• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عرش الرحمن سبحانه

أعظم شرف للعرش استواء الرحمن سبحانه وتعالى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، والاستواء هو العلو والاتفاع؛ فالله تعالى عال على عرشه بذاته، وعرشه فوق خلقه


الحمد لله الولي الحميد؛ ذي العرش المجيد، والحبل الشديد، والأمر الرشيد، فعال لما يريد، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دل بخلقه على عظمته، وبتدبيره على حكمته، وبقدره على رحمته وعدله، وبآياته على ربوبيته وألوهيته؛ فهو الرب المعبود، وما سواه عبد مربوب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان دائم التعظيم لله تعالى، والتذكير بقدرته سبحانه، والتفكر في آياته عز وجل، وكان يقوم له قانتا حتى تتفطر قدماه من طول القيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستقيموا على أمره ولا تعوجوا، واستمسكوا بدينه ولا تفلتوا، وخذوا بأمره ولا تتركوا، وقفوا عند حدوده ولا تعتدوا؛ فإنكم إلى ربكم راجعون، وعلى أعمالكم محاسبون، ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 102- 103].

أيها الناس: عظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق سبحانه، وأعظم مخلوق عرش الرحمن سبحانه. وإذا كان الكرسي وهو دون العرش قد قال الله تعالى فيه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة: 255]، فكيف إذن بالعرش الذي هو أعظم من الكرسي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ». وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ» صححه ابن حبان.

والعرش مخلوق قبل خلق السماوات والأرض، بل قيل: إنه أول المخلوقات؛ كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» رواه البخاري. وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» رواه مسلم.

والعرش سقف المخلوقات؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ» رواه البخاري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ».

وللعرش قوائم؛ كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ» رواه الشيخان.

والعرش أثقل مخلوق؛ ودليل ذلك التسبيح المضاعف المأثور: «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ زِنَةَ الْعَرْشِ أَثْقَلُ الْأَوْزَانِ».

وورد ذكر العرش في القرآن أكثر من عشرين مرة، ووصف بأنه عظيم في ثلاث آيات من القرآن، منها قوله تعالى ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: 26]. وذلك لأنه أعظم المخلوقات. ووصف بأنه كريم؛ لأنه قد استوفى الفضائل اللائقة به ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116]. ووصف بأنه مجيد في إحدى القراءات لقول الله تعالى ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ﴾ [البروج: 15]؛ وذلك لجلالته وعظم قدره.

والعرش محمول يحمله ملائكة مقربون؛ كما قال الله تعالى ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17]، وهم ملائكة عظام الخلق لا يعلم مقدار خلقهم إلا الله تعالى؛ كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ» رواه أبو داود.

وهم أفضل الملائكة وأقربهم إلى الله تعالى، وإذا قضى سبحانه وتعالى أمرا سبحوا؛ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «...رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا» رواه مسلم. قال القرطبي: «فيه ما يدل على أن حملة العرش أفضل الملائكة وأعلاهم منزلة». وحملة العرش يحبون المؤمنين، ويدعون لهم، وهذا من شرف الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: 7].

ومن شرف العرش أن الشمس تسجد تحته لله تعالى كل يوم؛ كما في حديث أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [يس: 38]» رواه الشيخان.

نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يجعلنا من عباه الصالحين، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واقدروه حق قدره، واعبدوه حق عبادته؛ فإن ربكم عظيم في ذاته وأسمائه وصفاته وخلقه وأفعاله ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: 3].

أيها المسلمون: أعظم شرف للعرش استواء الرحمن سبحانه وتعالى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، والاستواء هو العلو والاتفاع؛ فالله تعالى عال على عرشه بذاته، وعرشه فوق خلقه. وكرر ذكر استوائه سبحانه على العرش في القرآن سبع مرات، عدا ما في السنة النبوية، قال الله تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [السجدة: 4]، وقال تعالى ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وأجمع سلف هذه الأمة على الأخذ بظاهر هذه النصوص، والإقرار باستواء الله تعالى على عرشه، دون البحث في الكيفية، ونقل هذا الإجماع عدد منهم، قال الإمام الأوزاعي: «كُنَّا والتابعون متوافرون نقُول إِن الله عزوجل فَوق عَرْشه، ونؤمن بِمَا وَردت بِهِ السّنة من صِفَاته». وقَالَ الإمام ابن رَاهَوَيْه: «إِجْمَاعُ أهل الْعلم أَنه فَوق الْعَرْش اسْتَوَى، وَيعلم كل شَيْء فِي أَسْفَل الأَرْض السَّابِعَة».

وهذا معتقد أئمة المذاهب الأربعة، قال أبو حنيفةَ: «نُقِرُّ بأنَّ اللهَ تعالى على العَرْشِ استوى من غيرِ أن يكونَ له حاجةٌ»، وقيل للإمام مالك: «كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ مالك: اسْتِوَاؤُهُ مَعْقُولٌ، وَكَيْفِيَّتُهُ مَجْهُولَةٌ، وَسُؤَالُكَ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ، وَأَرَاكَ رَجُلَ سُوءٍ»، وقال الإمام الشافعي: «القَوْل فِي السّنة الَّتِي أَنا عَلَيْهَا، وَرَأَيْت عَلَيْهَا الَّذين رَأَيْتهمْ مثل سُفْيَان وَمَالك وَغَيرهمَا: الْإِقْرَار بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَأَن الله على عَرْشه فِي سمائه يقرب من خلقه كَيفَ شَاءَ، وَينزل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا كَيفَ شَاءَ». وقال الإمام أحمد بن حنبل: «وقد عرف أهل العلم أن فوق السماوات السبع: الكرسي والعرش واللوح المحفوظ...». فحري بالمؤمن أن يكون على عقيدة من سلف، ولا يلتفت لبدع الخلف، الذين ينكرون استواء الله تعالى على عرشه، ويحرفون معاني الآيات والأحاديث الواردة في ذلك. نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

أعلى