من أكثر الأنبياء تابعا موسى عليه السلام، لكن أكثر قومه من بني إسرائيل خذلوه في غير ما موقف، ولم يناصره إلا قليل منهم، وممن ناصره يوشع بن نون بن إبراهيم بن يوسف، فجده نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام أجمعين
الحمد لله الخلاق العليم؛ خلق البشر من ماء مهين، وكرمهم بالعقل والدين، فمن لزم دينه كان من أهل الشرف والنعيم، ومن أعرض عنه كان أحط من البهيم، ومأواه دار الجحيم، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، فلا يخفى عليه ذرة في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه، ومن الخير أعطاه، وبوأه مكان عليا، وقربه نجيا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينه، وتدبروا كتابه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه؛ فإن الدنيا دار عبور وغرور، وإن الآخرة دار حبور وسرور ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
أيها الناس: لكل نبي أتباع وأعداء، ومحبون ومبغضون، وناصرون وخاذلون، يكثرون ويقلون، والقليل من الأنبياء ليس له تابع ولا مناصر. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا ومناصرا؛ ولذا بقي دينه إلى آخر الزمان، وختمت النبوة به، وكانت أمته خير الأمم.
ومن أكثر الأنبياء تابعا موسى عليه السلام، لكن أكثر قومه من بني إسرائيل خذلوه في غير ما موقف، ولم يناصره إلا قليل منهم، وممن ناصره يوشع بن نون بن إبراهيم بن يوسف، فجده نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام أجمعين. «وكان من أكبر أصحاب موسى عليه السلام، ومن آمن به وصدَّقه، ولم يزل معه إلى أن مات، وخَلَفَه في شريعته. فكان من أعظم أنبياء بني إسرائيل بعد موسى». وهو فتى موسى في رحلته المشهورة للخضر المذكورة في سورة الكهف في قول الله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: 60]، ولم يسم في الآية، لكن سماه النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر قصة موسى والخضر فقال في سياقها: «فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَمَعَهُمَا الْحُوتُ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَنَزَلَا عِنْدَهَا» رواه الشيخان.
وحين رفض بنو إسرائيل الجهاد وتحرير الأرض المقدسة من الشرك؛ خوفا من أهلها؛ كان يوشع بن نون عليه السلام أحد الرجلين اللذين حرضا بني إسرائيل على الجهاد، ودخول الأرض المقدسة كما في القصة المشهورة في سورة المائدة ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]. لكن بني إسرائيل نكلوا عن الجهاد، وخذلوا موسى عليه السلام، فعوقبوا بالتيه أربعين سنة، توفي خلالها موسى عليه السلام؛ فخلفه في النبوة والقيادة يوشع بن نون، وهلك أكثر ذلك الجيل الخوار الجبان، ليخلفه جيل تربى في التيه على الشدائد والإيمان، فقادهم يوشع لفتح بيت المقدس، ففتح الله تعالى عليهم، وقص النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخبر؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا، فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ -يَعْنِي: النَّارَ- لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللهُ لَنَا الْغَنَائِمَ، رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا، فَأَحَلَّهَا لَنَا» رواه الشيخان.
فالمعجزة التي حصلت للنبي بحبس الشمس حتى فتح الله تعالى عليهم جاء خبرها في حديث آخر بتسمية هذا النبي، وأنه يوشع بن نون عليه السلام؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ عَلَى بَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» رواه أحمد.
وفي قول يوشع عليه السلام لقومه وهو يحضر للغزو وفتح بيت المقدس «لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا» دليل على أن متاع الدنيا من الزوجة والولد والدار والمال تشغل العبد في كثير من الأحيان عن الطاعات، وتصده عن الجهاد في سبيل الله تعالى؛ رحمة بزوجه من الترمل، وولده من اليتم، وميلا إلى الدنيا وزهرتها؛ ولذا منع يوشع أن يتبعه من قلبه متعلق بشيء من الدنيا، والله تعالى يقول ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، وجاء في حديث يَعْلَى الْعَامِرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» رواه أحمد وابن ماجه.
وفي هذا الحديث تحريم الغنائم على الأمم السابقة، وحلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من خصائص هذه الأمة، «وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال: 69]، فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ».
وفي هذا الحديث أن الرجل الفاضل قد لا يتحقق مقصوده من الخير بسبب خذلان قومه له، وأن المفضول يتحقق له ذلك إذا نصره قومه؛ وذلك أن موسى عليه السلام أفضل من يوشع بن نون، ومع ذلك لم يُفتح بيت المقدس على يديه بسبب خذلان أصحابه له، وفتح ليوشع بن نون بسبب نصرة أصحابه له. وبهذا نعلم فضل الصحابة رضي الله عنهم، ونصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم حين غزوا معه، وفدوه بأنفسهم وأولادهم وأموالهم؛ كما قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، قَالَ: وَلَكِنِ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ» رواه البخاري.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131- 132].
أيها المسلمون: كانت وجهة غزوة يوشع بن نون ومن معه من المؤمنين بيت المقدس؛ لتحريره من الشرك والمشركين، وكانت هذه الغزوة استكمالا لمهمة موسى عليه السلام حينما لم يستجب له قومه وقالوا ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22]، وقالوا ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24].
وحين تذكر هذه القصة في القرآن، ثم يستكمل حديثها النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة؛ نعلم أن دين الأنبياء واحد، وأن مهمتهم واحدة، وأن بعضهم أولياء بعض، ولو تناءت أزمانهم، وتباعدت منازلهم، واختلفت أقوامهم، وأن دينهم هو التوحيد الخالص لله تعالى، وأن بيوت الله المقدسة لا ينبغي أن يدنسها أهل الشرك بشركهم، بل يجب إخراجهم منها، فلا تصح ولايتهم عليها.
كما يدل هذا الحديث على أهمية بيت المقدس في دين الإسلام، وإلا لما ذكرت قصة محاولة فتحه على يد موسى عليه السلام في القرآن، ثم ذكرت قصة فتحه على يد يوشع عليه السلام في السنة النبوية، ويدل على هذه العناية في الإسلام ببيت المقدس أيضا حادثة الإسراء والمعراج؛ إذ أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به منها إلى السماء، ولم يعرج به من مكة أو من حرمها، ثم صلى إماما بالأنبياء كلهم في بيت المقدس، وسميت سورة في القرآن بهذه الحادثة العظيمة افتتحت بقول الله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].
فالمسلمون أولى بالأرض المباركة ومسجدها المقدس من أي أمة أخرى؛ ولذا توجه الصحابة رضي الله عنهم لفتحه وتخليصه من شرك النصارى، والمسلمون أولى به من اليهود الجاثمين عليه، وسيحررونه من رجسهم وشركهم بإذن الله تعالى؛ ليعود للمسلمين بعد عقود من ضياعه منهم، وما ذلك على الله بعزيز.
وصلوا وسلموا على نبيكم....