• - الموافق2025/03/09م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾

لا خسران أفدح من خسارة من نسي ربه عز وجل، وشغل بدنياه عن آخرته، ولم يتفكر في مصيره بعد موته، وهي خسارة لا توازيها أي خسارة مهما عظمت؛ لأنها تحل بصاحبها شقاء أبديا، وعذابا سرمديا، فلا فرصة أخرى يعوض فيها


الحمد لله الذي شرع للمؤمنين عبادات تقربهم إليه، وتحببهم فيه، وجعل لهم مواسم من الخير تذكرهم إذا نسوا، وتنبههم إذا غفلوا، وتزيل قسوة قلوبهم، وتجلو صدأ نفوسهم، وتحلق بهم عن دنايا الدنيا إلى درجات الملكوت الأعلى، نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يفرح بقدوم رمضان، ويبشر أمته فيه بالرحمة والغفران، ويدلهم على الأعمال التي تستوجب العتق من النيران، والفوز برضا الرحمن، والخلود في الجنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأنتم تنتظرون دخول هذا الشهر الكريم، وجددوا توبتكم، وانتهوا عن معاصيكم، وأزيلوا ضغائنكم، واسعوا في صلاح قلوبكم؛ فإن الربح في رمضان عظيم لمن وفقه الله تعالى فلزم الإيمان والتقوى، وأكثر من الأعمال الصالحة، وأخلص لله تعالى في عمله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

أيها الناس: لا خسران أفدح من خسارة من نسي ربه عز وجل، وشغل بدنياه عن آخرته، ولم يتفكر في مصيره بعد موته، وهي خسارة لا توازيها أي خسارة مهما عظمت؛ لأنها تحل بصاحبها شقاء أبديا، وعذابا سرمديا، فلا فرصة أخرى يعوض فيها ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15].

وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بمن نسوه سبحانه ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]؛ وذلك لأن نسيان الله تعالى من صفات الكفار والمنافقين؛ كما قال تعالى مخبرا عنهم ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67].

وليس المراد بالنسيان هنا الذهول عن الشيء؛ لأن ذلك من طبيعة البشر والله تعالى لا يعاقبهم عليه، كما قال تعالى مخبرا عن دعاء المؤمنين أنهم قالوا ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: «قد فعلت»، وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» رواه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ» رواه الشيخان.

وإنما المراد بالنسيان في الآية الإعراض أو الإهمال وعدم المبالاة، فهو تناسي دين الله تعالى، وهو أنواع كثيرة، منها: العيش المجرد للدنيا، وعدم التفكير في الموت وما بعده؛ تكذيبا بالبعث والجزاء، أو شكا فيهما، وهي طريقة الماديين في العيش للدنيا، وعدم الإيمان بالغيب؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]. ومن نسيان الله تعالى: ترك بعض أحكام الشريعة؛ لأنها لا توافق الأهواء؛ كما قال الله تعالى عن اليهود ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة: 13]، وقال سبحانه عن النصارى ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة: 14]، ومما نسوه، أي: أهملوه وتركوه ما أمرتهم به كتبهم من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. فترك شيء من شريعة الله تعالى يدخل في نسيان العبد لربه سبحانه وتعالى.

وكل من امتنع عن شيء من دين الله تعالى، أو جحده، أو أعرض عنه ولم يرفع به رأسا؛ فإنه قد نسي الله تعالى، وفي أهل البدع من نسيانهم لله تعالى بقدر بدعهم، وإلا لو تذكروا ربهم سبحانه لما أحدثوا في دينه ما لم يأذن به. وفي أهل المعاصي من نسيانهم لله تعالى بقدر معاصيهم؛ وإلا لو تذكروا ربهم سبحانه لما بارزوه بالعصيان، وفي المقصرين في الفرائض المهملين لها من نسيانهم لله تعالى بقدر تقصيرهم وإهمالهم؛ وذلك أن الطاعات من ذكر الله تعالى، فالمهمل لها مهمل لذكره عز وجل. وفي أهل الغفلة من نسيانهم لله تعالى بقدر غفلتهم، ولا سيما إذا شغلوا بدنياهم، واستولت على قلوبهم، وقضوا في اللهو بها جل أوقاتهم، وكان حظهم من دين الله تعالى فرائض منقوصة، ونوافل متروكة، وقرآن مهجور؛ ففيهم نسيان كثير، وغفلة كبيرة.

وعقوبات نسيان الله تعالى شديدة أليمة، وهي عقوبات دنيوية وأخروية؛ فأما العقوبات الدنيوية فالعذاب المعجل، والهلاك المحقق، والذل بعد العز، والقلة بعد الكثرة، والخوف بعد الأمن، والفقر بعد الغنى؛ كما قال الله تعالى ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]، وقال تعالى ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 165].

ومن العذاب الدنيوي: أن الله تعالى يُنسي العبد نفسه؛ فلا يسعى في مصالحه، ولا يميز ما يضره مما ينفعه، فيسعى في تدمير نفسه وهو يظن أنه يصلحها؛ كما يقول الناس: فلان جعل الله تدميره في تدبيره، وهذا هو الخذلان، وهو من نسيان الله تعالى للعبد، أي: تركه بلا توفيق ولا تسديد، نعوذ بالله تعالى من ذلك.

ومن آثار أن الله تعالى أنساهم أنفسهم: أنهم بلغوا الغاية في الفسق نعوذ بالله تعالى من ذلك ﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19].

أما العذاب الأخروي لمن نسي الله تعالى؛ فإن الله تعالى ينساه ويتركه ويهمله يوم القيامة؛ فتكون النار مثواه، نعوذ بالله تعالى من ذلك ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 51]، وفي آية أخرى ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 124-126].

وحين يقدم المشركون على ربهم يوم القيامة للحساب يتبرأ المعبودون منهم، ويبينون أن سبب شركهم إعراضهم عن دين الله تعالى، وما أنزل من الذكر، وهو نسيانهم لدينهم ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: 17-18]. فأنساهم شغلهم في الدنيا وملذاتها دين الله تعالى، فأهملوه وتركوه وأعرضوا عنه، فكانت نتيجة ذلك يوم القيامة أنهم كانوا قوما بورا: «أي: بائرين لا خير فيهم، ولا يصلحون لصالح، لا يصلحون إلا للهلاك والبوار».

نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم، ونسأله الاستقامة والثبات إلى الممات، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأسغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: ينبغي للمؤمن أن يكون دائم المحاسبة لنفسه؛ لئلا ينسى شيئا مما أمره الله تعالى، أو يقع في شيء مما نهاه عنه، وإذا عمل طاعة أثبتها ولم يتركها، وأن يكون يومه خيرا من أمسه، وغده خيرا من يومه، وكلما تقدم به العمر ازداد من الأعمال الصالحة؛ فهذا دليل على تذكره الدائم لله تعالى وللدار الآخرة وعدم نسيانه، قال عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» رواه الشيخان. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يشابهه في ترك طاعة كان يعملها؛ لأن ذلك من نسيان الله تعالى.

ونحن على أبواب رمضان، وهو نعمة من الله تعالى امتن بها علينا؛ لأن ما شرع فيه من أعمال صالحة تذكرنا ربنا سبحانه وتعالى؛ حتى إن المقصرين في الفرائض يداومون عليها، والهاجرين للمصاحف يعودون إليها، وتمتلئ المساجد بالمصلين، فهو تذكير بالله تعالى في كل شعائره:

فالصوم: تعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات في وقت محدد، ولا يعلم عن صومه إلا الله تعالى؛ ففيه مراقبة لله تعالى، ومن راقب الله تعالى فحري أن يذكره ولا ينساه، ويذكر العباد بنعمة الله تعالى عليهم بالطعام والشراب، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي» رواه الشيخان.

وفي رمضان يكثر الصائم من قراءة القرآن، ويتبع الختمة الختمة حتى ينتهي الشهر، ويحضر الصائمون صلاة التراويح فينصتون للقرآن وهو يتلى في المساجد، وآياته تذكرهم بالله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأفعاله الحكيمة، وتذكرهم بآياته ومخلوقاته، وتذكرهم بوعده ووعيده، وبالجنة وما فيها من النعيم المقيم، وبالنار وما فيها من العذاب الأليم، وهذا التذكير يحيي القلوب، ويعلق أهل القرآن بالله تعالى، فيكونون أبعد ما يكونون عن نسيان الله تعالى، ونسيان ما يجب له من العبودية والامتثال. وحري بشهر كريم هذا أثره في أهل الإيمان أن يفرحوا بقدومه، وأن يحسنوا استقباله، وأن ينووا الجد والاجتهاد فيه، وأن يفوا بما وعدوا الله تعالى؛ ليكونوا من الذاكرين الشاكرين ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

أعلى