• - الموافق2025/03/09م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ما الذي تسعى إليه إسرائيل في سوريا؟

لم تكن سوريا عبر التاريخ كيانًا يمكن احتواؤه بسهولة؛ فهي دولة تقع على مفترق طرق استراتيجي، وكل محاولة لإعادة تشكيلها وفق مقاييس القوى الإقليمية والدولية كانت تصطدم بواقع جيوسياسي شديد التعقيد


منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011م، أصبحت سوريا بؤرة لصراعات إقليمية ودولية معقدة، حيث تداخلت أجندات القوى الكبرى والإقليمية في محاولة لفرض نفوذها على المشهد السوري المتغير. في هذا السياق، كان لإسرائيل حضورها الخاص، الذي وإن بدا في الظاهر خفيًا أو غير مباشر، إلا أنه في الواقع كان واضحًا من خلال سلسلة من الضربات الجوية، والتحركات الاستخباراتية، والتوغل الأخير بمجرد سقوط نظام بشار الأسد، والرهانات الاستراتيجية التي تهدف إلى تحقيق مصالحها الأمنية والسياسية، لكن يبقى السؤال الجوهري: كيف شكّل الوجود الإسرائيلي في سوريا عنصرًا مؤثرًا في مسار الأحداث؟، وما الأهداف الحقيقية التي تسعى إليها تل أبيب من تدخلها العسكري والاستخباراتي؟، وما مدى تأثير ذلك على مستقبل سوريا والمنطقة بشكل عام؟، وما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل هذا الدور في ظل المشهد السياسي والعسكري القائم؟

طبيعة التوغل

لطالما نظرت إسرائيل إلى سوريا بوصفها ساحة استراتيجية تؤثر على أمنها القومي، ليس فقط بسبب الحدود المشتركة في الجولان المحتل، وإنما أيضًا بسبب النفوذ الإيراني المتنامي هناك، والذي تعتبره تل أبيب تهديدًا وجوديًا يجب التعامل معه بكل الوسائل الممكنة. هذا الحضور الإسرائيلي ـ وإن كان محكومًا بحسابات معقدة ـ إلا أنه فرض نفسه كلاعب رئيسي في معادلات الصراع السوري، في ظل توازنات قوى متغيرة وصراع مصالح مستمر بين القوى الدولية والإقليمية.

لم يقتصر الوجود الإسرائيلي في سوريا على مجرد رصد التطورات أو اتخاذ موقف المراقب الحذر، بل كان نشاطها هناك مزيجًا من الضربات الجوية الموجهة، والعمليات الاستخباراتية المعقدة، والتدخل غير المباشر عبر دعم بعض القوى المحلية، بما يخدم أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، ويمكن تصنيف طبيعة هذا الوجود إلى ثلاث مستويات رئيسية:

 

لم تعد إسرائيل تكتفي بالدفاع عن أمنها القومي فقط، بل باتت تسعى إلى ترسيخ موقعها كلاعب رئيسي في معادلة الشرق الأوسط، عبر توظيف تدخلها في سوريا لإعادة صياغة توازنات القوى الإقليمية

* القصف الجوي والاستهدافات النوعية

منذ عام 2013م، اتبعت إسرائيل استراتيجية الضربات الاستباقية داخل سوريا، حيث شنت مئات الغارات الجوية على مواقع عسكرية تابعة لإيران وحزب الله، إضافة إلى بعض المواقع التابعة للجيش السوري، بزعم أنها تحتوي على أسلحة أو معدات تشكل خطرًا على أمنها. وقد تميزت هذه العمليات بالدقة في الاستهداف؛ حيث اعتمدت إسرائيل على معلومات استخباراتية دقيقة لتحديد الأهداف، وكانت تستخدم أسلحة متطورة لضربها بدقة متناهية، بما يضمن تقليل الخسائر الجانبية وعدم استثارة ردود فعل دولية قوية ضدها، ولعل أبرزها مع روسيا التي كانت تملك وجودًا عسكريًا كبيرًا في سوريا، إلا أن إسرائيل تمكنت من تنفيذ ضرباتها الجوية دون تصعيد مباشر مع موسكو، وذلك بفضل آلية "عدم التصادم" التي تم التفاهم عليها بين الطرفين، وكان ملحوظًا أيضًا أن الضربات الإسرائيلية تتسم بالتكرار والاستمرارية؛ فلم تكن هذه الضربات مجرد عمليات معزولة، بل جاءت ضمن استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى شل قدرات إيران وحزب الله في سوريا، ومنع نقل الأسلحة المتطورة إليهما.

* النشاط الاستخباراتي والميداني

يُعد العنصر الاستخباراتي جزءًا أساسيًا من استراتيجية إسرائيل في سوريا، حيث يعتمد على أدوات متعددة، منها المراقبة الجوية والإلكترونية، حيث تستخدم إسرائيل طائرات بدون طيار وأنظمة تجسس متطورة لرصد التحركات العسكرية داخل سوريا، خصوصًا في المناطق الحدودية ومواقع التمركز الإيراني، وفي بعض الأحيان، قامت وحدات إسرائيلية بتنفيذ عمليات خاصة داخل الأراضي السورية، إما لاستهداف شخصيات قيادية، أو لجمع معلومات حساسة حول النشاطات العسكرية، كما سعت إسرائيل خلال سنوات الثورة السورية إلى خلق منطقة عازلة على الحدود الجنوبية، تقلل من خطر التهديدات المباشرة على أمنها.

* التدخل المباشر والتوغل

بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في ديسمبر 2024، قامت إسرائيل بتدخل عسكري مباشر في سوريا، متجاوزةً غاراتها الجوية المعتادة إلى عمليات برية واسعة النطاق، حيث عبرت قوات الاحتلال الإسرائيلي الحدود إلى داخل سوريا، مستهدفةً مناطق استراتيجية في محافظة القنيطرة، بالإضافة إلى الجانب السوري من جبل الشيخ حيث سيطرت على قمته التي تعدّ أعلى قمة في سوريا بارتفاع 2814 مترًا فوق سطح البحر، وتزامنًا مع هذا التوغل البري، شنت إسرائيل حملة جوية مكثفة، حيث استهدفت نحو 480 موقعًا في سوريا خلال 48 ساعة، مما أدى إلى تدمير ما بين 70% إلى 80% من الأسلحة الاستراتيجية السورية، بما في ذلك تدمير شبه كامل للقوات الجوية السورية والأسطول البحري السوري، وزعمت إسرائيل أن هذه العمليات تهدف إلى منع وصول الأسلحة المتقدمة إلى أيدي الجماعات المسلحة، خاصة تلك المدعومة من إيران، وضمان أمن حدودها الشمالية.

أبعاد استراتيجية

لا يمكن فهم الوجود الإسرائيلي في سوريا دون التطرق إلى الأهداف الاستراتيجية التي تسعى تل أبيب إلى تحقيقها من خلال تدخلها العسكري هناك، ويمكن تلخيص هذه الأهداف في عدة محاور رئيسية:

* تقليص النفوذ الإيراني

 

 إسرائيل تدرك أيضا أن أي سوريا موحدة ومستقرة، أياً كان شكل النظام الحاكم فيها، ستكون عقبة أمام مشاريعها الاستراتيجية، سواء من حيث استعادة التوازن الإقليمي أو من حيث إعادة فرض نفسها كدولة مركزية

كتب سقوط نظام الأسد شهادة وفاة الوجود الإيراني على الأراضي السورية، لكن بالرغم من ذلك كانت إسرائيل تخشى من عودة طهران بصورة أو بأخرى، كما أنها كانت تخشى ألا تنجح الثورة السورية في إتمام مهمة إسقاط النظام، وهو ما كان سيؤدي إلى عودة إيرانية أكثر شراسة، فإسرائيل تعتبر أن إيران تمثل التهديد الأخطر لأمنها القومي، ليس فقط بسبب دعمها لحزب الله، بل أيضًا لسعيها إلى بناء منظومة عسكرية متقدمة على الأراضي السورية، تتيح لها تشكيل جبهة قتال جديدة ضد إسرائيل. وفي هذا السياق، تبنت تل أبيب استراتيجية الاحتواء متعددة الأبعاد، والتي تقوم على استهداف القواعد العسكرية الإيرانية داخل سوريا، وتوجيه ضربات دقيقة ضد شحنات الأسلحة التي يتم نقلها إلى حزب الله، لا سيما الصواريخ والطائرات المسيّرة، كما ركزت إسرائيل على تقويض البنية التحتية اللوجستية للحرس الثوري الإيراني، من خلال استهداف مستودعات الأسلحة ومراكز القيادة والسيطرة، في محاولة لشل قدرة طهران على إدارة عملياتها في سوريا ومنعها من ترسيخ وجودها الاستراتيجي هناك.

* الحفاظ على التفوق العسكري

منذ عقود، تبنّت إسرائيل مبدأ التفوق العسكري النوعي لضمان قدرتها على فرض معادلات الردع في المنطقة. وقد دفعها هذا المبدأ إلى تطوير قدراتها الدفاعية والهجومية، بما يتيح لها التفوق في أي مواجهة محتملة. في هذا الإطار، لا يقتصر التدخل الإسرائيلي في سوريا على تحجيم الخصوم، بل يمتد إلى اختبار تقنيات قتالية حديثة، وتحسين أداء منظومات الدفاع الجوي والصاروخي مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود"، وتوسيع نطاق استخدام الطائرات المسيّرة في تنفيذ عمليات دقيقة، وهو ما يمنحها قدرة غير مسبوقة على مراقبة مسرح العمليات والتعامل مع أي تهديدات قبل تحولها إلى مخاطر فعلية.

* استباق أي تهديدات محتملة

تدرك إسرائيل أن الجمود في التعامل مع التهديدات الإقليمية قد يكلفها خسائر استراتيجية، ولذا اعتمدت نهج الضربات الاستباقية، الذي يسمح لها بتوجيه رسائل ردعية واضحة لخصومها. فبدلًا من انتظار اكتمال التهديد، تعمل على تقويضه في مراحله المبكرة، عبر استهداف منشآت تطوير الأسلحة ومواقع تخزين الصواريخ، فضلًا عن تنفيذ عمليات نوعية لإضعاف القيادات العسكرية التابعة لمحور المقاومة. كما تستفيد تل أبيب من تفوقها الاستخباراتي، عبر توظيف شبكة من العملاء وتقنيات الرصد المتطورة، لضمان تنفيذ ضرباتها بأكبر قدر من الدقة.

* تحصين الجبهة الشمالية

تسعى إسرائيل إلى تحويل الجولان السوري المحتل إلى منطقة عازلة تمنع أي تهديد مباشر من الوصول إلى حدودها، وهو ما يفسر تكثيف عملياتها العسكرية في الجنوب السوري، خاصة في محافظتي القنيطرة ودرعا، وتعمل تل أبيب على فرض قواعد اشتباك جديدة، تقوم على منع تموضع أي قوات غير سورية في هذه المناطق، خصوصًا الميليشيات الإيرانية، حتى لو تطلب ذلك التدخل البري المحدود.

* تعزيز النفوذ الإقليمي

لم تعد إسرائيل تكتفي بالدفاع عن أمنها القومي فقط، بل باتت تسعى إلى ترسيخ موقعها كلاعب رئيسي في معادلة الشرق الأوسط، عبر توظيف تدخلها في سوريا لإعادة صياغة توازنات القوى الإقليمية. فمن خلال استعراض قوتها العسكرية وفرض معادلات ردع جديدة، ترسل تل أبيب رسائل مباشرة إلى خصومها، مفادها أن أي محاولة للإخلال بالتوازنات القائمة ستواجه بردع حاسم. كما أن نجاحها في تنفيذ عمليات دقيقة داخل سوريا يعزز من موقعها التفاوضي على المستوى الدولي، ويدعم علاقاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى، التي ترى في إسرائيل شريكًا لا غنى عنه في إدارة الملفات الأمنية الحساسة في المنطقة.

تبعات وانعكاسات

لقد بات التدخل الإسرائيلي في سوريا أحد العوامل الأكثر تعقيدًا في المشهد الإقليمي، فمع سقوط نظام الأسد، لم تعد المسألة مجرد عمليات عسكرية متفرقة، بل تحولت إلى إعادة رسم لخرائط النفوذ، وإعادة تشكيل لدوائر الصراع التي ستحدد مستقبل المنطقة لعقود قادمة. والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه: كيف سيؤثر هذا التوغل الإسرائيلي في سوريا على شكل الدولة السورية، وعلى المعادلات الإقليمية والدولية التي تحكمها؟

لم تكن سوريا عبر التاريخ كيانًا يمكن احتواؤه بسهولة؛ فهي دولة تقع على مفترق طرق استراتيجي، وكل محاولة لإعادة تشكيلها وفق مقاييس القوى الإقليمية والدولية كانت تصطدم بواقع جيوسياسي شديد التعقيد، سقوط الأسد فتح الباب أمام مرحلة جديدة، حيث تتداخل المصالح الإسرائيلية مع حسابات دولية أخرى، أبرزها التحركات الروسية، والتوازنات التركية، والمصالح الأمريكية المتأرجحة، هذا المشهد الفوضوي قد يجعل سوريا ساحة مفتوحة لا لحرب تقليدية، بل لحرب باردة جديدة بين أطراف تسعى لتعزيز وجودها على الأرض، ولا شك أن تدخل إسرائيل سيأخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا في المرحلة المقبلة، حيث لم يعد يقتصر على ضربات جوية متفرقة، بل قد يتطور إلى تعزيز مناطق نفوذ إسرائيلية داخل العمق السوري، إما عبر دعم قوى محلية، أو من خلال خلق واقع أمني جديد يسمح لها بتوسيع نطاق سيطرتها في الجنوب السوري.

إسرائيل تدرك أيضا أن أي سوريا موحدة ومستقرة، أياً كان شكل النظام الحاكم فيها، ستكون عقبة أمام مشاريعها الاستراتيجية، سواء من حيث استعادة التوازن الإقليمي أو من حيث إعادة فرض نفسها كدولة مركزية، لذلك فإن استراتيجيتها تتجه نحو إضعاف الدولة السورية ومنع إعادة بنائها على أسس صلبة، هذا قد يُترجم في المستقبل عبر استمرار استهداف البنية التحتية العسكرية، وضرب محاولات إعادة بناء الجيش السوري، ودعم كيانات سياسية أو عسكرية تضمن بقاء سوريا في حالة تفكك وظيفي، أشبه بالنموذج اللبناني أو العراقي. بهذا، تسعى إسرائيل إلى جعل سوريا كيانًا غير قادر على فرض أي تهديد مستقبلي، سواء عبر جيش نظامي أو من خلال تحالفات مع قوى إقليمية منافسة.

التدخل الإسرائيلي في سوريا أيضًا لا ينفصل عن المشهد الأوسع للصراعات الإقليمية، إذ ستجد الدول الإقليمية نفسها مضطرة للتكيف مع واقع جديد تفرضه إسرائيل كلاعب أساسي، أما إيران التي كانت تراهن على سوريا كقاعدة متقدمة لها اضطرت مجبرةً إلى تقليص وجودها العسكري والاكتفاء بأدوار غير مباشرة، وهو ما قد يدفعها إلى تصعيد أنشطتها في مناطق أخرى لتعويض خسائرها، سواء في العراق أو لبنان أو اليمن، ومن ناحية أخرى، فإن تركيا التي تساعد الحكومة السورية الجديدة قد تجد نفسها أمام تحدٍ جديد يتمثل في النفوذ الإسرائيلي المتزايد جنوبًا، مما قد يفتح المجال لصدامات غير مباشرة بين الطرفين، أما الدول العربية، فستكون في موقف حرج بين دعم استقرار سوريا كدولة، وبين القبول بواقع النفوذ الإسرائيلي المتزايد على الأرض، وإلى أن يحدث اختراق آخر لما هو كائن الآن على الأرض، فإن التدخل الإسرائيلي في سوريا سيظل عنصرًا يعيد رسم خرائط الصراع في الشرق الأوسط، وقد يحدد شكل التحالفات وتوازنات القوى لعقود قادمة.

أعلى