تحاول فرنسا بعث نفسها من جديد في قمة المجد السياسي الأوروبي لكنها تتعثر في موقفها المتأرجح في عدة ملفات أبرزها دور الناتو المستقبلي في حماية أوروبا والاستغلال الأمريكي للضغط على دول الاتحاد الأوروبي
مضى عام على إعادة انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمرة الثانية ولا يزال
الرجل يحتفظ في جعبته بأجندة محلية ودولية يحاول من خلالها فرد بساط الهيمنة
الاستعمارية الفرنسية القديمة بعد أن شهد نفوذها في إفريقيا والشرق الأوسط خيبات
أمل عديدة.
تحاول فرنسا بعث نفسها من جديد في قمة المجد السياسي الأوروبي لكنها تتعثر في
موقفها المتأرجح في عدة ملفات أبرزها دور الناتو المستقبلي في حماية أوروبا
والاستغلال الأمريكي للضغط على دول الاتحاد الأوروبي لاستثمار هذا الملف لخدمة
المصالح الأمنية الأمريكية والمنافسة الحادة بين باريس وبرلين للعب دور الزعامة في
صناعة القرار الأوروبي والموقف الأهم في الحرب الأوكرانية الذي من شأن تبعاته
التأثير على مستقبل أوروبا بأكملها.
على الصعيد الداخلي كان ماكرون وحكومته يكافحان من أجل تشريعات جديدة عبر الجمعية
الوطنية تتعلق بسن التقاعد للتغلب على الأزمات الاقتصادية المتفاقمة التي تشهدها
البلاد بالتزامن مع ذلك كانت الشوارع تعج بالمحتجين الذين حولوا باريس إلى كتلة من
لهب سببت زيادة في الفجوة الاجتماعية بين المهاجرين والفرنسيين من ذوي العرق
الأبيض، فقد واصلت الحكومة روايته التشريعية بضرورة التشديد في إجراءات تطبيق
العلمنة المجتمعية على حساب المسلمين في فرنسا بينما كانت طريقتها الوحيدة تشييد
"جيتوهات" اجتماعية وتشريعية لمحاصرة هذه الأقلية.
وسط هذه الفوضى الداخلية كان ماكرون يحاول ترميم مكانة فرنسا الدبلوماسية في عيون
حلفائه ومنافسيه على حد سواء، فقد قاد جاك شيراك معارضة قوية للهجوم الأمريكي على
العراق عام 2003، لكن استنساخ تجربة شيراك في الملفات الخارجية قاد ماكرون للفشل في
عدة مرات آخرها كانت الوساطة الفاشلة بين روسيا وأوكرانيا عام 2021 وبسبب هذه
الانتكاسة اضطر إلى دعم أوكرانيا وجعل باريس تتصدر الدعم الغربي لكييف كما حاول
جاهداً إخراج مجتمع دبلوماسي أوروبي جديد بتوسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال
الأطلسي عبر ضم العديد من الأعضاء لكنه تعثر أمام الابتزاز الأمريكي.
في آخر صولاته التي كانت جزءًا من استراتيجيته لتحسين علاقة فرنسا بدوائر النفوذ في
المحيطين الهندي والهادي استضاف مؤخراً رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الذي أكد
أن الزيارة تأتي بمناسبة مرور 25 عاماً على إطلاق الشراكة المتميزة بين البلدين.
يحاول ماكرون استغلال ولايته الثانية لبناء تحالفات خارجية متجاوزاً حالة الاحتقان
الداخلي الموجودة متجاهلاً قدرة مثل هذه الأزمات على إحباط أي تقدم على صعيد
الملفات الخارجية، فقد ركزت تغطية وسائل الإعلام الغربية في الفترة الماضية على
قدرة فرنسا الواضحة على مقاومة الإصلاح واحتواء مستويات العنف المتصاعدة بين الشرطة
والمتظاهرين وتزايد أعداد الهجمات على السياسيين في البلاد.
أحبطت هذه الأحداث زيارة ملك بريطانيا تشارلز الثالث في مارس الماضي لباريس، وأربكت
زيارة ماكرون لبرلين، حيث كان الرجل يسعى لترميم العلاقات مع المنافس الأبرز له في
الاتحاد الأوروبي، فقد استشعرت أوروبا بأسرها خيبة الأمل الفرنسية حيث نشر رئيس
الوزراء البولندي ماتيوز مروافيكي تغريدة قارن فيها بين الوضع الأمني في كلا
البلدين بنوع من السخرية.
ذهب ماكرون باتجاه اليمين المتطرف لمعالجة مشاكله الداخلية ولترميم صورته، محاولاً
فرض قوانين صارمة لمحاربة الهجرة وقمع المتظاهرين، فقد استشعر الرئيس الفرنسي أن
منافسته في الانتخابات الرئاسية المتطرفة مارين لوبان قد حصلت على 41 في المائة من
أصوات السكان في استطلاعات الرأي بفضل مواقفها المتطرفة، بينما حصل ماكرون على 28
في المائة فقط وهذا مؤشر يؤكد انقسام كبير داخل المجتمع الفرنسي بين أكثرية يمينية
متطرفة وأقلية تسير خلف اليسار . في انتخابات البرلمان الأوروبي يتوقع أن يحصل حزب
التجمع الوطني بقيادة لوبان على 26 في المائة من المقاعد بينما سيحصل حزب النهضة
بزعامة ماكرون على 20 في المائة.
هذا الملف قد يضغط على طموحات ماكرون بتوسيع الاتحاد الأوروبي فمنافسته لوبان تعارض
أي مخططات لضم المزيد من الأعضاء في الاتحاد، فهي تستغل الآراء السلبية الفرنسية
اتجاه ضم أوكرانيا للاتحاد، لكن بالنسبة للاتحاد الأوروبي فإن تعزيز قوة اليمين
المتطرف داخل البرلمان ربما يحد من مخططاته في تأمين ضم المزيد من الأعضاء في
الناتو والاتحاد على حد سواء وكذلك القضاء على الطموحات الفرنسية في بناء صناعة
دفاعية أوروبية مستقلة بعيداً عن الابتزاز الأمريكي. فالهدف الأساسي للأوروبيين ليس
انتشال فرنسا من أزماتها الداخلية، بل استغلال احتياجها الاقتصادي والتركيز على
استثمار موقفها السياسي لضمان دعم موقف أوروبي موحد ضد روسيا.