في حادث يكتنفه الغموض، سقطت طائرة الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" لتضع نهاية لأحد أهم رموز النظام الإيراني، تتنازع مراحل صعوده السياسي الكثير من المحطات أبرزها حقبة توليه لجنة إعدام المعارضين، وآخرها كونه أكثر المرشحين قربًا من منصب خلافة المرشد الإيراني
لم يكن في مخيلة الشاب
إبراهيم رئيسي، المولود في نوفمبر 1960م بمدينة مشهد المقدسة لدى الشيعة في شمال
شرق إيران، وهو يدرس الفقه والأصول على يد شيخه علي خامنئي، أنه ذات يوم سيظل يتدرج
في التسلسل الهرمي للسلطة وصولًا إلى رئاسة البلاد في عام 2021م، مع تكهنات متزايدة
بأنه سيكون المرشد الأعلى للبلاد خلفًا لخامنئي، إلا أن القدر لم يمهل رئيسي ـ
البالغ من العمر 63 عامًا ـ أن يصل إلى هذا المنصب، بعدما تعرضت طائرته قبل ساعات
لحادث تحطم وسط أحوال جوية سيئة في منطقة جبلية نائية في مقاطعة أذربيجان الشرقية.
تلميذ خامنئي
وُلِدَ الرئيس الإيراني
إبراهيم رئيس الساداتي؛ المعروف باسم إبراهيم رئيسي، لعائلة دينية في نوفمبر 1960م،
أكمل دراسته الابتدائية في مشهد ثم سافر إلى مدينة قم وهو في سن الخامسة عشرة
للالتحاق بمعهد شيعي هناك مقتفيًا خطى والده، وقد ساعدته الظروف حينها أن يتتلمذ
على يد علماء شيعة كبار صاروا فيما بعد من أصحاب المناصب الدينية والسياسية
البارزة، من أبرزهم المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي، حيث حضر رئيسي بعض دروسه،
وبينما كان طالبًا شابًا؛ انضم إلى الاحتجاجات الجماهيرية ضد الشاه المدعوم من
الغرب في عام 1979م والتي أدت إلى الثورة الإيرانية بتوجيه من الخميني العائد من
منفاه في فرنسا، خلال السنوات الأولى المضطربة للثورة واصل رئيسي دراسته الأكاديمية
في جامعة "الشهيد مطهري" في طهران، إذ لم يكتف بتحصيله الديني فنال درجة الماجستير
في الحقوق الدولية، ثم درجة الدكتوراه في فرع الفقه والمبادئ والحقوق الخاصة.
|
دعم رئيسي حملات القمع الوحشية والاعتقالات الجماعية ضد مناصري "الحركة
الخضراء" المعارضة لفوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية، ثم أصبح
رئيسي لاحقًا المدعي العام للبلاد في عام 2014م |
انضم لاحقًا إلى السلك
القضائي، وجد رئيسي ـ مثل العديد من الشباب الآخرين من جيله الذي شارك في الثورة ــ
نفسه يُنقل إلى منصب مهم، إذ أصبح نائب المدعي العام في طهران رغم أنه كان يبلغ من
العمر 25 عامًا فقط آنذاك، وفقًا لتقارير جماعات حقوق الإنسان أصبح واحدًا من 4
قضاة فيما يُعرف بـ "لجنة الموت" سيئة السمعة، وهي محكمة سرية أنشئت في عام 1988م
لإعادة محاكمة آلاف السجناء، لمعارضتهم نظام المرشد كانت تلك بمثابة نقطة انطلاق
لطموحاته الأوسع، شغل فيما بعد منصب المدعي العام في طهران وذلك في عام 1989م، وهو
العام الذي أصبح فيه خامنئي المرشد الأعلى، وبقي في منصبه حتى عام 1994م، حيث تم
تكليفه برئاسة هيئة تفتيش الدولة، وهي هيئة قضائية مرموقة، وقد بقي في هذا المنصب
لمدة 10 سنوات، وبحلول عام 2006، تم انتخابه لعضوية مجلس الخبراء، المكلف بتعيين
المرشد الأعلى والإشراف عليه والذي يحظى أعضاؤه بموافقة مجلس صيانة الدستور، قوي
النفوذ في إيران.
بعد أن أثارت الانتخابات
الرئاسية المتنازع عليها في عام 2009م أشهرًا متواصلة من الاحتجاجات العامة،
دعم رئيسي حملات القمع الوحشية والاعتقالات الجماعية ضد مناصري "الحركة الخضراء"
المعارضة لفوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية، ثم أصبح رئيسي لاحقًا المدعي
العام للبلاد في عام 2014م،
وقد فرضت عليه وزارة
الخزانة الأمريكية عقوبات في عام 2019م لدوره في الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان
أثناء كبح جماح الاحتجاجات، وبالرغم من دوره في أحداث القمع الداخلي إلا أنه اكتسب
شعبية كبيرة خلال وصايته على العتبة الرضوية المقدسة من عام 2016 إلى عام 2019، وهي
واحدة من أغنى الأوقاف الشيعية في إيران، والتي تضم آلاف الموظفين بالإضافة إلى
مؤسساتها الخاصة وممتلكاتها من الأراضي والشركات في جميع أنحاء البلاد.
جزار طهران
أُطلق عليه لقب "جزار
طهران"، وذلك بسبب دوره في الإعدام الجماعي للسجناء السياسيين في عام 1988م عندما
كان نائب المدعي العام في طهران، وعندما سُئل رئيسي عام 2018م ومرة أخرى عام 2020م
عن عمليات الإعدام تلك، نفى أن يكون له أيّ دور فيها، رغم إشادته بأمر أصدره
الخميني سابقًا لمواصلة عملية التطهير.
لم تعترف إيران قط
بالإعدامات الجماعية، ومع ذلك قال بعض رجال الدين البارزين لاحقًا إن محاكمات
السجناء كانت عادلة، ويجب مكافأة القضاة المشاركين في القضاء على المعارضة المسلحة
في السنوات الأولى للثورة، وفي عام 2020 دعا خبراء حقوق الإنسان التابعون للأمم
المتحدة إلى المساءلة عن الوفيات التي وقعت عام 1988م، محذرين من أن الوضع قد يرقى
إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية إذا استمرت الحكومات الإيرانية المتعاقبة في رفض
محاسبة المتورطين.
بدأ اسم رئيسي يظهر
بانتظام في المناقشات العامة ووسائل الإعلام المحلية، مما حوله إلى شخصية يمكن
التعرف عليها بسهولة في جميع أنحاء البلاد، وقد دفعته هذه الشهرة إلى مقدمة صناديق
الاقتراع الرئاسية مرتين حتى قبل بدء الحملة الرسمية للانتخابات، ففي الانتخابات
الرئاسية لعام 2017م، خاض رئيسي محاولة فاشلة ضد الرئيس السابق حسن روحاني، حيث حصل
على 38% فقط من الأصوات، لكنه نجح في محاولته الثانية للرئاسة في عام 2021م في
انتخابات اعتبرت على نطاق واسع بمثابة سباق الحصان الواحد، حيث مُنِعَ عشرات من
المرشحين المعتدلين والمؤيدين للإصلاحيين من الترشح، وشهد التصويت أدنى نسبة إقبال
على الإطلاق في الانتخابات الرئاسية الإيرانية منذ الثورة في عام 1979م.
|
قدّم
رئيسي نفسه على أنه نصير للفقراء والمسؤول الأول عن مكافحة الفساد، لكنه
سرعان ما أعلن عن إجراءات تقشف تسببت في زيادة حادة بأسعار السلع الأساسية،
ما أثار غضبًا شعبيًا واسعًا جراء ارتفاع تكاليف المعيشة |
فترة رئاسته
أثناء انتخابه رئيسًا في
يونيو 2021م؛ قدّم رئيسي نفسه على أنه أفضل شخص لمحاربة الفساد والمشاكل الاقتصادية
في إيران، وبعد أشهر من تولّيه المنصب الرئاسي بدأت وسائل الإعلام المحلية تشير
إليه بلقب "آية الله"، وهو لقب مرموق في التسلسل الهرمي الديني الشيعي، وقد اتسمت
فترة رئاسته ببعض الملامح الهامة:
● اتسمت
بدايات فترة رئاسته بتزايد الانقسامات الاجتماعية والسياسية الداخلية، وكمتشدد لعب
دورًا فعالًا في السنوات القليلة الماضية في إعادة إيران نحو المعتقدات الأكثر
تشددًا للمؤسسين الثوريين للجمهورية الإيرانية، وفي أواخر عام 2022م اندلعت موجة من
الاحتجاجات على مستوى البلاد بعد وفاة الشابة الكردية مهسا أميني في الحجز،
وباعتباره مؤيدًا للقيم المحافظة على الجبهة الداخلية، أدى انتخابه رئيسًا إلى
تعزيز سلطة المحافظين المتشددين في البلاد، الذين يهيمنون على فروع السلطة في
إيران، وساد اتجاه أوسع متمثل في صنع سياسات منعزلة بشكل متزايد على قمة النظام
الإيراني.
●
قدّم رئيسي نفسه على أنه نصير للفقراء والمسؤول الأول عن مكافحة الفساد، لكنه سرعان
ما أعلن عن إجراءات تقشف تسببت في زيادة حادة بأسعار السلع الأساسية، ما أثار غضبًا
شعبيًا واسعًا جراء ارتفاع تكاليف المعيشة،
حيث شهدت البلاد
تراجعًا اقتصاديًا حادًا بسبب العقوبات الدولية وارتفاع معدلات البطالة.
● فيما
يتعلق بالمواجهة مع الكيان الصهيوني؛ استمرت حرب الظل التي استمرت لسنوات مع
إسرائيل، لكنها سرعان ظهرت في العلن خلال الشهر الماضي بعد أن أطلقت إيران وابلاً
من مئات الصواريخ والطائرات بدون طيار على إسرائيل، ردًا على هجوم إسرائيلي أدى إلى
مقتل جنرالات إيرانيين في مجمع سفارة البلاد في دمشق، في حدث كان على وشك أن يدفع
المنطقة إلى صراع مباشر ومفتوح لأول مرة بين إيران والكيان الصهيوني.
● فيما
يتعلق بالسياسة الخارجية؛ عمل رئيسي على تعميق علاقات إيران مع الصين وروسيا، فيما
كثّف من المواجهة مع الغرب وإسرائيل.
● استمرت
إيران في تسريع البرنامج النووي للبلاد حيث واصلت برنامجها لتخصيب اليورانيوم ومضت
قدمًا في برنامج الصواريخ الباليستية، إلى جانب تسليح الجماعات الوكيلة لها في
الشرق الأوسط، مثل المتمردين الحوثيين في اليمن وحزب الله اللبناني وبعض الميلشيات
المسلحة في العراق، كما قامت إيران بتزويد روسيا بالأسلحة في حربها على أوكرانيا.
● في
انفراجة غير معهودة؛ منحت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إيران إمكانية الوصول إلى
أكثر من 6 مليارات دولار من عائدات النفط مقابل إطلاق سراح 5 أمريكيين كانوا
مسجونين في إيران، وزعم البيت الأبيض حينها أن الأموال ستُستخدم فقط للأغراض
الإنسانية.
حلم خلافة المرشد
يُنظر أحيانا إلى رئيسي
على أنه رجل مدفوع أولًا وقبل كل شيء بالتفاني العميق في الحصول على السلطة إلى
جانب التمسك المتعصب بالأيديولوجية، مواقفه المتشددة على مدار 4 عقود جعلته أكثر
اتساقًا وأكثر حظًا في التكهنات التي ترشحه لخلافة المرشد الأعلى علي خامنئي، لا
سيما وسط تزايد الشائعات من آنٍ لآخر حول صحة المرشد الحالي، لكن بعد حادثة سقوط
مروحية رئيسي، وبقاء مصيره مجهولًا لعدة ساعات، إلى أن تم الإعلان عن وفاته، سرعان
ما تلاشى حلم خلافة رئيسي لخامنئي، وبدلًا من البحث عن الإجراءات الدستورية المتبعة
لتعيين خليفة للمرشد الأعلى، بات البحث محصورًا عما ينص عليه الدستور الإيراني في
حالة غياب الرئيس، إذ ستتولى لجنة مؤقتة بموافقة المرشد الإيراني مهام الرئاسة لمدة
شهرين، تضم هذه اللجنة نائب الرئيس ورئيس البرلمان ورئيس الجهاز القضائي، وسيكون
نائب الرئيس ملزمًا بتنظيم الانتخابات الرئاسية في غضون 50 يومًا، ووفقًا للدستور
أيضًا يمكن للمرشد الإيراني أن يتولى بنفسه جميع صلاحيات الرئيس مباشرة، أو يكلف
مسؤولًا خاصًا بها إلى أن يتم إجراء الانتخابات.
لقد كان رئيسي في وضع فريد
للتأثير بشكل كبير على عملية اختيار المرشد التالي، فهو من ناحية لا يزال عضوا
بمجلس الخبراء المكلف بتعيين المرشد الأعلى، كما أنه كان على الدوام أحد المرشحين
البارزين لخلافته، فهو صانع الملوك والملك المحتمل في الوقت نفسه، لكن خبر سقوط
مروحيته التي كان على متنها مع عدد من أفراد إدارته على رأسهم وزير الخارجية أمير
عبداللهيان، في حدثٍ وصفته وسائل الإعلام الحكومية بـ "الهبوط الصعب" قبل ساعات،
ومن ثمَّ الإعلان عن وفاته، وضع نهاية مأساوية لحلم رئيسي في خلافة المرشد الإيراني
الأعلى وتنتهي قصة صعوده في دوائر السلطة عند هذا الحد.