ما هي أبرز تخوفات الدولة التركية من وصول إسرائيل لسوريا واحتلالها، ولماذا تطلق التحذيرات من هذه الخطوة دون هوادة، وما هي أبرز التحركات التي تقوم بها لمواجهة مثل هذا السيناريو في حال حدوثه؟
وسط تسارع الأحداث الإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط على إثر عملية "طوفان
الأقصى" التي مر عليها عام كامل، ووسط المواقف العالمية التابعة لذلك لم تتوقف
التغييرات الجيوسياسية في المنطقة، وتركيا واحدة من هذه الدول التي تتأثر بهذه
التغييرات بحكم موقفها السياسي أولًا ثم بسبب موقعها الجغرافي الذي يجعلها قريبة من
الأهداف القادمة للاحتلال الإسرائيلي المتمثل في احتلال "سوريا"، وهو ما يؤثر على
الأمن القومي التركي بلا شك ويضعه في موضع الخطورة ويحتّم عليه الاستعداد
لسيناريوهات صعبة
تشبيهات وتلميحات للداخل
قبل عدة أشهر شبه الرئيس التركي "أردوغان"، المقاومة الفلسطينية في غزة بقوات
المقاومة الوطنية التركية "قواي ملليه -
Kuva-yi Milliye"،
التي كانت طليعة حرب الاستقلال، مؤكدًا أنها بمواجهتها العدوان الإسرائيلي فإنها
تدافع أيضًا عن الأناضول، ثم عاد مجددًا ليعلن أن النضال الملحمي الذي تخوضه حركة
المقاومة في غزة هو أيضًا من أجل تركيا.
هذا الإلحاح من أردوغان على توضيح نتائج صمود المقاومة في غزة على الأمن القومي
التركي، كان الغرض منه إيقاظ وتنبيه الرأي العام الداخلي بشكل أساسي، إلى ضرورة دعم
ومساندة تلك المقاومة.
|
من
المتوقع أن يهاجم تنظيم وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي
(YPG/PYD)، الذي يضم أكثر من 90 ألف مقاتل مزودين بأسلحة ثقيلة، تركيا بالوكالة عن
إسرائيل وأمريكا.
|
ومنذ اللحظات الأولى للعملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان، كان تحذير أردوغان
أعلى صوتًا وأكثر وضوحًا، مؤكدًا أن ذلك الهجوم البري لن يكون مشابهًا لأي احتلال
إسرائيلي سابق، مشيرًا إلى أن إسرائيل "تضع الأراضي التركية نصب عينيها بعد فلسطين
ولبنان".
الأخطار المتوقعة
في كلمته أمام البرلمان التركي في مطلع شهر أكتوبر الجاري قال أردوغان: "إن منطقة
(يايلاداغي -
(Yayladağı
الواقعة على الحدود التركية السورية، تبعد عن الحدود اللبنانية بنحو 170
كيلومترًا"، وذلك لتنبيه الرأي العام الداخلي إلى أن خطر العدوان على لبنان ليس
بعيدًا عن بلادهم.
تشير التقديرات التركية إلى أن المخطط الإستراتيجي الإسرائيلي، لن يتوقف عند حدود
المواجهة مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، أو مع حزب الله في
لبنان، بل ربما تنتقل المواجهات إلى الأراضي السورية، بزعم مواجهة الوجود العسكري
الإيراني والتنظيمات المرتبطة بها مثل "حزب الله"، ولن تتوقف عند حدود الهجمات
الجوية فقط كما هي الآن.
وكما حدث في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من قبل، قد يتكرر الأمر عقب
انسحاب تلك التنظيمات، فقد يتم ملء الفراغ بواسطة تنظيم وحدات الحماية الكردية (YPG)،
الفرع السوري لتنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK).
حلم الدولة الكردية
يبدو جليًا أن تنظيم وحدات الحماية الكردية (YPG)
الذي تم تأسيسه وتسليحه بواسطة الولايات المتحدة وإسرائيل في شرق نهر الفرات في
سوريا، والذي يرتبط بحزب العمال الكردستاني (PKK)،
سيُستخدم كقوة تابعة لوهم الأرض الموعودة الذي تطمح إليه إسرائيل، وهو ما أشار إليه
أردوغان في خطابه في البرلمان قائلًا: "نرى بوضوح كيف يريدون إنشاء دويلات صغيرة
تابعة لهم من خلال استخدام التنظيمات الانفصالية كأداة في شمال العراق وسوريا"، مما
يؤكد على اعتباره تهديدًا مباشرًا لتركيا وأمنها القومي.
حسب المؤشرات والمعطيات الحالية لا يُتوقع أن تشن إسرائيل هجومًا مباشرًا على تركيا
-وخاصة أنها عضو في حلف الناتو- كما فعلت مع إيران وسوريا ولبنان، إلا أن هذا
التقدير مرهون بالمعطيات الحالية وقد يتغير حسب مجريات الأمور على الأرض وفي
الميدان لاحقًا.
لكن
من المتوقع أن يهاجم تنظيم وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي (YPG/PYD)،
الذي يضم أكثر من 90 ألف مقاتل مزودين بأسلحة ثقيلة، تركيا بالوكالة عن إسرائيل
وأمريكا.
خاصة أن هذا التنظيم -الذي يسيطر على منطقة محمية من قبل الولايات المتحدة على
الحدود السورية- ملتزم بالعمل وفق أوامر الولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك بسبب حلمه
بإقامة دولة كردية مستقلة في منطقة "روجافا" -وهي منطقة سورية تمتد في شمال وشرق
سوريا أُنشئ فيها حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع وتشمل أجزاءً من محافظات الحسكة
والرقة وحلب ودير الزور-، وبالتالي فإن هجوم هذا التنظيم على تركيا يُعتبر فرضية
محتملة بقوة على المدى القريب، ويرى أردوغان أن هذا التنظيم يخدم وهم الأرض
الموعودة لإسرائيل، وفي حال احتلت إسرائيل جزءًا من الأراضي السورية بعد لبنان،
فيمكننا توقع أن الجيش التركي سيتأهب للقتال على الفور.
مناورة سياسية تركية
في خطوة مفاجئة من دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية (MHP)
والحليف الأبرز للرئيس أردوغان وحزبه، فقد صافح رؤساء حزب (DEM
Party)
الذراع السياسي لأكراد حزب العمال الكردستاني في تركيا، وذلك خلال افتتاح البرلمان
التركي مطلع هذا الشهر بعد انتهاء إجازته الصيفية.
|
وأشار أردوغان إلى أن هناك خطة خبيثة
قيد التنفيذ ولن تقتصر على غزة والضفة الغربية ولبنان، وأكد على أنه لا ينبغي أن
يكون المرء منجمًا لمعرفة هدف هذه الخطة النهائي |
وفُسرت هذه المصافحة على أنها إشارة إلى احتمال استئناف عملية المصالحة التي توقفت
منذ عدة سنوات بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، وذلك على إثر تجدد أعمال
العنف التي نفذها عناصر حزب العمال الكردستاني حينها.
وأكد مسؤولو حزب الحركة القومية (MHP)
أن هذه الخطوة من شأنها أن تقود نحو تحقيق وحدة سياسية أكبر في تركيا، خصوصًا في ظل
التهديدات الأمنية المتزايدة في المنطقة.
ووصف أردوغان مصافحة بهتشلي لرؤساء حزب (DEM
Party)
بأنها خطوة إيجابية لتعزيز الديمقراطية في تركيا، مؤكدًا على أهمية عدم تجاهلها في
هذه المرحلة.
وبعد هذه المصافحة بأيام قلائل وجه "دولت بهتشلي"، دعوة لزعيم حزب العمال
الكردستاني، عبدالله أوجلان -المحبوس على ذمة قضايا تتعلق بالإرهاب-، بأن يعلن من
طرف واحد عن انتهاء الإرهاب وتصفية التنظيم دون قيد أو شرط؛ لإتمام المصالحة بشكل
نهائي.
وهو ما يعني أن الدولة التركية تسعى لحل الأمر بدايةً مع حزب العمال الكردستاني عبر
المفاوضات السياسية لكي تخفض من عدد خصومها في ظل التهديدات الأمنية على حدودها،
وأنها حال فشلت في تحقيق ذلك ستلجأ للحل العسكري والردع الفوري دون مزيد من
التفكير.
سايكس بيكو جديدة
بادر الرئيس التركي أردوغان بإطلاق عدة تصريحات تحذر من خطورة توسع إسرائيل في
المنطقة إذا لم يستطع أحد إيقافها، وتزامنت تصريحاته مع نشر عدد من المسؤولين
الإسرائيليين لخريطة "إسرائيل الكبري" التي تشمل أراضي تركية تضم بشكل رئيسي ولايات
جنوبية مثل هاتاي وأضنة ومرسين، وهو الأمر الذي جعل أردوغان يسارع بالتكشير عن
أنيابه وإظهار ردة فعل تجاه هذا التبجح الصهيوني.
ومن جملة التصريحات التي ذكرها أردوغان في معرض رده على إسرائيل خلال كلمة له في
فعالية "معرض تيكنوفيست للطيران والدفاع" بولاية أضنة جنوبي تركيا، قوله: "لا نحتاج
للتنجيم لمعرفة أهداف ومخططات إسرائيل، فنحن نعرف تفاصيل حديثهم عن (الأرض
الموعودة) التي لا تقتصر على فلسطين فقط، بل تهدد أراضي تركيا أيضًا وكل المنطقة..
المسؤولون الإسرائيليون ينشرون دون خجل هذه الخريطة المزعومة التي يسمونها (إسرائيل
الكبرى)".
وأشار أردوغان إلى أن هناك خطة خبيثة قيد التنفيذ ولن تقتصر على غزة والضفة الغربية
ولبنان، وأكد على أنه لا ينبغي أن يكون المرء منجمًا لمعرفة هدف هذه الخطة النهائي،
وتوعد أردوغان قائلًا: "لن نتغاضى عن تمزيق منطقتنا مجددًا عبر خطة تقسيمات (سايكس
بيكو) جديدة، فكلما اقتربت المنطقة من تحقيق وقف إطلاق النار وإحلال السلام، تقوم
إسرائيل (بعمل استفزازي ينسف المسار)، كما نواجه حالة جنونية تستمتع بقتل الأطفال
وهم في مهدهم، تزامنًا مع تواصل الدعم الغربي لشبكة القتل والمجازر الإسرائيلية".
أين النظام السوري من المشهد؟
منذ بدء العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة، أطلق حزب الله جبهة إسناده، وصدَّرت
طهران مواقف داعمة، وشرعت جماعة أنصار الله في اليمن في عمليات حصار اقتصادي لموانئ
الاحتلال عبر عملياتهم في البحر الأحمر، وتبنّت فصائل عراقية محسوبة على إيران عدة
هجمات ضد الاحتلال، بينما ظل النظام السوري شبه صامت حتى الآن.
ولذلك لم يكن مستغربًا أن يغيب ذكر القيادة السورية عن خطابات حركات المقاومة، فقد
ذكرتها حماس في بدايات الحرب ثم غيّبتها، وذكرها الأمين العام لحزب الله حسن
نصرالله مرة أو اثنتين فقط في مجمل خطاباته في السياق العام ثم غيّبها هو الآخر.
ويأتي هذا الصمت السوري في ظل تقارير تحدثت عن تهديدات "إسرائيلية" له، وتقديرات
أخرى عن تفاهمات أبرمها النظام مع الإدارة الأمريكية عبر وسطاء لضمان مستقبله مقابل
حياده في هذه الحرب، وثالثة عن خلافات مع إيران على خلفية الاغتيالات المتكررة
لقياداتها على أراضيه.
ويبدو أن النظام السوري قد اتخذ قرار تحييد نفسه عن الحرب القائمة والبقاء على
مسافة واضحة منها، رغبةً في مكسب أو تخوفًا من دفع ثمن، لكنه أخطأ التقدير، فالراجح
من التوقعات أن الحرب ماضية نحو التوسع لا التوقف، حيث إن نتنياهو ومعه المؤسسة
العسكرية والأمنية وحكومته لن يتوقفوا قبل الوصول لنقطة يستطيعون معها تقديم صورة
نصر للداخل "الإسرائيلي"، وهي نقطة ما زالت بعيدة جدًا في جنوب لبنان على أقل
تقدير.
ويؤكد احتمالية دخول إسرائيل إلى سوريا واحتلالها ثلاثة مؤشرات واضحة على أرض
الواقع، هي:
أولًا: أن الحرب البرية التي تراها إسرائيل ضرورية ضد حزب الله ستشمل "الجولان
السوري" المحتل، كمسار يمكن أن يجنب قواتها الغازية بعض الخسائر في كمائن الجنوب،
وقد يمثل ضغطًا إضافيًا وعامل مفاجأة لمقاتلي حزب الله.
وقد ظهرت بعض المؤشرات على ذلك من خلال تقدم قوات الاحتلال الأيام الماضية بضع مئات
من الأمتار في ريف القنيطرة الجنوبي، وتجريفها ثم ضمها عبر وضع سلك شائك حولها.
ثانيًا: أنه في حالة التصعيد المتوقعة بين إيران وإسرائيل فإن الأحداث بلا شك ستطال
الأراضي السورية ومواقع داخلها كما يحدث منذ سنوات، وقد تكرر الأمر كثيرًا خلال
الحرب الحالية مما يؤكد هذه الفرضية.
ثالثًا: أن إسرائيل تتحدث بشكل واضح ومعلن عن مواجهة جميع التهديدات وعن شرق أوسط
جديد سترسم خرائطه، ولا شك أن سوريا بالنسبة لإسرائيل أحد التهديدات من حيث كونها
جزءًا رئيسًا من محور "الدول المعادية" الذي أعلنه نتنياهو من منبر الأمم المتحدة
الشهر الماضي.
وما يؤكد تلك هذه المؤشرات والشواهد ما ذكره رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية
الإسرائيلية "عاموس يدلين" في مقال له مؤخرًا دعا عبره للتفكير في ضرب نظام الأسد
الذي يُعد بمثابة الجسر الأساسي للإمدادات العسكرية وتنامي حزب الله، ورأى عاموس
ضرورة تخييره بين الاستمرار في نفس النهج وتعريض بقائه للخطر أو إغلاق حدوده.
كلمة أخيرة
أصبح الرئيس التركي "أردوغان" يصرح بشكل يومي حول أطماع إسرائيل في المنطقة، ويشير
بوضح إلى أن تركيا وسوريا هما الهدفان التاليان بعد فلسطين ولبنان، محذرًا من
الإضرار بأمن بلاده القومي، ومتوعدًا بالجاهزية الكاملة لمواجهة كل السيناريوهات
المطروحة على أرض الميدان، ولكن المثير هنا في هذا الأمر أن بشار الأسد مازال
صامتًا لا يحرك ساكنًا ظنًا منه بأنه في مأمن مما سيجري بالمنطقة، وقد غفل عن أن
الحرب قد تختاره أحيانًا حتى وإن لم يخترها هو، أو ربما أقنع نفسه أنه سيعصم بلاده
من الطوفان القادم إليها لا محالة بجبل تفاهمات أو سفينة حماية، مع الأخذ في
الاعتبار أن هذا كله يحدث في ظل إدارة بايدن التي لا تكنّ لنتنياهو مزيد احترام ،
فكيف إن أتت الانتخابات الأمريكية المقبلة بترامب رئيسًا من جديد؟!