قال الشعب كلمته في باكستان، لا نريد الأحزاب الفاسدة، سنصوت لمن نراه يمثلنا، لا من أراده الجيش أن يحكمنا، ورغم ذلك فإن من حصلوا على أصوات الشعب لا يستطيعون تشكيل الحكومة، تلك هي المعضلة في باكستان
على وقع خطوات العسكر جرت الانتخابات البرلمانية في باكستان في 8 فبراير 2024، في
منافسة محتدمة تردد نغمة واحدة هي الخلاص من رئيس الوزراء السابق، ولاعب الكريكت
الشهير، عمران خان، وإفساح الطريق للوارثين سياسيًا، والقادمين من عمق التاريخ
ليتصدروا المشهد مجددًا في البلاد، وهم الذين اتهموا سابقًا بأنهم عاثوا في باكستان
فسادًا، وذاقوا ويلات الانقلاب الناعم الذي أخرجهم مُكرهين من السلطة قبل إكمال
ولاياتهم الدستورية.
لكن الرياح الشعبية أتت بما لا تشتهيه النفوس العسكرية، وجاءت خطوات الشعب معاكسة
لتخطيطات العسكر في مفاجأة أذهلت المراقبين وخلطت الأوراق جميعها في باكستان،
وأدخلت البلاد في حالة من الاضطراب السياسي، وفتحت الباب على مصراعيه أمام
سيناريوهات متعددة، لا يجمعها إلا جامع واحد وهو أن الخطر بات قريبًا للغاية وأن
المجهول السياسي هو العنوان الأبرز للمرحلة القادمة رغم ضخامة التحديات فيها وعلى
كافة المستويات.
على الصعيد الرقمي، أعلنت لجنة الانتخابات الباكستانية النتائج النهائية لانتخابات
الجمعية الوطنية، في 11 فبراير 2024، حيث حصل المستقلون المدعومون من حزب حركة
إنصاف الباكستانية الذي يتزعمه عمران خان، الذي وصل إلى السلطة العام 2018، وأطيح
في مذكرة حجب ثقة في أبريل 2022، على 101 من جملة مقاعد الجمعية الوطنية.
|
العنوان الأبرز لهذه النتائج أن الشعب الباكستاني وجه ضربة مزدوجة بتصويته
العقابي، حيث صوت ضد حزبي التوارثية السياسية التي يمثلها، حزبي الشعب
والرابطة الإسلامية |
أما حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف، فحصل
على 75 مقعدًا، في حين حصد حزب الشعب لباكستاني الذي يتزعمه وزير الخارجية السابق
بيلاول بوتو زرداري، 54 مقعدًا، وحصلت الحركة القومية المتحدة على 17 مقعدًا، وحزب
جمعية علماء الإسلام على 4 مقاعد.
وحصلت عشرة أحزاب صغيرة على المقاعد الـ17 المتبقية، مع بقاء مقعدين شاغرين، حيث
أعلنت لجنة الانتخابات تعليق التصويت على مقعد واحد بسبب وفاة أحد المرشحين، وحجب
نتيجة مقعد آخر وإعادة التصويت عليه.
والعنوان الأبرز لهذه النتائج أن الشعب الباكستاني وجه ضربة مزدوجة بتصويته
العقابي، حيث صوت ضد حزبي التوارثية السياسية التي يمثلها، حزبي الشعب والرابطة
الإسلامية،
وكذلك ضد المشاركة غير الدستورية للجيش وتدخله المفرط في السياسة، ومثل رفضًا قويًا
لتلاعب الجيش القوي منذ فترة طويلة بالانتخابات في باكستان.
فهذه النتائج، على كل حال، لم تكن كتلك التي تدور في مخيلة الجيش الباكستان، إذ
استعصت على هندسة التزوير، بفضل الدعم الشبابي الذي يتمتع به رئيس الوزراء السابق
عمران خان الذي دخل في حالة خصام واضح مع قائد الجيش القوي، عاصم منير، والذي لن
يقبل بوجود خان مجددًا في رئاسة الوزراء على الأقل في المدى القريب.
كما أن نجاح الموالين لحزب حركة إنصاف فاجأ الأحزاب السياسية الأخرى، حيث بات
الجميع يبحثون على السيناريوهات والممكنة، وكيفية الافلات من زمام الجمود السياسي
الذي يلوح في الأفق، تشوبه ملامح انقلاب عسكري قادم من بعيد بدعوى أن الساسة لم يعد
بمقدورهم الاتفاق، وأن ازاحتهم باتت واجبًا تمليه المصالح العليا في البلاد في
سيناريو مكرور شهدته باكستان ثلاث مرات من قبل.
من الناحية الدستورية، لتشكيل الحكومة يتعين تكوين كتلة برلمانية تتمتع بأغلبية
بسيطة تبلغ 169 مقعدًا في الجمعية الوطنية، ومن بين مقاعد الجمعية الوطنية البالغ
عددها 366 مقعدًا، يتم تحديد 266 مقعدًا عن طريق التصويت المباشر، 60 مقعدًا مخصصة
للنساء و10 للأقليات، ولا يحق للمستقلين اختيار أعضاء كوتتي النساء والأقليات.
أما عن بداية السيناريوهات فهي تبدأ من حزب حركة الإنصاف الباكستانية الفائز
بالأغلبية بفضل المستقلين الذين دفعهم لخوض الانتخابات، بدلا من الترشح تحت رمز
الحزب، لأن مفوضية الانتخابات رفضت ترشحهم لأسباب إجرائية، حسبما تقول، حيث يرفض
بصورة قاطعة الدخول في أي تحالف مع
حزبي الشعب الباكستاني بزعامة بيلاول بوتو زرداري، والرابطة الإسلامية بزعامة شهباز
شريف، ويسعى ناحية الطعن في نتائج الانتخابات للحصول على قدر أكبر من المقاعد.
ولأنه لا يمكن للمستقلين تشكيل حكومة رغم حصولهم على العدد الأكبر من المقاعد، إذ
يجب أن يقوم حزب معترف به أو ائتلاف من أحزاب بتشكيل الحكومة، فإن حزب حركة الإنصاف
يتجه ناحية التحالف مع حزب "مجلس وحدة المسلمين" الصغير، والدفع بـ عمر أيوب خان،
وهو حفيد أيوب خان أول حاكم عسكري في باكستان، الذي حكم البلاد من 1958 إلى 1969،
ليكون مرشح حزبه في تصويت برلماني لاختيار رئيس الحكومة الجديد.
ولكن مرشحه سيفتقر حينها إلى الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة، كما أنه سيصطدم برغبات
العسكر التي لا ترغب في وجود عمران خان وأنصاره ضمن التشكيل الحكومي الجديد، إضافة
إلى أن المرشح عمر أيوب نفسه مطلوب في تحقيقات متعددة، ومن بين التهم الموجهة إليه
التورط في أعمال شغب وقعت بعد إلقاء القبض على عمران خان.
|
من الناحية النظرية يمكن لحزبي الرابطة والشعب بمفردهما تشكيل حكومة
بأغلبية برلمانية بسيطة، وقد سبق أن شكلا حكومة ائتلافية بعد إطاحة عمران
خان من منصب رئيس الوزراء، |
أما حزب الشعب الباكستاني بزعامة بيلاول بوتو زرداري والذي حل ثالثًا في نتائج
الانتخابات فاستبعد الدخول في تحالف جديد مع حزب الرابطة الإسلامية، مؤكدًا أنه غير
مهتم بتحالف جديد مع هذا الحزب، لكنه سيدعم أي حكومة يشكلها في قضايا معينة، بدون
أن يصبح جزءًا من الحكومة، وهو موقف معاكس لما أعلنه حزب الرابطة الإسلامية
الباكستانية الذي قال أنه لا يزال منفتحًا على إجراء محادثات مع الأحزاب الأخرى
لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة.
من
الناحية النظرية يمكن لحزبي الرابطة والشعب بمفردهما تشكيل حكومة بأغلبية برلمانية
بسيطة، وقد سبق أن شكلا حكومة ائتلافية بعد إطاحة عمران خان من منصب رئيس الوزراء،
ولكن المحادثات بينهما تعطلت فيما يبدو بسبب خلاف بشأن اختيار من سيتولى رئاسة
الحكومة، فالحزبان يريدان منصب رئيس الوزراء.
ففي حزب الرابطة ينحصر المرشح لرئاسة الوزراء بين نواز شريف الذي كان رئيسًا
للوزراء 3 مرات في الماضي وشقيقه الأصغر شهباز الذي شغل المنصب لمدة 18 شهرا حتى
أغسطس العام الماضي، أما حزب الشعب الباكستاني فإنه ملتزم بترشيح بيلاوال بوتو
زرداري بوصفه نجل عائلة سياسية، وإذا نجح وزير الخارجية السابق (35 عاما) فسيصبح
أصغر رئيس وزراء لباكستان منذ أن كانت والدته بينظير بوتو في المنصب.
وإذا تم التغلب على تلك المعوقات، فإن من شأن تشكيل تحالف ناجح بينهما الحد من نفوذ
المرشحين المستقلين المدعومين من حركة إنصاف بزعامة عمران خان، وفي حال حدث ذلك فإن
بعض هؤلاء المرشحين قد ينضمون إلى أي من الحزبين، حيث لا يوجد مانع قانوني يحول دون
انضمامهم إلى حزب آخر.
ولأن الجيش حاضرًا في السياسة أكثر من حضوره في أي مجال آخر، فإن إجباره الأحزاب
التي تعد تاريخيًا في حالة نزاع فيما بينها لتشكيل حكومة ائتلافية، مرفوضة شعبيًا،
سيكون هو الأقرب تحت سيف التهديد بالانقلاب العسكري تارة، أو التلويح بالاغتيال
السياسي والمعنوي بما لديه من قضايا الفساد وغيرها، والتي يشهرها في وجه المناوئين
له، أو من يرى أنهم حادوا عن الطريق المرسوم لهم سلفًا أو باتوا يفكرون في
استقلالية القرار السياسي بعيدًا عن ثكنات الجيش.
إن باكستان تعيش على وقع صدام قوي ليس بين الساسة والعسكر فقط، هذه المرة، لكنها
بين العسكر الذين يرون لباكستان خصوصية تحتم عليها أن يكون للجيش مكانة عليا، إذ
العدو الهندي يتربص بها، والتحديات الأمنية بالغة الخطورة على الحدود مع أفغانستان
وإيران، وبين جيل يريد أن يشق الطريق ناحية استقلال القرار السياسي، ويخلص الحياة
السياسة من الارتهان والتبعية للجيش.