• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
«فاتورة العنصرية».. جذور أزمة ضواحي المهاجرين في فرنسا

بدأت تتشكل ظاهرة الضواحي أو الأحياء الشعبية بمفهومها الحالي بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، حيث استعانت فرنسا بأبناء مستعمراتها لإعادة بناء ما دمرته الحرب، في ظل نقص عمالتها المحلية وترفعها عن الأعمال الشاقة أو الملوثة.


برز إلى السطح مرة أخرى جبل الجليد الضخم الذي يعبر عن مأساة ضواحي المهاجرين في فرنسا، وكيف تعمدت باريس تهميش سكان هذه الأحياء الذين جاءت بهم منذ عقود لخدمة الاقتصاد الفرنسي، بعدما سلطت الاحتجاجات التي نشبت في فرنسا مؤخرا بسبب مقتل الفتى الفرنسي نائل مرزوقي ذي الأصول الجزائرية، برصاص شرطي أبيض.

وفي حادثة مشابهة لمقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد الذي أطلق موجة احتجاجات واسعة ضد العنصرية في شتى أرجاء الولايات المتحدة في عام 2020، قتل الشاب الفرنسي ذو الأصول الجزائرية نائل، والبالغ من العمر 17 عاما برصاص شرطي فرنسي في ضاحية نانتير غرب باريس، الأمر الذي خلف موجة احتجاجات وعنف مستمرة في كل أنحاء فرنسا أثرت سلبا على معظم مؤشرات الاقتصاد.

 

قتلت الشرطة الفرنسية 13 شخصا في 2022 بسبب مخالفات مرورية، وبحسب تقارير دولية تصنف فرنسا البلد الأكثر قتلا بالرصاص من قبل الحكومة في أوروبا

وها هي السلوكيات العنصرية المتجذرة في صفوف قوات الأمن تجعل فرنسا تدفع ثمنا باهظا للغاية هذه المرة، فقد أجل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارة إلى ألمانيا كان من المقرر أن تبدأ في الثاني من يوليو الجاري، حيث تمثل هذه الأزمة إحدى أكثر الأزمات تعقيدا وتفجرا خلال فترة رئاسته منذ احتجاجات "السترات الصفراء" التي اجتاحت البلاد في أواخر عام 2018.

وبينما تستمر موجة الاحتجاجات والصدامات الاجتماعية العنيفة في فرنسا على إثر قتل الشرطة لمراهق من أصول جزائرية، كشفت هذه الأحداث الأخيرة مدى العنصرية الممنهجة والمتجذرة في السياسات الفرنسية في تعاملها مع المهاجرين من سكان الأحياء والضواحي الهامشية.

والاحتجاجات في فرنسا هي إحدى الطرائق التي يشارك بها الشعب في الحكم، لكنها مشاركة الغضب والتدمير، وعلى أي حال فإنها تدل على أن هناك عدم توافق وانفصالا خطيرا بين الدولة والشعب، وتعرض منزل رئيس البلدية في ضاحية "لاي ليه روز" في العاصمة لهجوم خلال الليل، وأطلقت صواريخ نارية على زوجته وأطفاله.

وتسبب الحادث في صدمة واسعة النطاق ويتم التعامل معه على أنه محاولة قتل، ووصفت رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، ذلك بأنه لا يطاق، ولم يكن عمدة بلدية لاي ليه روز، فانسان جانبرون، في المنزل، لكن زوجته أصيبت بكسر في ساقها وأصيب طفل في الهجوم.

وقتلت الشرطة الفرنسية 13 شخصا في 2022 بسبب مخالفات مرورية، وبحسب تقارير دولية تصنف فرنسا البلد الأكثر قتلا بالرصاص من قبل الحكومة في أوروبا، إذ أن حادثة مقتل نائل ليست الأولى من نوعها في البلاد.

ويرى مراقبون أن مقتل "نائل" جزء من أعراض نزعة مقلقة للشرطة في فرنسا، والتي حذر منها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مايو الماضي من "الاستخدام المفرط للقوة"، وتتهم الشرطة الفرنسية بأنها تواصل ممارسة العنف بشكل غير متناسب وفقا للعرق.

وتمثل الضواحي البلديات التي تقع على أطراف مراكز المدن وترتبط بها عمرانيا، ويقطنها في الأغلب مهاجرون عرب وأفارقة قادمون من المستعمرات الفرنسية السابقة.

بدأت تتشكل ظاهرة الضواحي أو الأحياء الشعبية بمفهومها الحالي بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، حيث استعانت فرنسا بأبناء مستعمراتها لإعادة بناء ما دمرته الحرب، في ظل نقص عمالتها المحلية وترفعها عن الأعمال الشاقة أو الملوثة.

وفي هذا الصدد، يقول الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، إن "المهاجرين لم يأتوا بمفردهم وإنما تم جلبهم بالشاحنات والقوارب، لأن فرنسا كانت بحاجة إلى العمالة في المناجم وصناعة السيارات والأشغال العامة وجميع الصناعات الملوثة التي يرفضها الفرنسيون".

في خمسينات وستينات القرن الماضي تم جلب أعداد كبيرة من المهاجرين إلى فرنسا للعمل في المناجم والمصانع والبناء والأشغال العامة، مقابل أجور زهيدة مقارنة بنظرائهم الفرنسيين.

وفي هذا السياق، وقعت فرنسا مع الجزائر اتفاقية 1968، التي بموجبها منحت باريس امتيازات استثنائية للجزائريين لدخول أراضيها والإقامة بها والعمل، وحتى لم شمل عائلاتهم.

ودعت منظمة مسلمي فرنسا إلى الهدوء في التعامل مع وفاة الشاب نائل، كما دعت السلطات الفرنسية لتحمل مسؤوليتها في استعادة ثقة الفرنسيين في شرطتهم وقضائهم.

وأضاف بيان للمنظمة أن العزاء لنائل لا يكتمل إلا بتحقيق العدالة، مذكرة أن النيابة الفرنسية اعتبرت أن اللجوء لاستخدام السلاح بحق نائل لم يستوف الشروط القانونية.

وقال بيان المنظمة إن مقتل نائل تسبب في اندلاع موجة من الغضب المبرر، لكنه امتد إلى تدمير الأملاك العامة والخاصة بشكل مؤسف لا يمكن تبريره.

 

إن غاية ما وصلت إليه تجربة الديمقراطية والانتخابات في فرنسا هو الظهور الفج للخطاب العنصري، وممارسة اليمين المتطرف ضغوطا كلامية على الأطراف السياسية جميعها

وأمام بيان منظمة مسلمي فرنسا الداعي للهدوء، توعد ماكرون بالحزم في مواجهة الاضطرابات، مشيرا إلى وجود جماعات متطرفة ومنظمة في صفوف المتظاهرين. وطلب ماكرون من منصات التواصل الاجتماعي إزالة لقطات الشغب "الأكثر حساسية" من صفحاتها وإبلاغ السلطات بهوية المستخدمين الذين يحضون على ارتكاب العنف.

يحكي الشاب "محمد جاكوبي" صديق أسرة الضحية الذي شاهد نائل وهو يكبر منذ أن كان طفلا، إن ما يؤجج حالة الغضب هذه هو الشعور بالظلم في الأحياء الفقيرة بعد أن مارست قوات الشرطة العنف ضد الأقليات العرقية، وكثيرون منهم ينحدرون من المستعمرات الفرنسية في السابق.

وأضاف جاكوبي :"سئمنا، نحن فرنسيون أيضا، نحن ضد العنف ولسنا حثالة"، بينما يدفن ماكرون رأسه في الرمال نافياً وجود عنصرية ممنهجة داخل أجهزة إنفاذ القانون، وقد وصلت الكراهية في فرنسا للأجانب والعنصرية الفرنسية إلى ذروتها، تمت مقارنة هذه الاحتجاجات الغاضبة من المغاربة بثوران الغضب الذي حدث عام 2005، وهناك انزعاج متزايد من سلوك الشرطة تجاه العرب من أصل مغاربي.

ويتم باستمرار توقيف الأشخاص وطلب مستندات هوياتهم، ويتم معاملتهم كمجرمين في أوقات وتحت دواع غير منطقية، مما يخلق إحساسا متزايدا بالإقصاء والإذلال العنصري للمغاربة، ولذلك فإن اغتيال مثل هذا يمكن أن يكون بمثابة شرارة لتفجير الغضب المتزايد.

وهذا النوع من المعاملة للأفارقة الذين استغلتهم فرنسا لسنوات طويلة، وعرضتهم لجميع أنواع القسوة والقمع والتعذيب هناك وأثناء الاستغلال الفرنسي لأراضيهم أيضا، تسبب في تزايد الاستياء وتراكمه بصورة خطيرة.

علاوة على ذلك فإن الوضع الحالي في فرنسا يثبت أنها لم تتمكن من تبني الأشخاص الذين يعيشون في هذه الأراضي لأجيال عدة، والذين يتنفسون اللغة والثقافة الفرنسية ودمجهم قدر الإمكان في بوتقة الأمة الفرنسية، بل على العكس من ذلك فإن الحقيقة الواضحة هي أن العنصرية التي تمنع الاندماج تتزايد أكثر فأكثر كل يوم، الأمر الذي غالبا ما يجلب الأمور إلى هذه النقطة.

وهذه في الواقع مشكلة خطيرة يتعين على أوربا بأكملها التعامل معها، فالقنوات التي تدخل من خلالها الديمقراطية الأوربية دون مواجهة خلفيتها التاريخية تضعها في نهاية المطاف وجها لوجه مع واقعها الخاص، وضمن هذا الواقع توجد فاتورة قرون من الاستعمار الأوربي، ولذلك فإن دعاوى التنوير وادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات تواجه اختبارا وتحديا مستمرا لإثبات حقيقتها.

حيث إن غاية ما وصلت إليه تجربة الديمقراطية والانتخابات في فرنسا هو الظهور الفج للخطاب العنصري، وممارسة اليمين المتطرف ضغوطا كلامية على الأطراف السياسية جميعها في خطاب الدعاية الانتخابية، ورغم أن زعيمة الحزب اليميني المتطرف “مارين لوبان” لم تفز في الانتخابات، فإنه يتوجب على ماكرون دفع ثمن باهظ لكل تصريحات الفترة الانتخابية، وهذا ليس عائقا ضئيلا يستهان به.

الخطاب العنصري كان سببا في تداعي الاقتصاد الفرنسي الذي لا تنقصه الأزمات والمشاكل الإضافية، لتأتي الاحتجاجات الحالية لتزيد الوضع الاقتصادي تأزما بخاصة مع تضرر القطاع الخدمي والسياحي والفندقي بشدة، وكذا تضرر قطاع النقل بشكل مباشر بالاحتجاجات العنيفة والتي صاحبها عمليات سلب ونهب للأنشطة التجارية المختلفة.

ومنذ انطلاق حرب أوكرانيا تعاني فرنسا من أزمات تضخم، وزيادة كبيرة في تكلفة واردات الطاقة، ومخاوف من حدوث انفجار اجتماعي وزيادة الدين العام والذي تجاوز 3 تريليون دولار.

وقبل أسابيع كانت فرنسا على موعد مع احتجاجات وإضرابات عمالية واسعة رفضا لإصلاح قانون التقاعد، والآن تأتي الضربة من تظاهرات واسعة في معظم المناطق الفرنسية والتي صاحبتها أعمال شغب ونهب للممتلكات الخاصة والمحال والمطاعم.

خلاصة القول، أن فرنسا تظن أنها بتمييزها العنصري واستفزازها وتهميشها للمسلمين والعرب، وتفسح المجال حصرا لتفوق العرق الأبيض الفرنسي والأوروبي، وتنشئ أجيالا علمانية معادية للقيم الإسلامية.

لكنها لا تدري أن ممارساتها العنصرية لن تزيدها إلا خسارة، فلا يمكن للازدهار المستدام والتمييز العنصري أن يجتمعا في مكان واحد.

 

 

أعلى