ما هي العلاقة الاستراتيجية بين حربي أوكرانيا وغزة؟ وما الذي أفادت روسيا من حرب غزة؟ وهل ثمّة دعم روسي غير منظور لحركة حماس فتمكنت عبره من تحقيق إنجاز عسكري غير مسبوق؟
انتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثلاثة أيام قبل أن يعلّق على هجوم حماس في 7
أكتوبر على غلاف غزة، وهو اليوم الذي يوافق يوم مولده الحادي والسبعين، كما لاحظ
أندرو أوزبورن
Andrew Osborn
في تقرير له في وكالة رويترز، في 17 نوفمبر. وعندما فعل ذلك، انتقد الولايات
المتحدة، لا حماس. وقال: "أعتقد أن الكثيرين سيتفقون معي على أن هذا مثال واضح على
السياسة الفاشلة التي تنتهجها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي حاولت
احتكار عملية التسوية". ومرت ستة أيام أخرى قبل أن يتحدث بوتين مع رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتقديم تعازيه في مقتل حوالي 1200 إسرائيلي. وبعد عشرة
أيام من ذلك، أعلنت روسيا أن وفداً من حركة حماس موجود في موسكو لإجراء محادثات مع
المسؤولين هناك. ليس هذا بحسب، بل بدا أن موسكو تربط استراتيجياً بين حربي أوكرانيا
وغزة. ففي تصريح غريب لبوتين نهاية أكتوبر الماضي اعتبر أن مصير روسيا والعالم، ومن
ضمنه الشعب الفلسطيني، رهن بما سيؤول إليه النزاع في أوكرانيا. وجاء الردّ المباشر
من الرئيس جو بايدن في مقال رأي نُشر في صحيفة الواشنطن بوست، في 18 نوفمبر،
وباللغتين الإنكليزية والعربية في موقع الصحيفة.
|
كلما امتدّ أمد الحرب في غزة، كان ذلك في مصلحة بوتين. ومن اللافت أن روسيا
بادرت إلى عرض التفاوض مع أوكرانيا، خلال حرب غزة. فمن وجهة نظر موسكو، فإن
مركز الثقل في أوكرانيا الآن هو الدعم الغربي لها |
قال بايدن: "يقاتل كلّ من بوتين وحماس من أجل هدف مشترك، هو محو ديمقراطية مجاورة
لكل من بلديهما من على الخريطة. ويأمل كل من بوتين وحماس في انهيار الاستقرار
والتكامل الإقليميين على نطاق أوسع والاستفادة من الفوضى التي قد تترتب على ذلك.
بيد أن أمريكا لا يمكنها أن تسمح بحدوث ذلك، ولن تسمح بذلك، من أجل مصالح أمننا
القومي – ومن أجل خير العالم أجمع.”
ما هي الاستراتيجية الروسية تجاه المقاومة:
أولاً، ما يقصده بوتين من ربط النزاع في غزة بما يجري في أوكرانيا، هو أن هيمنة
الولايات المتحدة على العالم، هي سبب الحروب والأزمات، منذ انتهاء الحرب الباردة
وسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، وأن حرب روسيا على أوكرانيا منذ فبراير 2022
تهدف إلى تشكيل عالم جديد متعدّد الأقطاب. وعندما تنجح موسكو في أوكرانيا، فإن ذلك
سيحدّد مصير العالم، وليس فقط مصير روسيا والشعب الفلسطيني. لكن يمكن النظر إلى
مجرى الأحداث بطريقة معكوسة؛ فهجوم 7 أكتوبر وما تلاه من حرب إسرائيلية شرسة على
قطاع غزة، وانشغال أمريكا وحلفائها في أوروبا بتقديم الدعم العسكري والمالي العاجل
إلى إسرائيل، يحرف سيل المدد عن كييف، ويُضعف أوكرانيا. وهو ما ظهرت تباشيره بسرعة
لافتة، حين بدأت تنضب الأموال المخصّصة للمجهود الحربي الأوكراني، مع نقص كبير في
قذائف المدفعية من عيار 155 ملم، إذ أُرسلت مئات آلاف منها إلى إسرائيل بدلاً من
أوكرانيا.
وكلما امتدّ أمد الحرب في غزة، كان ذلك في مصلحة بوتين. ومن اللافت أن روسيا بادرت
إلى عرض التفاوض مع أوكرانيا، خلال حرب غزة. فمن وجهة نظر موسكو، فإن مركز الثقل في
أوكرانيا الآن هو الدعم الغربي لها،
وفي اللحظة التي ينحسر فيها هذا الدعم لسبب أو آخر، تتراجع فيها حظوظ كييف، في
الحسم العسكري، فلا يعود أمامها سوى التفاوض والحصول على السلام بالشروط الروسية.
ثانياً، إذا كانت موسكو مستفيدة استراتيجياً من حرب غزة، فهل هي شريك في إنجاز 7
أكتوبر؟ علينا في البدء، النظر في كيفية تمكّن مقاتلي القسّام من تجاوز الجدار
المعزّز بأحدث أدوات الرصد والاستشعار خلال وقت قصير للغاية (بضع دقائق)، وهو
الجدار الذي كلّف إسرائيل أكثر من مليار دولار، وانتهى تشييده عام 2021، يتكوّن ما
يسمى بالجدار الحديدي من جدران وسياج لا يرتفع فقط إلى ستة أمتار فوق سطح الأرض، بل
يغرق أيضاً بعمق داخلها، مما يجعل من الصعب حفر نفق تحته.
وعلى طول الحدود مع قطاع غزة (65 كيلومتراً)، تنتشر مئات كاميرات للرؤية الليلية،
وأجهزة استشعار الزلازل لالتقاط أصوات الأنفاق من أعماق الأسفل، وأجهزة استشعار
حرارية للكشف عن حرارة الجسم أو السيارة، ورادار لاكتشاف تهديدات الطيران. وتقوم
الروبوتات المتنقلة أحياناً بدوريات في المحيط. وغالباً ما تراقب المناطيد الصغيرة
والطائرات بدون طيار ما يجري على سطح الأرض. ويمكن إطلاق المدافع الرشاشة الآلية
الموجودة أعلى الجدران نيرانها من المنشآت البعيدة أو تشغيلها بواسطة تنبيهات أجهزة
الاستشعار لإطلاق النار من تلقاء نفسها، مع قيام الذكاء الاصطناعي بالتصويب.
وهذا ما ذكره تقرير نشرته مجلة نيوزويك
Newsweek
الأمريكية في
نوفمبر. ومن الناحية النظرية، كان ينبغي على كل جهاز استشعار تقريباً على الجدار أو
بالقرب منه أن يطلق إنذارات إلى المواقع العسكرية الإسرائيلية القريبة، فيُهرع
الجنود إلى لوحات التحكم لاستدعاء بث فيديو مباشر من الكاميرات وأجهزة التصوير
الحراري والطائرات بدون طيار ومركبات الدوريات ذاتية القيادة بالإضافة
إلى إرسال ما هو متاح من قوات ودبابات وطائرات ومركبات قتالية وأسلحة أخرى. كانت
المواقع الأمامية سترسل تنبيهات لجلب تعزيزات أكبر، والتي كان من الممكن أن تؤدي
إلى استجابة هائلة. وفي
الوقت نفسه، يكون الجنود في البؤر الاستيطانية قد سيطروا على المدافع الرشاشة
المثبتة على الجدار، وأطلقوا كل شيء من الرصاص إلى القنابل اليدوية إلى الصواريخ
الصغيرة على المسلّحين القادمين من غزة. لكن كل النظام المعقّد لم ينجح، بل فشل
فشلاً ذريعاً وبشكل فاضح. فما هو السبب؟ تورد أوساط عسكرية لبنانية، رؤية مختلفة
مبنية على تقديرات ومعلومات، تتحدّث عن دعم روسي تقني أفاد منه مقاتلو القسّام في
السيطرة على المنظومة الإلكترونية الإسرائيلية وتعطيلها، من خلال التشويش
والاختراق، والروس معروفون بقدراتهم في الأمن السيبراني. فهل تدرّب حمساويون في
روسيا على هذا النوع من القتال؟ بل هل قام عملاء روس داخل إسرائيل بتخريب متعمّد
للأجهزة الرقابية، وفيها أعداد كبيرة من اليهود الروس؟ لن تكون الإجابات متوافرة
بشكل حاسم في المدى المنظور لحساسية العلاقة بين روسيا وإسرائيل، وبين روسيا وحركة
حماس.
ثالثاً، انشغلت مراكز الأبحاث العسكرية في الولايات المتحدة وسواها لدراسة ما جرى
في 7 أكتوبر، لأنه منعطف خطير في كل منظومة الأمن التي تستعملها إسرائيل، وهي نسخة
عن الإجراءات الأمنية الأمريكية لحماية قواعدها وحدودها من المتسللين أو المهاجمين.
وبناء الجدار الإسرائيلي كان رداً على عملية حماس في يوليو 2014، عندما خرج مقاتلو
الحركة من القطاع عبر نفق، وفاجأوا موقعاً عسكرياً إسرائيلياً. وأسفرت الغارة
الجريئة في وضح النهار عن مقتل خمسة جنود إسرائيليين وأحد مقاتلي حماس. ثم تراجع
المسلحون عائدين إلى النفق قبل وصول التعزيزات الإسرائيلية.
وبحسب مقال في منصة
The Upheaval،
في 24 أكتوبر، فإن التكتيكات التي استعملتها حماس في هجومها على الجدار، كانت كفيلة
وحدها بتعطيل نظام المراقبة الإلكترونية، وذلك عائد إلى دراسة كتائب القسّام كل
تفاصيل النظام والإجراءات المتبعة إسرائيلياً في حال حدوث اختراق. بدأ الهجوم بستار
مدفعي كثيف. اختبأ الجنود في التحصينات، فلم يعودوا يرون شيئاً إلا من كاميرات
المراقبة. لكن حماس استعملت
طائرات صغيرة بدون طيار مزودة بقذائف الهاون وغيرها من المتفجرات لمهاجمة أبراج
الاتصالات وتعطيلها، وهي التي تزود الشبكة بالطاقة. لم تعمل الكاميرات، وكذلك أجهزة
الاستشعار وأنظمة الإنذار. ومع تعطل أنظمة المراقبة والاتصالات، استخدمت قوات
الكوماندوز التابعة لحماس طائراتها الشراعية للتحليق ببساطة فوق السياج. وسقطت
قاعدة عسكرية مركزية قرب الجدار، فانهارت سلسلة القيادة والتحكّم، وضاعت إسرائيل في
ساعات وهي لا تدري حقيقة ما يجري.