تقدر وزارة الخارجية الفرنسية قيمة عائدات شركات الحروب الخاصة بحوالي 400 مليار دولار، بحسب دراسة للباحث الأردني وليد عبد الحي، ذكر فيها أن مجموع أرباح هذه الشركات في الوطن العربي هو 45 مليار دولار ما بين 2011 و2014
تعود فكرة الأفراد المستأجرين للقتال -المرتزقة- إلى عصور غابرة، واليوم كشفت
انتصارات تلك المجموعات العسكرية عن مدى تطور مهام وأعداد تلك المجموعات، التي تحول
بعضها إلى جيوش صغيرة ذات تمويل وتسليح وتدريب فائق الجودة، وشركات للموت تقاتل في
أكثر من بلد.
شركة "فاغنر" الروسية أحد تلك الجيوش الصغيرة، برزت بقوة عقب سيطرتها على مدينة
باخموت الأوكرانية، في مواجهة جيش نظامي، ما يدعو إلى التساؤل حول الدور الذي تلعبه
هذه الشركات، وما إذا كان العالم يتجه نحو خصخصة الحروب، وتراجع مهام الجيوش في
النزاعات الدولية.
الغموض سلاح الرهبة
تقدر وزارة الخارجية الفرنسية قيمة عائدات شركات الحروب الخاصة بحوالي 400 مليار
دولار، بحسب دراسة للباحث الأردني وليد عبد الحي، ذكر فيها أن مجموع أرباح هذه
الشركات في الوطن العربي هو 45 مليار دولار ما بين 2011 و2014.
الظهور الأول لشركات الموت مثل "فاغنر" كان بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن
جذورها قديمة ومرتبطة بعصابات المرتزقة، التي يدفع لها المال مقابل القيام بعمليات
عسكرية مثل الاغتيالات وقطع الطرق وحماية القوافل والشخصيات المهمة، والمشاركة في
الحروب.
|
لا تمتلك روسيا سلاحًا اقتصاديًا في إفريقيا أسوة بالصين وأمريكا، وهو ما
تعوضه "قوات فاغنر" التي باتت دول أفريقيا تحسب حسابها، بعد أن انتشرت في
أكثر من عشر دول أفريقية |
وعبر التاريخ جندت دول وإمبراطوريات جيوش المرتزقة، بل كانت لها فرق عسكرية من
المرتزقة ضمن الجيوش النظامية على غرار الإمبراطورية الرومانية، التي كان أحد أسباب
سقوطها اعتمادها بشكل أكبر على فرق المرتزقة وتقاعس شبابها عن الانخراط في الجيش
والمشاركة في القتال.
حتى أن فرنسا لا تزال تحتفظ حتى اليوم بالفيلق الأجنبي، الذي تأسس في عام 1831، من
عناصر في غالبيتها أجنبية بهدف التوسع في استعمار الجزائر ومنها إلى مختلف أرجاء
القارة الإفريقية، نتيجة لمنع الأجانب من الخدمة في الجيش الفرنسي بعد ثورة يوليو
1830.
الكاتب الصحفي جلال نصار يشير في ورقة عنوانها "خصخصة الحروب" إلى أن الغموض يحيط
بمهمات تلك الشركات منذ ظهورها، وغالباً يصعب تحديد الوظائف والأوصاف الوظيفية التي
تقوم بها في دول الصراع.
ويضيف "نصار" أن الوضع الفضفاض الراهن لهذه الشركات الخاصة سمح للكثير منها بالتوغل
والانتشار والتمويه والاختفاء. كما تتصاعد المخاوف المتعلقة بقدرتهم على ضبط النفس،
لدرجة أن وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو عبر من قبل عن استيائه مما سماه
بـ "تزايد وحشية المرتزقة الذين لا تشمل أوضاعهم وأنشطتهم القوانين والاتفاقات التي
تحكم وجود القوات المسلحة التقليدية.
الجيوش التابعة لدول غربية من تلك التي تتمدد مصالحها وتتوغل اهتماماتها إلى خارج
حدودها باتت أكثر استيعاباً لفكرة تحقيق التكامل القتالي بمساعدة الجيوش الخاصة.
وزير الدفاع الأمريكي الراحل دونالد رامسفيلد قال قبل سنوات كثيرة إن الحرب على
الإرهاب لن تستغرق خمسة أيام أو أسابيع أو شهور على أكثر تقدير، لكنها استمرت
عقوداً ولم تنته بعد.
ويقول نصار إن هذا الأمد الطويل تطلب إما التوسع في التجنيد، وهو مخاطرة انتخابية
تعيد ذكريات حرب فيتنام الأليمة، أو الانسحاب السريع من العراق وأفغانستان، وهو
بمثابة انتحار سياسي، لذلك ظهر خيار ثالث وهو الاستعانة بشركات الأمن الخاصة.
ويبدو أن "الاستعانة" تحولت إلى "استدامة"، فنسبة معتبرة من العاملين في الجيش
الأمريكي ليسوا أمريكيين، وأصبحت وزارة الدفاع الأمريكية "تتعاون" مع شركات تقوم
بتجنيد "متعاقدين" من دول مختلفة، لا سيما دول العالم الثالث لسد الفجوة من دون خلل
عاطفي يذكر بفيتنام أو ضرر مصالح بالاختفاء من مشهدي العراق وأفغانستان.
ويرجع ظهور أول شركة أمنية حديثة في العالم إلى عام 1946 في الولايات المتحدة
الأمريكية، وفق دراسة للدكتور بجامعة الجزائر ياسين طالب، أسسها محاربون قدامى،
وأطلقوا عليها اسم داين كورب "DynCorp".
وفي الستينيات، أسس العقيد البريطاني ديفيد ستيرلينغ، شركة أمنية تحت اسم "ووتش
غارد إنترناشيونال"، والتي قدّمت خدماتها لبعض دول الخليج.
أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد ظهر المرتزق الفرنسي بوب دينار، واسمه
الحقيقي جيلبير بورجيو، وعمل لحساب عدة دول سواء لفرنسا وبلجيكا خلال فترة
الاستعمار لدول إفريقية، وللاستخبارات الأمريكية والبريطانية خلال الحرب الباردة،
وخدم في إيران زمن الشاه، وفي اليمن في عهد الإمامية.
وقاد دينار في الثمانينيات والتسعينيات مجموعة من المرتزقة للإطاحة بالحكم في بنين
وجزر القمر، ونجح في إحدى المحاولات في إيصال أحمد عبد الله عبد الرحمن، إلى رئاسة
جزر القمر في انقلاب عسكري، وبفضل هذا النجاح عين قائداً للحرس الوطني، وتوفي في
العام 2007.
وفي عام 1990 تم تجريم تلك الظاهرة عبر "الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة
واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم"، إلا أن عدة دول قننت إنشاء شركات أمنية وعسكرية على
غرار الولايات المتحدة، شركة "بلاك ووتر"، بينما سمحت أخرى بنشاطها رغم أن القانون
يجرمها، مثل وضعية شركة "فاغنر" في روسيا.
وبعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، ذاعت شهرة الشركات الأمنية وبرز دورها في
حماية شخصيات ومنشآت مدنية وعسكرية مقابل عقود بمليارات الدولارات دفعتها الإدارة
الأمريكية لهذه الشركات على غرار "بلاك ووتر".
أما في الحالة الروسية، يقوم الموقف على إنكار أي علاقة بـ"فاغنر"، ونفى "الكرملين"
كل صلة رسمية بالمجموعة، عندما رفعت ضدّها منظماتٌ حقوقيةٌ دعاوى لإدانتها بسبب
جرائمها في سورية.
الدعاوى والملاحقة القانونية لم تمنع هذه المليشيات أن تصبح سلاحًا ضاربًا في يد
موسكو، تستخدمه في المناطق التي تخشى فيها المساءلة، مثلما حصل في سورية وليبيا،
ويحصل الآن في أوكرانيا، حيث يقدّر خبراء أوروبيون عدد مقاتلي "فاغنر" بأنه يتجاوز
عشرة آلاف من المرتزقة الروس ومن بيلاروسيا، ومثلهم من جنسيات أخرى، تم تجنيدهم
للقتال في هذه المليشيات مقابل مبالغ كبيرة.
وتتحرك "قوات فاغنر" بسهولة أكثر في إفريقيا، وسبق للقارة أن عانت في سبعينيات
القرن الماضي وثمانينياته من زعزعة الاستقرار، بسبب مشاركة المرتزقة الأجانب في
النزاعات التي شهدتها بعض بلدانها، مثل سيراليون وليبيريا وساحل العاج والكونغو.
ولا تمتلك روسيا
سلاحًا اقتصاديًا في إفريقيا أسوة بالصين وأمريكا، وهو ما تعوضه "قوات فاغنر" التي
باتت دول أفريقيا تحسب حسابها، بعد أن انتشرت في أكثر من عشر دول أفريقية،
وباتت لديها معسكراتها، وتشكل ليبيا إحدى القواعد المهمة، لأن هذه القوات قاتلت إلى
جانب حفتر.
وتلقت عام 2020 دعما لوجستيًا بالأفراد والمعدات تم نقله عن طريق 338 رحلة جوية
روسية عسكرية من سورية إلى ليبيا، وذلك حسب ما ورد في تقرير فريق خبراء العقوبات
الدولية المفروضة على ليبيا.
حتى أنه بات في وسع روسيا استخدام "قوات فاغنر" للتدخل لدعم أي طرف أو الوقوف ضده،
بما في ذلك القيام بانقلابات عسكرية، وتغيير أنظمة حكم كما حصل في أفريقيا الوسطى،
مالي، وبوركينا فاسو.
واتهمت وزارة الخزانة الأميركية "فاغنر" بتزويد قوات الدعم السريع في السودان
بصورايخ أرض جو، وأشارت أن من شأن ذلك منح القوات شبه العسكرية دفعة في المواجهات
التي تخوضها مع الجيش السوداني، الذي يعتمد كثيراً على الضربات الجوية لاستهداف
قوات الدعم السريع.
|
فوجئ العراقيون المكلومون بعد بضع سنوات من محاكمة "عناصر بلاك ووتر"
والتخفيف التدريجي للأحكام الصادرة في حقهم ومنها السجن لمدة 30 عاماً،
بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في العام 2020 يصدر قراراً بالعفو عن
"القتلة". |
تلميع إعلامي
وبالعودة إلى العام 2007 وقع ما يعرف بـ "مجزرة ساحة النسور" في العراق حيث أطلق
أربعة شركة من "بلاك ووتر" الأمنية الأمريكية النار على مدنيين عراقيين، فأردوا 17
قتيلاً وأصابوا 17 آخرين.
صدم العالم أن "العسكريين الأمريكيين" ليسوا جنوداً بالمعنى المعروف، لكنهم "عناصر"
يعملون في شركة "بلاك ووتر" الأمنية الأمريكية، وقتها بدأ البحث عن الشركة وأصلها
وتأسيسها وطبيعة عملها، فأصبح العالم يعرف أن المقاتل "قطاع خاص" وليس "مرتزقة"
أصبح واقعاً وليس خيالاً أو دراما.
في العام 2014 ظهر في السينما الأمريكية فيلماً يحاكي الواقع بعنوان
"المرتزقة"
أو بالإنجليزية The
Expendable،
يرصد الفيلم في جو من الحركة والتشويق عمليات المرتزقة ضد أحد عتاة اﻹجرام في
العالم، يقوم بتجنيد جيلاً جديدًا من المرتزقة من جميع أنحاء العالم، ويشبه الفيلم
قصة "بلاك ووتر"، التي أسسها ضابط البحرية الأمريكي السابق إريك دين برنس في العام
1997 في نورث كارولينا، حيث فتحت عيون العالم على فكرة لطالما اعتبروها خيالاً
درامياً.
ومن السينما إلى الدراما الحقيقية وتحديدًا السوداء، التي حدثت حين
فوجئ العراقيون المكلومون بعد بضع سنوات من محاكمة "عناصر بلاك ووتر" والتخفيف
التدريجي للأحكام الصادرة في حقهم ومنها السجن لمدة 30 عاماً، بالرئيس الأمريكي
السابق دونالد ترمب في العام 2020 يصدر قراراً بالعفو عن "القتلة".
في العام 2019 صدرت دراسة عنوانها "المرتزقة والحرب: فهم الجيوش الخاصة اليوم"
لأستاذ العلاقات الدولية شون مكفيت، نشرتها جامعة الدفاع الوطني الأمريكية، أشارت
إلى أن براهين تأجير مقاتلين متوافرة منذ أصبحت هناك وثائق ولو حتى محفورة على
الصخور، يقول إن "التاريخ عرف المرتزقة اليونانيين واعتمدت قرطاج عليهم في حربها ضد
روما".
"بلاك ووتر" أصحبت ملء السمع والأبصار في أعقاب سلسلة مدوية من الفضائح التي نجحت
الشركة "وآخرون" في إخمادها والمضي قدماً رافعين شعار "العمل كالمعتاد" وبيع خدمات
المقاتلين كالمعتاد. وبلغ عدد "المتعاقدين" العاملين في نطاق القيادة المركزية
الأميركية والذين ينفذون أعمالاً غير قتالية 50 ألفاً، بينهم 20 ألفاً فقط
أميركيون. وبلغ أكبر عدد للمتعاقدين على أعمال قتالية في أفغانستان نحو 90 ألف
متعاقد بكلفة نحو 108 مليارات دولار منذ عام 2002، بحسب تقرير رسمي أمريكي صدر في
العام 2018.