ومن التوفيق للعبد أن يستثمر وقته حال الزحام فيما ينفعه كقراءة ما يحفظ من القرآن وتكراره، أو في الاستغفار والتسبيح والتهليل والحمد والحوقلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الذكر، أو يستمع إلى القرآن،
الحمد لله العليم الحكيم؛ شرع لنا من الدين أكمله، وأنزل علينا من الكتاب أحسنه، واختار لنا من الحكم أيسره، نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخير كل الخير في التمسك بدينه، واتباع شرعه، والشر كل الشر في مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، والتزموا دينه ولا تتركوه، واعتصموا بحبله ولا تفلتوه، وتمسكوا بكتابه ولا تهجروه، وعظموا أمره ونهيه فلا تنتهكوه؛ فإن الحساب عسير، وإن الجزاء عظيم، وإن الدنيا إلى زوال، وإن الآخرة هي دار القرار ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 39-40].
أيها الناس: المؤمن في دنياه يعيش حالة ابتلاء دائم؛ لأنه مطالب أن يتقي الله تعالى في كل أحواله، وأن يراعي شرعه في كل شئونه. في حله وترحاله، وفي شغله وفراغه، وفي جده وهزله، وفي صحته وسقمه، وفي عافيته وبلائه، وفي نفسه وأهله وولده، وفي بيته وخارج بيته، وفي كل ما يمر به في يومه وليلته؛ إذ هو مراقب في كل ذلك ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10-12].
ومن ابتلاءات المدن الكبيرة: ما يعالجه الناس من شدة زحام الطرقات؛ ذهابا إلى أعمالهم، وإيابا إلى منازلهم، فيمضي وقت طويل وهم في سياراتهم، ومن يعملون في النقل والتوصيل ونحو ذلك يمضون أكثر يومهم في الزحام. وللزحام أحكام يجب على المؤمن أن يعرفها، ويمتثل شرع الله تعالى فيها؛ ليكون مأجورا على هذا الابتلاء؛ ولكيلا يخالف الشرع فيجمع بين عذاب الزحام ومرارة الإثم.
ومن الواجبات على المؤمن في الزحام: التحلي بالصبر والحلم، ولا سيما إذا اقترن بالزحام حر شديد، وهنا تظهر معادن الناس؛ فالحليم الصبور يحتمل أذى الناس ولا يؤذيهم، بل يسعى في التخفيف عنهم. والصبر والحلم يكتسبان كما يكتسب العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه الشيخان. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ» رواه الطبراني.
ومن أشد الأذى التعدي على الناس في مسارات طرقهم، ومضايقتهم للوصول قبلهم، وترويع ضعيف القلب منهم. وكم من دعوات ترسل على من فعل ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، والله تعالى توعد من يؤذي المؤمنين فقال سبحانه ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رواه الشيخان. والأذى بالسيارات أعظم من الأذى باللسان، وقد يفوق الأذى بالأيدي؛ لأنه قد يسبب حوادث مهلكة لمن اعتدى عليهم، أو يصيبهم بعاهات دائمة، وأقل ذلك أن يروعهم، وترويع المسلم لا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» رواه أبو داود.
ثم إن الذي لا يتعامل مع زحام الطرق بالحلم والأناة والصبر، ويريد أن يسبق الناس، ويخطئ عليهم بسيارته؛ فإنه يعرض نفسه للأمراض المزمنة كالضغط والسكر وأمراض القلب ونحوها؛ وذلك لأنه دائم القلق، سريع الغضب، كثير الخصام. وقد يقابله غضوب عجول مثله يريد أن يسبقه فيتسابان ويقتتلان، فيقتل أحدهما الآخر، فتذهب حياتهما جميعا لأجل أمر تافه حقير، وكفى به جرما وإثما. وعلى المرء أن يعتذر لغيره إن أخطأ عليه؛ ليمتص غضبه؛ ولأن الاعتذار عند الخطأ شجاعة، وعلى صاحبه أن يقبل اعتذاره؛ فإن ذلك من شيم الكرام. وإذا أراد أن يتقدم على غيره في الزحام فليستأذن منه؛ لأن الحق له، ويحفظ لسانه من الشتم والقول البذيء.
ومن الواجبات على المؤمن في الزحام: مراعاة الصلاة؛ فإن كثيرا من الناس يظن أن الزحام عذر في تأخير الصلاة عن وقتها؛ وهذا خطأ كبير، فلا عذر لأحد في تأخير الصلاة عن وقتها ما دام عقله معه؛ فالمحافظة على أداء الصلاة في وقتها منصوص عليه في القرآن، ومتوعد على الإخلال بها، قال الله تعالى ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238]، وقال تعالى ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، وفي مدح المؤمنين المفلحين قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: 9]، ومن المحافظة عليها أداؤها في وقتها. وفي وعيد المؤخرين للصلاة عن وقتها قول الله تعالى ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59] وقال تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4-5]، وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» رواه البخاري.
ومما يجب مراعاته في المدن المزدحمة تجاه الصلاة: أن يحرص على الوضوء قبل ركوب سيارته؛ حتى إذا دهمه وقت الصلاة يكون مستعدا لها؛ لئلا تفوته الجماعة؛ ولكيلا يؤخرها عن وقتها إن فاتته الجماعة. وأن يحسب طريقه على الأذان لا على الإقامة؛ فإن كثيرا من الناس تفوته الصلاة، بسبب أنه لا يراعي الأذان، وإنما يراعي الإقامة، ولا عذر لأحد في ذلك؛ لأن الأجهزة الذكية تعطي صاحبها الوقت المقدر لوصوله إلى وجهته، فليراع الصلاة أكثر من مراعاته لأي شيء آخر.
وإذا علق في زحام، وقرب وقت الصلاة فليخرج من أقرب مخرج؛ ليدرك الجماعة، فإن لم يستطع الخروج وفاتته الجماعة، فلا يفوته وقت الصلاة؛ فإن قارب انتهاء وقت الصلاة وهو عالق في الزحام ولا يستطيع الخروج منه، ولا النزول من سيارته ليصلي؛ فإن كانت صلاته تجمع مع ما بعدها نوى الجمع قبل خروج وقت الأولى؛ فإن هذه حاجة تبيح له الجمع. فإن كانت الصلاة لا تجمع مع ما بعدها ويكثر وقوع ذلك في صلاة العصر، ولا سيما في الشتاء حيث قصر النهار؛ فإنه يصلي على حاله في سيارته، ويومئ للركوع والسجود، ولا يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها. فإن كان على غير طهارة تيمم، وصلي ليدرك الوقت قبل خروجه. ومن حرص على صلاته فلن تفوته، بل لن تفوته الجماعة، ولو في المدن المزدحمة، ومن هانت الصلاة في نفسه فرط فيها وأخرها عن وقتها، وفي ذلك وعيد شديد.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131 - 132].
أيها المسلمون: حياة المؤمن كلها أجر إذا استثمرها، وأحسن النية في أعمالها، وصبر على شدائدها ومصائبها. ومع شدة ازدحام المدن، وكثرة الناس والأعمال؛ صار المؤمن يقضي كثيرا من وقته في سيارته، فإذا راعى الله تعالى في هذا الوقت؛ حصد الأجور العظيمة، وسلم من الأوزار المثقلة. وأول ذلك أن يدعو بدعاء الخروج من المنزل؛ فإن له علاقة بما يمر به في طريقه من عقبات ومشكلات؛ كما في حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» رواه أهل السنن، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وكذلك حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟» رواه أبو داود. فإن محافظة العبد على هذه الأذكار، وتدبر معانيها؛ سبب بإذن الله تعالى لحفظه من الجهل والطيش والغضب، واعتدائه على الناس، واعتداء الناس عليه.
ومن التوفيق للعبد أن يستثمر وقته حال الزحام فيما ينفعه كقراءة ما يحفظ من القرآن وتكراره، أو في الاستغفار والتسبيح والتهليل والحمد والحوقلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الذكر، أو يستمع إلى القرآن، أو إلى محاضرة أو فتاوى ينتفع بها في دينه، أو أي برنامج ينفعه في دنياه. وبعض السائقين يفوت عليه أجر عظيم؛ فيقضي وقته في الخيالات والهواجس وأحلام اليقظة التي لا تنفعه شيئا. ومنهم من يعصي الله تعالى بسماع الأغاني والموسيقى أثناء الزحام فيجمع أوزارا عظيمة بقدر ما سمع، وربما آذى غيره بذلك فرفع صوتها ليزعج بها الآخرين. وليحذر من مد بصره إلى الآخرين، ولا سيما النساء؛ فإن من آداب الطريق غض البصر. وكل عبد مسؤول عن عمره فيما أفناه، ومسئول عن سمعه وبصره؛ فليقض وقت الزحام في طاعة الله تعالى؛ ليؤجر على الصبر في الزحام، وعلى الطاعة التي عملها، ولا يجمع بين مشقة الزحام وما يسبب له العذاب ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].
وصلوا وسلموا على نبيكم...