لكونه يمثل حزمة إجراءات عقابية في حق الشعب من التقشف والضرائب لتعديل موازنة الدولة".
وعن السياسة الخارجية تجاه مناطق الصراع ضمن الإقليم العربي فإن الجزائر انتهجت مسار التحفظ في حل المشاكل العربية بالطرق العسكرية، أو التدخل في شؤون البلاد الأخرى، وتؤكد دوماً على الحلول بالطرق الدبلوماسية، والجزائر لها دور ريادي في التدخل بالطرق الدبلوماسية لإنهاء الصراع بين الدول الإسلامية كما حصل في صراع (العراق - إيران)، فقد دفع وزير الخارجية الجزائري محمد الصديق بن يحيى حياته إثر سقوط الطائرة أثناء محاولاته رأب الصدع ووقف الحرب بين الدولتين إبان الحرب الإيرانية العراقية.
والجزائر تعتبر أن تجربتها المريرة بما يسمى "العشرية السوداء" قد أنارت لديها مدارك بأن الحلول العسكرية والراديكالية لا تجلب إلا مزيداً من البؤس والدمار على المستوى الإنساني والمادي، ولا تنهي الخلاف بشكل واقعي حقيقي، وقد حققت سياسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في ما سمي آنذاك بـ "الوفاق الوطني" أو " الوئام المدني" نجاحاً كبيراً، حيث شملت عفواً عن آلاف المدانين بتهم "الإرهاب" وألقت كثيراً من الفرق والجماعات السلاح، ودخلت ضمن النسيج المجتمعي وأعادت الجزائر إلى مرحلة مستقرة نسبياً، بعدما كانت تشهد أحداثاً داميةً بشكل مستمر راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين الذين قُتلوا دون أن يعلموا لماذا كانوا يقتلون، وكان السؤال المحوري اليومي في الجزائر (مَنْ يقتل مَنْ في الجزائر؟).
وقد اندلع الصراع الدموي في يناير 1992م عقب إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية لعام 1991م، والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً كاسحاً. وقد فُتح الباب لجماعات الإسلام السياسي بعد ذلك للمشاركة في الحياة السياسية، وتشكل تلك الجماعات جهة معارضة للنظام لها احترامها ولها حضورها.