منذ من سقوط نظام الأسد، تبدو الساحة السورية ساحة صراع، فبينما تحاول تركيا وراثة الفراغ الذي خلفه النظام الإيراني وحزب الله، يحاول الكيان الصهيوني السيطرة على الأجواء السورية، ويبقى الموقف الأمريكي فاصلا بين الطرفين.
اتسمت الهجمات الجوية الصهيونية على سوريا بعد سقوط الأسد، بالطابع الاستفزازي،
خاصة أنها لم تلق أي مقاومة تذكر من جانب حكومة أحمد الشرع، الذي يجابه معضلات
داخلية وخارجية متشعبة، ترتكز على بناء دولة جديدة تعيد لسوريا مكانتها وقوتها.
ودأب جيش الكيان الصهيوني على تبرير دوافع غاراته على المطارات والمنشآت العسكرية
بطول الأراضي السورية وعرضها، برغبته في تدمير قدرات الجيش السوري السابق، والذي
هرب جنوده وضباطه في أعقاب سقوط النظام وانتصار الثوار السوريين ودخولهم دمشق.
وفي الأسابيع الأخيرة أضاف جيش الكيان الصهيوني إلى دوافعه دافعًا جديدًا يتعلق بأن
هذه الضربات هي رسائل تحذيرية إلى النظام الجديد في دمشق وحليفه التركي بأنه لن
يسمح بإقامة قواعد عسكرية تركية في سوريا.
ويزعم الاحتلال الصهيوني أن هناك مؤشرات متزايدة على إقامة تلك القواعد العسكرية
التركية، خاصة أنه سيتم تزويدها بمضادات جوية، تمنع الكيان من التحليق بطائراته
واستباحة الأجواء السورية.
ولاستشراف تطور الصراع على الاستحواذ والسيطرة الجوية في المجال السوري، لابد من
تحليل نظرة الكيان الصهيوني لسوريا الجديدة، والدور الأمريكي في حسم هذا الصراع.
نظرة عدائية صهيونية للنظام السوري الجديد
نستطيع تحليل أهداف الكيان الصهيوني واستراتيجيته داخل سورية بأمرين: تتبع الخطاب
الرسمي الصادر عن مؤسسات الدولة الصهيوني والمسئولين فيها، واستنباط سلوكها الناتج
عن العمليات العسكرية للجيش الصهيوني.
ففي 2 مارس الماضي أي منذ خمسة أسابيع، صرّح وزير خارجية الكيان الصهيوني جدعون
ساعر، بأن النظام السوري لم يُنتخب من قبل شعبه، بل هو مجموعة من الجهاديين الذين
سيطروا على إدلب، ثم اجتاحوا دمشق وبقية المناطق بالقوة. ليس لهم الحق في اضطهاد
الأقليات كالدروز، والأكراد، أو العلويين.
الخلاصة أن تغيير النظام السوري أقلق حكومة نتانياهو من وجهين:
الأول صعود مجموعة إسلامية سنية لحكم بلد متاخم للكيان الصهيوني، وما يمثله ذلك من
خوف صهيوني عميق من تكرار حرب طوفان الأقصى، وهجمات السابع من أكتوبر، والتي قادتها
حماس، وهي أيضًا مجموعة إسلامية سنية على غرار هيئة تحرير الشام، وكما ادعت بعض
قيادات حماس قبل الطوفان أن هدفها يتركز على رفاهية مواطنيها وإيجاد فرص عمل ورغبة
في إدخال استثمارات في غزة، الأمر الذي انخدعت به القيادات الأمنية الصهيونية،
وتجاهلت التدريبات القاسية والجدية والتي كانت تجريها كتائب السام على اقتحام غلاف
غزة، فإن القيادات الصهيونية ترى أنها تعلمت الدرس، ولن يغرها تصريحات القيادات
السورية الجديدة، من أنهم يريدون تصفير المشكلات مع الجيران، وأن ما يشغلهم هو
النهوض بالدولة السورية تنمويًا واقتصاديًا.
|
ومما يفاقم التخوف الصهيوني من تمدد النفوذ التركي في المنطقة، هو مسارعة
لبنان الرسمية إلى الاحتماء بالنفوذ التركي فور سقوط نظام الأسد، والطلب
منه معاونتها على كبح جماح الكيان الصهيوني |
أما الأمر الثاني الذي أقلق الكيان من التغيير الذي حدث في نظام الحكم السوري، هو
تمدد النفوذ التركي واقترابه المباشر من حدود دولة الكيان لأول مرة في تاريخه، خاصة
أن تصريحات المسئولين الأتراك وتحركاتهم تتسم كما يراها الكيان بالعداء، خاصة في
حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على غزة. فالمسئولون الصهاينة يخشون من أن
الوجود العسكري التركي في وسط سوريا، سيكون بداية مساومة تركية للكيان العنصري على
ضمهم للجولان السوري وعلى حملة إبادتهم لغزة.
والأتراك وفقًا للرؤية الصهيونية لديهم تاريخ قريب في تلك المساومات والتدخل الناجح
في النزاعات الإقليمية والدولية.
ففي أذربيجان ساعد الأتراك جيشها على انتزاع أراضيهم التي احتلتها أرمينيا في إقليم
ناغورني كاراباخ ذات الأغلبية الآذرية، والتي ظلت أرمينيا تحتله لأعوام طويلة، كذلك
كان تدخلهم حاسمًا في ليبيا لمساندة حكومة السراج المعترف بها دوليا، فكان التعاون
العسكري الليبي التركي حاسمًا في منع قوات حفتر المنشق من دخول طرابلس بمعاونة من
الفاغنر الروسي وبعض الدول الإقليمية، كما طاردت المسيرات التركية تلك القوات حتى
أخرجتهم من الغرب الليبي كله، وتمكنت من تحرير أكبر قاعدة ليبية التي كان يحتلها
الروس وهي قاعدة الوطية.
وحتى في النزاع الدولي في أوكرانيا، فقد تمكنت المسيرات التركية البيرقدار من إيقاف
تقدم القوات الروسية في الأيام الأولى من الحرب، وذلك عندما أرادت روسيا حسم الحرب
في بداياتها بتقدم أرتال دباباتها ومدرعاتها إلى كييف واحتلالها، ولكن البيرقدار
التركي قصفت هذه الأرتال ومنعتها من احتلال العاصمة.
ومما يقلق الكيان الصهيوني، أن التدخل التركي في هذه النزاعات لم يكن عسكريًا
خالصًا، بل مزج الدبلوماسية والسياسة بالحسم العسكري، واختياره التوقيت الملائم
بدون الاصطدام بقواعد اللعبة الدولية والإقليمية وبأقل تكلفة وخسائر، وهذا ما يعطي
التدخل زخمه وديمومته.
ومما يفاقم التخوف الصهيوني من تمدد النفوذ التركي في المنطقة، هو مسارعة لبنان
الرسمية إلى الاحتماء بالنفوذ التركي فور سقوط نظام الأسد، والطلب منه معاونتها على
كبح جماح الكيان الصهيوني،
وذلك عندما زار رئيس الوزراء اللبناني أنقرة، ليعلن من هناك عن بدء مرحلة جديدة من
العلاقات الثنائية بين البلدين.
يعبر المحلل العسكري الأبرز رون بن يشاي في مقال مطول له في صحيفة يديعوت أحرنوت،
عن قلق المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مما وصفه بمحاولة تركيا ملء الفراغ الناتج عن
تفكك نظام بشار الأسد، وتقديم نفسها كقوة مهيمنة بديلة في سوريا، عبر تشكيل "محور
إسلامي سني" ليحل محل "المحور الشيعي بقيادة إيران".
لذلك حرص الكيان الصهيوني على إرسال رسالة واضحة لتركيا عبر سلسلة هجمات جوية
مركّزة شنّها سلاح الجو الصهيوني الأسبوع الماضي، استهدفت 4 قواعد جوية عسكرية
سورية، أبرزها مطار "تي 4" في محافظة حمص، وذلك بزعم نية تركيا إدخال أنظمة رادارات
ودفاعات جوية إلى هذه القواعد.
|
تنحصر
المصالح الأمريكية في ثلاثة أمور:
مكافحة الإرهاب، وأمن الكيان الصهيوني، والهيمنة ومنها الاقتصاد والقواعد
العسكرية واستخدام توسيع تمركز قواتها في المنطقة كوسيلة ردع، تحرزا من
تجاوز القوى الدولية الأخرى
|
وقد جاء هذا التحرك بعد يوم واحد فقط من تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال
فيها: "ندعو الله أن يقهر الكيان الصهيوني الظالم".
وتزامن الرد الصهيوني مع تحذيرات مباشرة أطلقها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل
كاتس للرئيس
السوري أحمد الشرع، فيما بدا وكأنه يحمّل دمشق مسؤولية أي تموضع لقوات معادية لدولة
الاحتلال على الأراضي السورية.
الدور الأمريكي
هل سيكون الموقف الأمريكي حاسمًا في وقف الصراع التركي الصهيوني على سوريا، سواء
بترجيح نفوذ أحد الأطراف على آخر، أو جعل الصراع بينهما ليس صفريًا، يل يأخذ كل طرف
بعض ما يريده؟
لكي نستطيع الإجابة على هذا السؤال، لابد من معرفة المصالح الأمريكية في سوريا.
سوريا جزء من منطقة الشرق الأوسط، حيث
تنحصر المصالح الأمريكية في ثلاثة أمور:
مكافحة الإرهاب، وأمن الكيان الصهيوني، والهيمنة ومنها الاقتصاد والقواعد العسكرية
واستخدام توسيع تمركز قواتها في المنطقة كوسيلة ردع، تحرزا من تجاوز القوى الدولية
الأخرى
دورها ونفوذها، أو لمواجهة صعود قوة إقليمية مناوئة للنفوذ الأمريكي.
فالأمريكان ليست لهم مصالح اقتصادية في سوريا، فثرواتها محدودة مقارنة بأوكرانيا،
حيث تتطلع الولايات المتحدة للاستحواذ على ثروات ضخمة.
إذن تنحصر المصلحة الأمريكية في سوريا، في محاربة ما تطلق عليه الإرهاب حيث اتخذت
من وجود داعش حجة، وفي نفس الوقت فإن أمن الكيان الصهيوني موجود في العقلية
الاستراتيجية الأمريكية.
وللحفاظ على هذه المصالح، تتمركز القوات الأمريكية في سوريا في 17 قاعدة و13 نقطة
عسكرية، وفق دراسة صادرة عن مركز جسور للدراسات، نُشرت في يوليو 2024، سُجلت فيها
نقاط الوجود العسكري الأجنبي في سوريا، وتم الاقتصار على إحصاء القواعد والنقاط
الثابتة، التي تمارس فيها تلك القوات قيادة وصلاحيات كاملة، دون حواجز التفتيش
والنقاط المتحركة والمؤقتة.
وتنتشر معظم تلك القواعد والنقاط، بحسب الدراسة، في المنطقة الشمالية الشرقية من
سوريا، وتعتبر تلك المواقع قواعد ارتكازية، مهمتها دعم قوات سوريا الديمقراطية في
عملياتها العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ولكن العقلية الأمريكية الاستراتيجية تلك، لا يراها ترامب موجهة لسياساته في
العالم، إنما توجهه عقلية رجل الأعمال الذي يبحث عن صفقات يحل بها مشاكله. ويرى في
المصلحة الاقتصادية الأمريكية المباشرة هي العامل الأهم الذي يجب أن تسلكه أمريكا
في العالم.
لذلك أراد ترامب في ولايته الأولى سحب قواته من سوريا، فاصطدم حينها بوزارة الدفاع،
حيث استقال وزيرها احتجاجًا على نية ترامب بسحب قواته، بينما وقفت القيادات
العسكرية الأمريكية في وجه ترامب ومنعته من تنفيذ نيته تلك.
وفي أعقاب سقوط نظام الأسد، عاد التباين في المواقف بين الرئيس الأميركي دونالد
ترامب الذي لم يكن حينها قد استلم الرئاسة بعد وبين البنتاغون حول سوريا، فغرد
ترامب على منصة إكس، أن سوريا ليست دولة صديقة، وعلى الولايات المتحدة ألا تتورط في
معركة ليست معركتها، بينما في الوقت نفسه، أكدت وزارة الدفاع الأمريكية
(البنتاغون)، أن مهمة القوات الأمريكية لم تتغير وما تزال تركز على هزيمة تنظيم
الدولة الإسلامية، وأن الولايات المتحدة ستتخذ الخطوات اللازمة لحماية أفراد خدمتها
المنتشرين في المنطقة.
لذلك فور استلام ترامب لمنصبه في البيت الأبيض، سارع إلى تعيين وزير دفاع متفهم
لأفكار ترامب ويدين بالولاء المطلق له، كما أقال رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش
الأمريكية واختار قيادة خاضعة لأوامره.
وبذلك استتب الأمر لترامب لتنفيذ حلمه بالانسحاب من سوريا.
لكن الكيان الصهيوني عبر لوبياته نجح في إقناع أمريكا، بأن الانسحاب الأمريكي من
سوريا سيفتح الباب أمام تركيا لتوسيع نفوذها على حساب أمن الدولة الصهيونية.
بينما تسعى تركيا من جهتها لإقناع ترامب بالانسحاب، وأن الدولة السورية الجديدة
ستتولى ملف داعش، وأن نظام الشرع ليس في حالة عداء آنية مع الكيان الصهيوني،
فالتحديات الداخلية والخارجية كبيرة أمامه، وأن وجوده سيمنع عودة النفوذ الإيراني
للمنطقة.
ويبدو أن ترامب أكثر ميلا للرأي التركي لاعتبارين:
الاعتبار الأول: حاجة ترامب لأردوغان في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، وهي
الاهتمام الأول لترامب، فأردوغان يتمتع بعلاقات جيدة مع كل من الرئيس الأوكراني
زيلينسكي والرئيس الروسي بوتين، فهما ينظران للموقف التركي بموقعها وتحكمها في
مضايق البحر الأسود، كعنصر استراتيجي حاسم، ولذلك تعمل كل من أوكرانيا وروسيا على
استرضاء تركيا.
أما الاعتبار الثاني، فهو شخصي حيث ينظر ترامب بتقدير وانبهار إلى شخصية أردوغان،
وقد صرح بذلك عدة مرات، وآخرها كان أثناء المؤتمر الصحفي إلى عقده مع رئيس وزراء
الكيان الصهيوني نتانياهو في زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض.
فقد قال ترامب: إنه يتمتع بعلاقات جيدة جدًا مع أردوغان، وأردف: "لدي علاقات جيدة
جدًا مع رجل يدعى أردوغان. أعلم أن الصحافة غاضبة مني لهذا السبب، لكنني أحبه، وهو
يحبني أيضا، وليست هناك أي مشاكل بيننا".
وأضاف: "أردوغان رجل قوي وذكي للغاية، فعل شيئًا لا يمكن لأحد أن يفعله في سوريا،
يجب الإقرار بذلك".
وردا على تصريحات نتنياهو بوجود مشاكل مع تركيا في سوريا، قال ترامب مخاطبا
نتنياهو: "أعتقد أنه يمكنني حل كل مشكلة لديك مع تركيا بخصوص سوريا. طالما أصبحت
معقولا، يجب أن تكون أنت ونحن معقولين في هذا الشأن.
لذلك يبدو أن تقاسم المصالح بين الكيان الصهيوني وتركيا في سوريا، سيكون العامل
الأكثر احتمالا في الفترة القادمة.