لماذا تتجنب الولايات المتحدة وصف ما جرى في النيجر بأنه انقلابٌ عسكري؟
وكيف يختلف الموقف الأمريكي عن الموقف الفرنسي؟ ولماذا تبدو أمريكا حريصة على نفي أي مساعدات قدمتها ميليشيات فاغنر للانقلابيين؟
"الوضع مائع ولا يزال محاولة لإزاحة رئيس النيجر محمد بازوم"
هذا ما صرح به المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر ردًا على الصحفيين
الذين سألوه عن الموقف الأمريكي من انقلاب النيجر، وأضاف المتحدث "نحن نراقب ونراقب
الوضع ونحاول منع الإطاحة بالرئيس بازوم".
ففي يوم الأربعاء الموافق 26 يوليو الماضي، أعلن عدد من عناصر الحرس الرئاسي في
النيجر عبر التلفزيون الرسمي، عزل الرئيس محمد بازوم واحتجازه وأسرته ووزير
الداخلية وإغلاق حدود البلاد الواقعة غرب إفريقيا. وقال الجنود إنهم عطلوا الدستور
وعلقوا عمل جميع المؤسسات في البلاد.
في اليوم الثاني للانقلاب، أعلن قائد الجيش عن تأييده للقوات التي أعلنت الاستيلاء
على السلطة في البلاد، وتولى الرئيس السابق للحرس الرئاسي في النيجر الجنرال عبد
الرحمن تياني السلطة على رأس مجلس عسكري، لتتوالى ردود أفعال دول الجوار والاقليم
والقوى الدولية.
|
الموقف
الأمريكي وبالرغم من تنديده بما حدث، ولكنه يبدو إذا تمت مقارنته بالموقف
الفرنسي والأوروبي، جاء أكثر هدوء وحذرًا، وتجنب المسئولون في الإدارة
الأمريكية والمتحدثون باسمها، وصف ما جرى بأنه صراحة انقلاب |
فدول الإقليم في غرب أفريقيا والتي تمثلها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا
"إيكواس" هددت بالتدخل العسكري لإعادة الرئيس إلى السلطة في غضون أسبوع، وذلك بعد
يوم من إصدار مجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي بياناً يطالب العسكريين
بالعودة الفورية وغير المشروطة إلى ثكناتهم وإعادة السلطة الدستورية خلال مهلة
أقصاها 15 يوما.
ولكن بعض دول الجوار كان لها رأي مختلف، فقد حذّرت السلطات في بوركينا فاسو ومالي،
في بيان مشترك، من أن أي تدخل عسكري في النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب على بوركينا
فاسو ومالي، كما أخذت غينيا أيضًا نفس الموقف، وفي الجزائر بالرغم من ادانتها
للانقلاب، إلا انها حذرت من أي تدخل خارجي سواء أفريقي أو دولي.
أما في المواقف الدولية فقد كان أبرزها بالطبع الموقف الفرنسي، حيث تعتبر تلك
المنطقة منطقة نفوذ تاريخي لفرنسا، لذلك سارعت إلى التنديد به، وهددت باستخدام
القوة العسكرية لإنهائه واسترجاع الديمقراطية في النيجر، وكما كانت على ما يبدو
وراء موقف الاتحاد الأوروبي الذي أصدر بيانات متوالية داعيًا لاستخدام القوة
العسكرية لإحباط الانقلاب.
لكن في الوقت ذاته، فإن روسيا والصين دعتا أيضًا علنًا إلى العودة إلى سيادة
القانون، وإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه، وان كانت النوايا الحقيقية تختفي
وراء هذه التصريحات.
أما
الموقف الأمريكي وبالرغم من تنديده بما حدث، ولكنه يبدو إذا تمت مقارنته بالموقف
الفرنسي والأوروبي، جاء أكثر هدوء وحذرًا، وتجنب المسئولون في الإدارة الأمريكية
والمتحدثون باسمها، وصف ما جرى بأنه صراحة انقلاب،
بل تحدثوا عن محاولة لإزاحة رئيس النيجر محمد بازوم.
ففي اليوم التالي للانقلاب، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: تحدثت مع
الرئيس بازوم في وقت سابقٍ هذا الصباح، وقلت له بوضوحٍ إن الولايات المتحدة تدعمه
بقوة بصفته رئيساً للنيجر منتخباً بشكل ديمقراطي، مطالبًا بإطلاق سراحه فورًا.
وأعلن بلينكن أن استمرار المساعدات التي تقدمها بلاده للنيجر مرهون بالحفاظ على
الديمقراطية في الدولة الإفريقية.
كما طالبت الولايات المتحدة بإطلاق سراح بازوم على لسان مستشار الأمن القومي بالبيت
الأبيض جيك سوليفان، وأضاف: ندين بشدة أي محاولة لاعتقال أو إعاقة عمل الحكومة
المنتخبة ديمقراطيًا في النيجر، والتي يديرها الرئيس بازوم.
وقال متحدث باسم بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة إن واشنطن تدعم قيام مجلس
الأمن بإجراءات لخفض التصعيد في النيجر، وذكر بيان أمريكي أن سفيرة واشنطن لدى
الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، تحدثت إلى رئيس النيجر محمد بازوم.
كما نقلت وكالة رويترز أن رئيس الأركان الأمريكي بحث هاتفيًا مع قائد الجيش في
النيجر التطورات وحماية الأمريكيين، وذكرت شبكة سي إن إن الأمريكية عن مسؤول في
الخارجية الأميركية أنه لا مؤشرات على أن فاغنر ساعدت في الاستيلاء على السلطة في
النيجر.
وهنا تُثار عدة أسئلة:
لماذا تتجنب الولايات المتحدة وصف ما جرى في النيجر بأنه انقلابا عسكريا؟
وكيف يختلف الموقف الأمريكي عن الموقف الفرنسي؟ ولماذا تبدو أمريكا حريصة على نفي
أي مساعدات قدمتها ميليشيات فاغنر للانقلابيين؟
لفهم أبعاد وحقيقة الموقف الأمريكي من انقلاب النيجر، يجب علينا تتبع موقع النيجر
في الاستراتيجية الأمريكية، ثم فهم أبعاد الصراع الأمريكي الروسي في أفريقيا.
النيجر في الإستراتيجية الأمريكية
تعد دولة النيجر إحدى ركائز الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على ما تطلق عليه
الإرهاب في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، فقد اعتبرت أمريكا هذه الدولة الأفريقية
أنها نقطة انطلاق ضد "المتطرفين العنيفين" وهذا اللفظ استخدمته صحيفة وول استريت
جورنال الأمريكية.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في 2001 وغزوها لأفغانستان للقضاء على تنظيم
القاعدة، انتبهت أمريكا إلى خطر انتشار التنظيم وتمدده خارج أفغانستان، فبدأت في
تعزيز تواجدها العسكري في منطقة غرب أفريقيا في عام 2002، وقدمت مساعدات عسكرية
للنيجر هدفها مكافحة الإرهاب.
وبحسب تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية في إفريقيا، التابع لوزارة الدفاع
الأمريكية، أنه خلال عامي 2002 و2003، بدأت المساعدات العسكرية الأمريكية تتدفق على
النيجر تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. ولكن في حين سجلت وزارة الخارجية الأمريكية 9
هجمات إرهابية فقط في جميع أراضي القارة الإفريقية. لكن العام الماضي فقط ومع صعود
داعش، تم رصد 2737 هجوماً عنيفاً في بوركينا فاسو ومالي وغرب النيجر فقط.
ولكن ما حجم تلك المساعدات العسكرية الأمريكية التي قدمتها للنيجر؟
تدخل النيجر في منطقة القيادة الأفريقية (أفريكوم) التابعة لهيئة الأركان الأمريكية
المشتركة، والتي تشرف عسكريًا على القارة الأفريقية كلها باستثناء مصر، وينضم تحت
لوائها ما يقرب من 6 آلاف عسكري.
وجاء في مقال لمجلة ذا انترسبت الأمريكية، أن أمريكا قد زودت النيجر بالعتاد
العسكري بداية من العربات المدرعة إلى طائرات المراقبة، ومنذ عام 2012 تم إنفاق 500
مليون دولار قدمتها الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت إلى النيجر، ما يجعلها أكبر
برنامج مساعدات أمريكية لدولة في منطقة الصحراء الكبرى الإفريقية.
وفي النيجر أيضًا شاركت قوات أمريكية في القتال ضد الجماعات المسلحة، وقُتل أفراد
من القوات الأمريكية في كمين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2017، وعلى مدى
العقدين الماضيين، ارتفع عدد القوات الأمريكية في النيجر من نحو 100 فقط إلى أكثر
من 1000.
وفي عام 2019، أنشأ البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) قاعدة جديدة للطائرات بدون
طيار في مدينة أغاديز شمال النيجر، ويستخدمها لضرب الجماعات المسلحة في جميع أنحاء
غرب وشمال أفريقيا، كما تستضيف تلك القاعدة طائرات بدون طيار من طراز "إم كيو 9
ريبير" ، وبلغت تكلفة إقامتها 110 ملايين دولار، وإدارتها وصيانتها ما بين 20 و30
مليون دولار سنوياً، والقاعدة هي المركز الرئيسي لعمليات المراقبة وتنسيق الهجمات
في منطقة غرب إفريقيا بالكامل.
وتشير دراسة حديثة صادرة عن مركز خدمات أبحاث الكونغرس، إلى أن الجيش الأميركي يقوم
بمجموعة من الأنشطة في أفريقيا، بما فيها تلك التي تنطلق من النيجر، ومنها الضربات
المباشرة، حيث اعترف الجيش الأمريكي بشن ضربات ضد أهداف زعم أنها إرهابية في ليبيا
وبعض دول الساحل.
|
الهدوء
الأمريكي المستقبل للانقلاب، يؤكد الرغبة الأمريكية في إبعاد روسيا عن
النيجر، الأمر الذي يفسر النفي الأمريكي الرسمي لمشاركة فاغنر في الانقلاب،
ويفسر أيضًا، مسارعة أمريكا في أعقاب الانقلاب إلى
إرسال مبعوثتها فيكتوريا نولاند للنيجر |
ووفقًا للمركز الذي يُعد الجهة البحثية التي تمد أعضاء مجلس النواب والشيوخ بدراسات
موثقة، فإن البنتاغون يعمل مع النيجر على بناء وتحديث قدراته الأمنية من خلال تقديم
المساعدة العسكرية التي يديرها مع وزارة الدفاع في النيجر، وإضافة إلى الدعم
اللوجستي، يشرف البنتاغون على أنشطة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في منطقة
الساحل وحوض بحيرة تشاد، التي تعمل أساسًا من النيجر، من خلال مرافق في العاصمة
نيامي ومدينة أغاديز الشمالية.
هذه التقارير توضح المكانة التي تحظى بها دولة النيجر في الاستراتيجية الأمريكية
لمكافحة ما أسمته بالإرهاب، والتي تعززت بعد أن طرد القادة العسكريون في مالي
وبوركينا فاسو القوات الغربية في السنوات الماضية.
ولكن في الفترة الأخير استجد أمر آخر يتعلق بالصراع الدولي.
الصراع الأمريكي الروسي في أفريقيا
جاء ترحيب قائد مجموعات فاغنر الروسية فغيني بريغوجين بالانقلاب في النيجر، وقوله
إن قواته متاحة لاستعادة النظام، ليثير مجددا الحديث عن التدخل الروسي في أفريقيا.
ولم يكن لقائد فاغنر هذا التصريح الوحيد الذي يثير القلق الغربي، فبعد فشل تمرده في
روسيا في يونيو الماضي، صرح بريغوجين أن توجه مجموعته سيكون إلى أفريقيا، كما ظهر
علنًا إلى جانب مسؤولين أفارقة في القمة الأفريقية الروسية، التي عُقدت في 27 و28
يوليو الماضي في سان بطرسبرغ الروسية.
ومن المعروف أن فاغنر باتت الذراع العسكرية للتمدد الاستراتيجي الروسي في مناطق
العالم المختلفة، ووسيلة من وسائل مناطحة الولايات المتحدة وتغيير النظام الدولي
لتحويله إلى متعدد الأقطاب وإنهاء التفرد الأمريكي وهيمنته على العالم.
وازدادت أهمية وجود فاغنر في أفريقيا بعد الضغوط المتزايدة التي تواجهها القوات
الروسية في أوكرانيا، حينها باتت روسيا تنظر إلى تدخلها في أفريقيا كوسيلة لتخفيف
الضغط الغربي عليها في أوكرانيا.
وهذا الأمر أيضًا بات الشغل الشاغل لإدارة بايدن منذ وصولها للبيت الأبيض قبل نحو
عامين، ولذلك عملت على استدراج روسيا واستنزافها في حرب أوكرانيا، ومحاصرة تمددها
العالمي.
الهدوء الأمريكي المستقبل للانقلاب، يؤكد الرغبة الأمريكية في إبعاد روسيا عن
النيجر، الأمر الذي يفسر النفي الأمريكي الرسمي لمشاركة فاغنر في الانقلاب، ويفسر
أيضًا، مسارعة أمريكا في أعقاب الانقلاب إلى
إرسال مبعوثتها فيكتوريا نولاند للنيجر، ولكنها فشلت في مقابلة الرئيس بازوم، أو
قائد الانقلاب، حيث قابلت رئيس أركان القوات المسلحة الجديد، الجنرال موسى صلاح
برمو، وهو القائد العسكري الحليف لأمريكا.
ولكن هذا الهدوء في التعامل يخفي القلق الأمريكي، وهو ما عبر عنه مسؤول استخباراتي
أمريكي رفيع لصحيفة وول ستريت جورنال بقوله: إن النيجر كانت "آخر موطئ قدم رئيسي"
في منطقة الساحل للقوات الأمريكية والفرنسية، وهي آخر قطعة من الدومينو نأمل ألا
تسقط. إذا سقطت، فأنا لا أعرف بالضبط ما الذي سنفعله.