كان لتوحد الشام في مواجهة الصليبيين دورا محوريا في تحرير بيت المقدس، لذا فقد كان دخول المدينة سلما تحت راية نورالدين محمود، نقلة بعيدة في الاقتراب من تحقيق مشروع التحرير الكامل، وأولى خطوات النصر الكبير
عندما وطأت أقدام الصليبيين بلاد الشام والجزيرة الشامية في العقد الأخير من القرن
الخامس الهجري، كانت دمشق أتابكية (إمارة) مستقلة كغيرها من إمارات السلاجقة
المنتشرة في المشرق الإسلامي، وقتذاك.
وقد قام أمراء دمشق (البوريون)، بدور لا ينكر في مقارعة الصليبيين، وخاضوا ضدهم
العديد من المعارك، سواء بجيشهم وحدهم، أو بجانب جيوش الإمارات الإسلامية الأخرى في
الشام والجزيرة، وبخاصة إمارة الموصل التي تزعمت الجهاد ضد الصليبيين. ودمشق حاضرة
الشام وقلبها النابض، كما هو معروف، وهي ليست المدينة، فحسب، وإنما تشمل المدينة
وأعمالها، وبهذا المفهوم، اعتبرت منذ بداية الفتوحات الإسلامية "جندًا" من أجناد
الشام، وقاعدة أولى لها، ثم مركزًا لأجناد الشام الخمسة، منذ عهد عثمان.
ولكن دمشق، في ظل حكم البوريين، لم تقم بالدور القيادي المأمول منها، لكون حكامها
هؤلاء جعلوا الحفاظ على استقلال إمارتهم، شغلهم الشاغل، حتى ولو كان الثمن، عقد
الاتفاقيات مع مملكة بيت المقدس الصليبية المجاورة لهم،
سواء اتقاء لشرها، أو لمواجهة أمراء المسلمين الآخرين، وكان حكاّمها، بشكل عام، في
حالة دفاع، دون الهجوم، الأمر الذي كان يغري الصليبيين بغزوهم، ويزيد من طمعهم في
الاستيلاء على دمشق، ولم يكن هذا شيئًا جديدًا أو طارئًا عليهم، فقد كانت محط
اهتمامهم منذ البداية.
وهكذا راح خطر الصليبيين على دمشق يزداد يومًا بعد يوم، ولهذا فقد حاول عماد الدين
زنكي صاحب الموصل وحلب، ضمها إلى دولته سنة 534هـ، لمجابهة الامتداد الصليبي في
جنوب الشام، وللحيلولة بينهم وبينها، ولكن دون جدوى، فاكتفى بالاستيلاء على إحدى
أعمالها (بعلبك)، وأقطعها لنجم الدين أيوب، فلما اغتيل عماد الدين، سارع حاكم دمشق
بمهاجمتها، واضطر نجم الدين لتسليمها له مقابل إقطاعات أقطعه إياها في دمشق، فاستقر
نجم الدين منذ ذلك الحين في دمشق، وسيكون له دور في تسليمها لنور الدين، كما سيأتي.
نور الدين وجهاده ضد الصليبيين
ولما اغتيل عماد الدين سنة 541هـ، خلفه في حكم حلب ابنه نور الدين محمود
(511-569هـ)، وكان نور الدين ملازمًا لأبيه في معظم حروبه ضد الصليبيين، وورث عنه
حنكته وقوة شخصيته، كما ورث عنه سياسته الطموحة في إقامة جبهة إسلامية متحدة في
بلاد الشام والجزيرة، لمواجهة الصليبيين، ولأجل هذا كف نور الدين عن أخذ المكوس
والضرائب وقال: كيف ينصرنا الله عليهم ونحن نأخذهما من المسلمين، ثم دشن جهاده بشن
حملة على أنطاكية وقلاع شمال الشام، واسترد قلعة أفامية، وانتصر على الصليبيين في
معركة انّب سنة 544هـ، وقتل (البرنس) صاحب أنطاكية، وكان، كما قال ابن الأثير:
"عاتيًا من عتاة الفرنج وكان الخلاص منه إحدى أكبر الأمنيات".
|
لما
وصلت الحملة الصليبية الثانية سنة 543هـ، بقيادة اثنين من كبار ملوك
أوروبا: لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا، غيروا وجهتها
إلى دمشق، فقد كان الوصول إلى دمشق بالنسبة إليهم أملاً يستحق التضحيات |
واستطاع نور الدين بعد ذلك أن يأسر (جوسلين) كونت الرها، الذي قال عنه ابن الأثير
أيضًا: "كان أسره من أعظم الفتوح،
فإنه كان شيطاناً عاتياً من شياطين الإفرنج، شديد العداوة للمسلمين"،
وبأسره زال الخطر نهائيًا عن مدينة الرها.
وفي رمضان 549هـ، استرد نور الدين قلعة حارم، بعد معركة ضارية هزم فيها الصليبيين
شر هزيمة، وأسر فيها بيمند صاحب إمارة أنطاكية، والقمص صاحب إمارة طرابلس "وكان
شيطان الفرنج وأشدهم شكيمة على المسلمين"، كما قال ابن الأثير، وكذلك أسر (الدوك)
مقدم الروم، وابن جوسلين، وقتل وأسر ألوفًا مؤلفة من الفرنج، كما استرد نور الدين
تل باشر وقلعة بانياس والمنيطرة والعريمة وصافيتا وقلعة جعبر وغيرها، وانتزع سهول
كيليكيا من إمارة انطاكية، واسترد وحرر زهاء 50 موضعًا بين مدينة ومعقل وحصن، فضلاً
عن دوره المهم في هزيمة الحملة الصليبية الثانية على دمشق سنة 543هـ.
سياسة نور الدين تجاه دمشق
كانت إمارة دمشق عندما تسلم نور الدين حكم حلب بعد استشهاد والده سنة 541هـ، قد آلت
لمجير الدين أبق البوري، منذ سنة 534هـ، ولكن الحاكم الفعلي كان هو معين الدين أنر،
وكان مدبرًا أمينًا وسائسًا حكيمًا، فبادر نور الدين بالتواصل به، والتحالف معه، ثم
تزوج ابنته، وبذلك امتد نفوذه إلى دمشق، فاعتبر الصليبيون هذا التحالف تهديدًا
لوجودهم، لما يمثله نور الدين من خطر عليهم، ولما تمثله دمشق من أهمية بالنسبة
للشام وتحكمها في أجزاء كبيرة من شواطئ المتوسط، وكونها تواجه مملكة القدس الصليبية
مباشرة.
لما وصلت الحملة الصليبية الثانية سنة 543هـ، بقيادة اثنين من كبار ملوك أوروبا:
لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا، غيروا وجهتها إلى دمشق، فقد
كان الوصول إلى دمشق بالنسبة إليهم أملاً يستحق التضحيات، لأن الاستيلاء عليها،
يسمح لهم بقطع الاتصال نهائيًا بين المسلمين في مصر، وبين إخوانهم في شمال الشام
والمشرق، كما يوفر لهم الاستيلاء على البلاد الخصيبة ما بين فلسطين ودمشق (مرتفعات
الجولان، وسهول حوران، وبساتين الغوطة، الممتدة على مساحات كبيرة من شرقها إلى
غربها)، فضلاً عن الحيلولة بين نور الدين عدوهم اللدود، وبين الاستيلاء عليها،
ولكن حاكمها معين الدين، لم يألوا جهدًا في التصدي لهذه الحملة، ومعه "أحداث"
المدينة، وأهالي داريا والبلدات المجاورة، ولم يلبث نور الدين أن تحرك نحوها من
حلب، وأخوه سيف الدين غازي من الموصل، وكان لمشاركتهما في الدفاع عنها أبلغ الأثر
في فشل الحملة وانسحابها، وبعدها زادت شعبية نور الدين بين المسلمين، وصارت آمالهم
معقودة به لتحرير القدس والأقصى من الصليبيين.
انضمام دمشق للدولة النورية
ولكن بعد سنة من فشل الحملة الصليبية على دمشق، تُوفِّي معين الدين أنر، وآلت
الأمور لمجيرُ الدين أبق البوري، فبادر هذا بالتحالف مع مملكة بيت المقدس، ودفع لها
الإتاوة مقابل حمايته. وفي السنة نفسها هاجم الصليبيون حوران وقتلوا المسلمين وسبوا
النساء والأطفال، فتحرَّك نور الدين لنجدتهم، وأرسل رسالة من بعلبك لمُجير الدين،
يعلمه بذلك، فرد مجير الدين "ليس بيننا إلا السيف"، وهدده بالصليبيين، الأمر الذي
دفع نور الدين، للتحرك ومحاصرة المدينة (546هـ) لكنه انسحب بعد أسبوع بسبب الأمطار
الغزيرة، وفي 548هـ، انتزع الصليبيون عسقلان من يد العبيديين، ولم يستطع نور الدين
نجدتها، لأن إمارة دمشق حالت بينه وبينها، وبات واضحًا أن موقع دمشق يحول بين نور
الدين وبين المضي قدمًا في مشروع التحرير، ومن هنا أدرك أنه لابد من دخول دمشق،
فأوعز لأسد الدين قائد جيشه أن يتواصل بأخيه نجم الدين، ويطلب منه المساعدة على
تسليمها لنور الدين، فبذل نجم الدين جهودًا أثمرت في إرسال أعيان دمشق رسالة لنور
الدين يبدون فيها استعدادهم لحصر حاكمها في القلعة، وتسليمه المدينة.
وعلى إثر ذلك تحرك نور الدين نحو دمشق، فثار الأهالي وفتحوا أبوابها لجيشه، فلجأ
حاكمها ومن معه، للقلعة وتحصن بها فأرسل له نور الدين الأمان مقابل الاستسلام، وعلى
أن يقطعه حمص، فقَبِلَ ودخل نور الدين المدينة
في صفر 549هـ،
دون أن تسفك قطرة دم واحدة، واستقبله أهلها بهتافات الترحيب (نور الدين يا منصور).
هذا
ويعتبر انضمام دمشق للدولة النورية، نقطة تحول حاسمة على طريق تحرير القدس، وهو
"التغير المشئوم بالنسبة لملكة بيت المقدس" الصليبية، كما قال مؤرخها وليم الصوري.