لا تقل الجبهة الإعلامية عن جبهات القتال العسكرية، لذلك فكما كان الإعداد للعملية العسكرية "طوفان الأقصى" محط إعجاب، فإن المعركة الإعلامية هي الأخرى حازت نفس القدر من التقدم والإعداد، واحتوت على العديد من المعالم البارزة التي صاغتها المقاومة بإتقان
المعركة التي انطلقت في السابع من أكتوبر2023 بسواعد حركة المقاومة الفلسطينية
(حماس) لم تكن موقعة حربية تحسمها فقط الآليات العسكرية وساحة القتال الدامية، بل
إن حربًا أخرى لا تقل أهمية ناشبة في الساحة الإعلامية، حيث يحاول أطراف المعركة
استمالة الرأي العام الشعبي والرسمي والدولي.
ولا يخفى أن الاحتلال الإسرائيلي يملك آلة اعلامية قوية للغاية بفضل الدعم الذي
يتلقاه من المؤسسات الإعلامية الدولية المتماهية مع التوجهات السياسية العالمية في
دعم وتأييد العدوان الإسرائيلي على غزة ومحاولة تبريره، ومن ثم تشويه المقاومة
الفلسطينية وأفعالها وحركاتها التحررية.
ليس ذلك فحسب، بل إن جزءًا ليس بالصغير من الإعلام العربي –للأسف- تقف خلفه أبواقًا
حاقدة وحانقة على المقاومة ورجالها، ولها أجندتها الخاصة، راحت هي الأخرى تصطف إلى
جانب الإعلام الغربي والإسرائيلي في تشويه المقاومة وتجريم محاولاتها وقف
الاعتداءات المتكررة من الجانب الإسرائيلي على الأقصى والأماكن المقدسة ورجال ونساء
فلسطين، لاسيما في الضفة الغربية المحتلة.
رغم هذا الطوفان الإعلامي المعادي في الداخل العربي، والخارج الغربي المضاف إلى
الآلة الإعلامية الإسرائيلية، إلا أن المقاومة الفلسطينية، حققت نجاحات في المعركة
الإعلامية، وأحرزت أهدافًا مؤثرة للغاية في مرمى العدو الإسرائيلي
ومن يصطف معه في خندقه المعادي.
وهذه أبرز المعالم التي يمكن استنتاجها من رحم إعلانات المقاومة الفلسطينية
وتصريحاتها وبياناتها المتزامنة مع معركة طوفان الأقصى..
المعلم الأول
من نجاحات المعركة الإعلامية للمقاومة الفلسطينية هو اختيارها الموفق لعنوان
معركتها الحربية التحررية، فتجنبت كل مصطلحات ومسميات يمكن أن تكون محل انقسام بين
الفلسطينيين عامة، والفصائل المقاومة خاصة، أو تكون محل انتقاد في العالم العربي
والاسلامي وراحت تختار اسمًا هو محل إجماع ليس بين الفلسطينيين فحسب، بل كل العالم
العربي والإسلامي يجمع عليه، وهو المسجد الأقصى، فكان مسماها "طوفان الأقصى"، محددة
الهدف الذي هو أيضًا محل إجماع بين القوى الفلسطينية ويجمع ما بين متطلبات الضفة
وغزة، وهو وقف اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة، وكسر الحصار
الإسرائيلي لقطاع غزة.
المعلم الثاني،
هو استخدام تلك المرأة الاسرائيلية المسنة والتي كانت قيد الأسر في تبييض صفحة
المقاومة من المعاملة السيئة ودعاوى الاغتصاب وغيرها من الدعاوى السوداء التي
أطلقتها الآلة الغربية والإسرائيلية.. فكان لكلماتها وقع الصدمة على وسائل الإعلام
المعادية على اختلافها.. وأضافت مصداقية بالغة لبيانات وتصريحات المقاومة..
|
في الصورة الذهنية الكبيرة، أزالت الصور والفيديوهات والآلة الإعلامية
للمقاومة الوهم العالمي بجيش إسرائيل الذي لا يقهر، والذي يأخذ دائمًا عنصر
المفاجأة ويقوم بعملياته العسكرية الهجومي |
"في السجن تعاملوا معي بالحسنى.. فكما يبدو لم يكونوا يريدون التورط بأسر امرأة
مسنة مريضة.. حرصوا على جلب طبيب فحصني وتكلم معي برقّة، وكتب لي دواء جلبوه وحرصوا
أن أتناوله في الموعد. وعادني الطبيب مرة كل ثلاثة أيام. تعاملوا معي برقّة. وكانوا
مؤدبين جداً ولبّوا كل طلباتي. ثم فاجأوني بأن أطلقوا سراحي".. هذه الكلمات أحدثت
انقلابًا اعلاميًا، حيث إن الوصف لم يتطابق مع خط الإعلام الرسمي الاسرائيلي ولا
الغربي المتماهي، فيما وصف بـ"عملية إعلامية مضادة" تصب مباشرة في مصلحة حماس
والمقاومة، التي تطابقت تصريحاتها مع ما ذكرته المرأة في تصريحاتها العلنية.
المعلم الثالث،
كسر الصورة الذهنية عن الاحتلال وقواته واستعداداته القتالية والحمائية للمستوطنين،
فلا غرو أن لقطات وفيديوهات رجال المقاومة الفلسطينية أثناء اقتحام المستوطنات
وعمليات الأسر المهينة للغاية لجنود الاحتلال واختبائهم من المقاومة، وتدمير
المستوطنات كان من آثارها أن حطمت معنويات جنود الاحتلال ووضعتهم أمام أنفسهم في
صورة مذلة للغاية، وكسرت إلى حد كبير ثقتهم بقادتهم وأظهرت فشلهم الكبير في الجوانب
العسكرية والاستخباراتية.
كما حطمت الصورة المنقولة من قبل المقاومة كذلك من الصورة المضادة للمستوطنات
الآمنة والبعيدة عن يد المقاومة وسلاحها، فإذا بها تقع في غضون ساعات قليلة في يد
رجال حماس يفعلون بها ما يشاءون، فيما الجيش الإسرائيلي احتاج لساعات طويلة حتى
يفيق من صدمته، وكان المئات من المستوطنين حينها في الأسر أو لقوا حتفهم صرعى.
وفي الصورة الذهنية الكبيرة، أزالت الصور والفيديوهات والآلة الإعلامية للمقاومة
الوهم العالمي بجيش إسرائيل الذي لا يقهر، والذي يأخذ دائمًا عنصر المفاجأة ويقوم
بعملياته العسكرية الهجومية،
ولا ينتظر أن يكون في موقف الدفاع على الإطلاق.
المعلم الرابع،
أن إعلام المقاومة يبرز بصورة جلية وواضحة أثناء المعركة تركيزه على وقف العدوان
وتوفير المساعدات الإنسانية لسكان غزة مع الاهتمام بقضية الأسرى في سجون الاحتلال،
وهو ما يعني مرة أخرى أنه يعطي القضايا المجتمعية اهتمامه الرئيس، أملًا في الحفاظ
على حاضنته الشعبية في غزة، فلا توجد أية مطالب خاصة للمقاومة ورجالاتها، بل هي
مطالب عامة لكافة الأطياف في غزة، كما أن قضية الأسرى ليست بقضية خاصة، بل هم من
أولويات القضايا الفلسطينية، إذ لا تكاد تجد بيتًا ليس فيه أسيرًا قابعًا منذ سنوات
في سجون الاحتلال دون بارقة أمل في خروجه.
وقد كثر الحديث على لسان المتحدث باسم حركة حماس، أنها لن تناقش مصير أسرى الجيش
الإسرائيلي حتى تنهي إسرائيل عدوانها على قطاع غزة، وأن موقف الحركة واضح وهو تبادل
الأسرى العسكريين بأسرى المقاومة، ولا يتم الحديث فيه إلا بعد الانتهاء من العدوان
على غزة.
المعلم الخامس،
استطاع إعلام المقاومة أن يفجر قضية في الداخل الاسرائيلي تشكل ضغطًا قويًا للغاية
على صانع القرار، وهي القضية المتعلقة بأسراه في غزة والذي وقعوا في قبضة المقاومة،
فقد أعلن المتحدث باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس أن نحو 50 أسيرًا
محتجزين لديهم قتلوا جراء الغارات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، وسبق أن
أعلنت القسام أسرها ما بين 200 و250 إسرائيليًا.
وهذا الإعلان من قبل إعلام المقاومة جعل ذوي الأسرى في قلق شديد بشأن فرص عودتهم،
منتقدين بشدة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ووزراء حكومته في التعامل مع هذه
القضية، ملوحين بالتصعيد إذا لم يلتقوا مع المجلس الوزاري المصغر.
بل إن الهجوم البري قد يتأجل أو يتم إلغاؤه بسبب إعلانات المقاومة عن الرهائن
وإبرازها إعلاميًا، وهو ما أكدته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، ولفتت إلى أن ذلك يعود
إلى إطلاق حركة حماس سراح رهائن، وهو ما يعني لدى الشارع الإسرائيلي أن المفقودين
يمكن أن يعودوا بدون حرب برية، وأن تلك الحرب قد تكون السبب الرئيس في مقتلهم؛ ومن
ثم فقدهم إلى الأبد.
المعلم السادس،
نجحت المقاومة في معركتها الإعلامية في فرض حرب نفسية رادعة جعلت الاحتلال
الإسرائيلي وورائه الآلة العسكرية الأمريكية في تردد واضح من الإقدام على العدوان
البري، فإعلان المقاومة كثيرًا عن إعداد ما لا يتوقعه الاحتلال عسكريًا إذ أقدم على
عدوانه البري جعل الامر وكأنه مهلكة محتمة للجنود الإسرائيليين، في وقت يخشى
الاحتلال من مزيد من الخسائر في قواه البشرية، فيما المقاومة ليس عندها حقيقة ما
تخشاه وهي تقاتل على أرضها ومن أجل قضية عادلة، وبقوة نفسية لا تتردد، وفي هذا
الإطار نفهم ما صرح به المتحدث باسم حركة حماس في قطاع غزة، إنه في حال إقدام
إسرائيل على الدخول البري للقطاع فستكون هذه فرصة سانحة لتكبيد قواتها الخسائر
فادحة قتلًا وأسرًا.
|
رغم هذا الطوفان الإعلامي المعادي في الداخل العربي، والخارج الغربي المضاف
إلى الآلة الإعلامية الإسرائيلية، إلا أن المقاومة الفلسطينية، حققت نجاحات
في المعركة الإعلامية، وأحرزت أهدافًا مؤثرة للغاية في مرمى العدو
الإسرائيلي
|
المعلم السابع،
يحرص إعلام المقاومة على إعلان استشهاد بعض قادته في قطاع غزة، نتيجة القصف
الإسرائيلي المستمر، وفي ذلك تأكيد للحاضنة الشعبية الفلسطينية بأن القادة وسطهم،
يعانون مثلما يعاني أهل القطاع كلهم من آثار القصف والدمار، وتنالهم آلة القتل هم
وأسرهم وأطفالهم وزوجاتهم كغيرهم من أبناء القطاع، في صورة مضادة لما تروجه الآلة
الإعلامية الإسرائيلية، ومن كان على شاكلتها بأنهم يختبئون في أماكن خاصة، وهم
بمعزل عما يلاقيه أهل القطاع من نكبات وكوارث، وفي ذلك تأكيد من إعلام المقاومة
للحمة الاجتماعية وحفظًا للحاضنة الشعبية.
وفي الأخير،
فإننا أمام منظومة للمقاومة الفلسطينية تكاد تكون متكاملة في جوانبها العسكرية
والإعلامية، في ضوء الإمكانيات المتاحة لها، والمتابعة التاريخية الدقيقة تظهر
التطور اللافت في مساراتها في الجانبين معًا، وأن كل تطور في المسار العسكري،
يقابله ويعضده تطور في الممارسة الإعلامية، وهو ما يعكس التقدم النوعي للمقاومة
بصورة عامة.