صرخة فزع لمسلمي إفريقيا الوسطى
"تركنا لوحدنا في مواجهة مصيرنا، حتى أننا لم نعد نجرؤ على الخروج".. هكذا استهلّ هارون غايا، أحد مسلمي افريقيا الوسطى في العاصمة بانغي حديثه.. تاجر عاد لتوّه من جولة في سوق "البي. كا. 5" بالعاصمة، هذا الحيّ الذي يقيم فيه بضعة آلاف من المسلمين، ليقول بلهجة يعلوها الأسى: "لقد كان مقفرا كما هو عليه الحال هنا منذ أسابيع"، فالطرقات مقطوعة، والناس يلازمون منازلهم.. إنّه اليأس المطبق على النفوس هنا، نحن نموت ببطء.. لازلنا أحياء بفضل الله فحسب، لكن إلى متى سيستمر هذا الوضع"؟.
تساؤلات لا تنضب لواحد من مسلمي هذا البلد ممن يتعرّضون لانتهاكات ميليشيات "أنتي بالاكا" المسيحية، وتنتابهم مخاوف الانزلاق من جديد إلى حرب دينية كتلك التي لا يزال شبحها يلقي بثقله على البلاد منذ سنوات.
عنف ديني يلقي بظلاله على بلد اعتقد المراقبون لفترة أنه استطاع تجاوز أزمته ولو نسبيا، غير أنّ الأحداث على الأرض سرعان ما فنّدت جميع التوقعات، مع سقوط نحو 90 قتيلا وإصابة مئات آخرين بجروح، وذلك منذ سبتمبر الماضي، بحسب مصادر رسمية. سلسلة من أحداث العنف والانتقام لم تشهد انقطاعا منذ مقتل شاب مسلم، يوم عيد الإضحى الماضي، قبل نحو شهر ونصف، على أيدي ميليشيات "أنتي بالاكا" المسيحية.
يوسف، مسلم يقيم بحي "البي. كا 5" ببانغي، وأب لـ 3 أطفال، قال معقّبا عن أحداث العنف الأخيرة "مشهد الجثث المفصولة عن رؤوسها وقطع اللحم البشري المتناثر لا تزال تطارد مخيلتنا.. نحاول تهدئة أطفالنا لأن معظمهم أصيب بصدمة نفسية".
حي "البي كا 5" يعتبر، منذ مطلع العام الماضي، ملجأ المسلمين في عاصمة افريقيا الوسطى، حتى أنه أضحى معقلا لهم، يتجمّعون فيه هربا من الميليشيات المسيحية التي تخلط بينهم وبين عناصر تحالف "سيليكا"، الإئتلاف السياسي والعسكري ذات الأغلبية المسلمة والذي يعتبر عدوها اللدود. وبالنسبة ليوسف، فإنّ "الوضع الراهن أسوأ بكثير مما كان عليه من قبل، فقبل عامين، لم تكن هناك سوى الأنتي بالاكا، لكن اليوم انضم إليها المحاربون القدامى في صفوف الجيش النظامي" ذي الأغلبية المسيحية من وجهة نظر السكان.
شبح المحاربين القدامى في صفوف جيش افريقيا الوسطى، والمقدّر عددهم بنحو 8 آلاف رجل، والذين تم عزلهم منذ الانقلاب الذي قاده الرئيس الخامس للبلاد، ميشيل دجوتوديا (مارس 2013- يناير 2014)، لا زال يخيم على الوضع الأمني، حتى أن بعض السكان المسيحيين يرون أن إعادة تأهيل هؤلاء الجنود من شأنه أن يضمّد جراح البلاد ويخمد تلك الأزمة التي لم تتمكّن أبدا من التخلّص من طابعها الديني.
بلانش دازو، شابة من افريقيا الوسطى، أعربت، في اتصال هاتفي، عن أملها في "إعادة تأهيل عناصر الجيش القديمة، وإسنادهم مهمة نزع سلاح سكان البي. كا 5 بسكا خاص" بحسب تقديرها، مضيفة إن ذلك "هو الحل الوحيد من أجل تعايش سلمي بين المسيحيين والمسلمين في البلاد".
غير أنّ مسألة إلتحاق أولئك الجنود المعزولين بميليشيات "أنتي بالاكا" لا تزال تثير جدلا واسعا، وذلك رغم تأكيدها من طرف وزير الإدارة في البلاد (يعادل منصب وزير الداخلية)، موديبو بشير وليدو، في تصريح صحفي، في حين رفض المتحدث باسم الميليشيات المسيحية التعقيب على الموضوع، مكتفيا بالتذكير بأن تحالف "سيليكا" يسعى إلى تعطيل إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، كما تنص على ذلك الأجندة الانتخابية.
وضع يرزح تحت ثقل العنف، سيما عقب مقتل شابين من حي "البي كا 5"، قبل يومين، ما جعل بعض مجموعات الدفاع الذاتي المسلمة تقود حملات ضد المسيحيين.
وفي مواجهة الأوضاع الصعبة التي يعيشونها، لم يتردد سكان "البي كا 5"، مسلمون كانوا أم مسيحيون، في توجيه انتقادات إلى القوى الدولية والفرنسية والأممية، وحتى قوات الأمن بافريقيا الوسطى. فجميع هذه القوات متهمة، بحسب رأيهم، بالتقصير وبعدم السعي لمنع حدوث تلك المجازر وحوادث الانتقام البشعة، والتي انطلقت آخر حلقاتها منذ سبتمبر الماضي.
خالد أوبانغي، موظف سابق، قال ، إن "المجرمين يجوبون الشوارع على مرأى ومسمع من جنود المينوسكا (البعثة الأممية في افريقيا الوسطى)"، مضيفا أن "الأزمة الطائفية تستمر بشكل سخيف، لأنه يحدث وأن يلجأ المسلمون إلى الكنائس للاختباء، والعكس صحيح بالنسبة للمسيحيين، لكن اللافت هو أن القوات الدولية لا تتدخّل"، فيما قال أحد الشبان المسلمين: "أنا متشائم للغاية حيال المستقبل.. لا أدري إن كان علينا التخوف من اندلاع الحرب الدينية من جديد، لأن هذا ما نعيشه بالفعل، والحرب عادت فعلا.. فما الذي تبقى إذن؟ استنساخ لمأساة رواندا في 1994 وإبادة المسلمين؟".
وفي تصريح صحفي، قال مسؤول رفيع في الحكومة الانتقالية بافريقيا الوسطى، فضل عدم الإفصاح عن هويته، إن "الوضع في البلاد يتسم بالضبابية، ولا أحد يمتلك الأدلة الكافية لإثبات أو دحض أي معلومة، غير أن المؤكد هو وجود اتهامات مبالغ فيها، لكن يمكن تفهّمها، من قبل السكان المتضررين"، معربا، في الآن ذاته، عن مخاوفه من تجدد أعمال العنف التي تقودها المجموعات المسلحة.
وتابع "لا أحد بمنأى عما يحدث، وإن لم يغرق الوضع في الفوضى، فإن المجموعات المسلحة ستغاير قريبا أسلوبها، عبر إطلاق فرق الموت التابعة لها لاستهداف الشخصيات السياسية.. إنهم يريدون دولة تعمها الفوضى".وفي ضوء الأحداث على الأرض، أعربت الرئيسة الانتقالية بإفريقيا الوسطى، كاترين سامبا بانزا، مؤخرا، عن أسفها للمساهمة التي وصفتها بغير الكافية للأمم المتحدة في سبيل إحلال السلام في البلاد.
ومن جانبه، قال الناشط الشاب بالمجتمع المدني في البلاد، حميدو موسى، إن "(بلوغ) نهاية النفق لن يكون اليوم، وما دامت تلك الرئيسة في منصبها، فلن نتوصل أبدا إلى حلول.. السلطات الانتقالية تتطلع إلى التمديد في وضع عدم الاستقرار هذا لتمديد ولايتهم على رأس الدولة".
"اتهامات سخيفة".. هكذا عقب وزير الإدارة بافريقيا الوسطى، معترفا مع ذلك بوجود هنات في إدارة الأزمة، مرتبطة أساسا بنقص الوسائل والموارد، على حد تعبيره.وفي الأثناء، يستمر المسلمون الذين لا يمثلون سوى 10 % من إجمالي سكاني يقدر بـ 5 ملايين نسمة، وفقا لتقديرات غير رسمية، في مواجهة الأعيرة النارية وطعنات المديات. ومنذ ديسمبر 2013، قضى الآلاف من سكان افريقيا الوسطى، فيما اضطر عشرات الآلاف إلى الفرار واللجوء في دول الجوار على غرار تشاد والكاميرون.