• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
دروس مستفادة من الانتخابات التركية

يمكننا الآن بعد أن انقشع غبار المعارك الانتخابية التركية أن نرصد عددًا من أبرز الدروس والعبر في مجال العمل السياسي والتنافس الانتخابي في صورة نقاط مركزة.


شهدت الانتخابات التركية البرلمانية والرئاسية اهتمامًا بارزًا حتى أن بعض المراقبين قالوا إن المتعاطفين مع أردوغان وحزبه في العالم، والعالم العربي والإسلامي لم يناموا حتى ظهرت نتائج الانتخابات، وكل له دوافع سواء أكانت وجدانية أو عاطفية أو عن قدر كافي من الواقعية والفهم،

وعلى كل حال فيمكننا الآن بعد أن انقشع غبار المعارك الانتخابية التركية أن نرصد عددًا من أبرز الدروس والعبر في مجال العمل السياسي والتنافس الانتخابي في صورة نقاط مركزة.

 

نجح أردوغان وحلفاؤه في وضع المعارضة فى موقع الدفاع أكثر من موقع الهجوم إذ باتت مضطرة إلى الدفاع عن زعمها بالتدين واحترام وحماية المتدينين والمحجبات

وفي البداية نجد أن أردوغان فرض خطابه الإسلامي المحافظ  على الساحة التركية بما فيها خنادق المعارضة حيث نجد عشرات المفردات الإسلامية والأخلاقية فى خطاب كيلتشدار أوغلو النصيري الأتاتوركي، وكرم إمام أغلو الاتاتوركي العلماني، وميرال أكشينار القومية العلمانية.. وغيرهم.

ونجح أردوغان وحلفاؤه في وضع المعارضة فى موقع الدفاع أكثر من موقع الهجوم إذ باتت مضطرة إلى الدفاع عن زعمها بالتدين واحترام وحماية المتدينين والمحجبات، والاستقلالية وعدم تبعيتها لأوروبا وأمريكا، والديمقراطية وعدم نيتها للاستبداد بعد أن كانت في البداية تتوعد أردوغان وحزبه بالسجن بعدما تفوز بهذه الانتخابات.

كما تمكن أردوغان وحزبه وحلفاؤه من كسب ثقة نسبة كبيرة من الشعب التركي لدرجة أن عدة زلازل بقوة 200 قنبلة نووية ضربت جنوب شرق تركيا عشية الانتخابات، كما تفاقم التضخم الاقتصادي وتدهورت القوة الشرائية للعملة التركية بشكل غير مسبوق منذ أكثر من 15 عامًا، وفي نفس الوقت توحدت كل المعارضة التركية ضد أردوغان وتحالفه، ورغم هذا كله فإن القاعدة الصلبة لأنصار رجب الطيب أردوغان وتحالفه لم تفقد الثقة فيه وواصلت دعمه فى الانتخابات النيابية ومنحته أغلبية مريحة بالبرلمان كما أهلته في انتخابات الرئاسة.

وحقق أردوغان وحزبه نجاحًا في استمالة كوادر كثيرة من كل أحزاب المعارضة فكل يوم تتوالى أخبار عن انشقاقات من أحزاب المعارضة خاصة حزب "المستقبل" وحزب علي بابا جان وحزب "الجيد" و حزب "النصر" وحزب "البلد" وحزب "الشعب الجمهوري"، وقد بدأت هذه الانشقاقات قبل الجولة الأولى من الانتخابات بينما زادت بعدها وهذا طبيعي لأن الإنجاز والنصر والنجاح الحقيقي العملي على الأرض يعطي قوة لصاحبه وهذه القوة السياسية عادة ما تكون أكثر إقناعًا من كل الحجج المنطقية بالنسبة لشرائح واسعة من القادة والنشطاء السياسيين في كل زمان ومكان.

 

 أغلب العقلاء يريدون أفعالا تصحب الأقوال بل بعضهم يضيق ذرعًا بالشعارات البراقة والأقوال المعسولة ولا يفهمها ولا يثق سوى في الأفعال فقط.

 وهذا يقودنا لنقاش سياسي ذي طبيعة نظرية نسبيًا وهو أن البعض يظن أن ممارسة العمل السياسي هي مجرد كلام معسول ولباقة ومجاملات لفظية فقط، ويحكم على خصمه أو منافسه أو حتى جمهوره بأنه جاحد ومعاند ولا يستحق نعمة القيادة التي يمثلها هذا القيادي أو هذا الحزب معسول الكلام لو لم يتأثر بهذا الخطاب المعسول والشعارات البراقة، وهذا خطأ فأغلب الناس لا تقتنع باللباقة ومعسول الكلام والإفراط في الوعود بعيدة التحقق، وإنما أغلب العقلاء يريدون أفعالا تصحب الأقوال بل بعضهم يضيق ذرعًا بالشعارات البراقة والأقوال المعسولة ولا يفهمها ولا يثق سوى في الأفعال فقط.

ومن الأخطاء أيضًا في هذا المجال أن البعض يعتبر أن السياسة هي التزام عقيدي أو أيديولوجي أو التزام بمبادئ سياسية نظرية فقط فمن لم يلتزم سياسيًا بناء على رابط العقيدة أو المبادئ النظرية فهو ليس لديه إخلاص كاف لها، ويأتي خطأ هذا الأمر من أن البشر لا تغريهم كلهم أو لا تقنعهم كلهم الأمور النظرية وحدها، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو من هو حجة ولباقة وحسن خلق وحسن بيان وفصاحة ومعجزات ومع هذا كله وبعد 13 عامًا دعوة لعقيدة الحق فى مكة لم يؤمن به إلا نحو 115 رجل وامرأة وصبي (أى نحو 9 كل عام أى أقل من واحد كل شهر)، لكن بعد إقامة الدولة فى المدينة نجدهم زادوا في 6 سنوات فقط إلى نحو ألفي رجل (عدا النساء والأطفال) ثم بعد إنجاز عملية "قهر كفار قريش سياسيًا" عبر هدنة الحديبية وعمرة القضاء، و"قهر أقوى اليهود" بفتح خيبر، والتوسع الدعوى والسياسي بالجزيرة العربية كلها، نجده يدخل مكة فاتحًا بجيش قوامه 10 آلاف مقاتل، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هاجر بدينه قبل 8 سنوات ومعه 115 مؤمن مستضعف عاد بعد الإنجازات العملية بـ10 آلاف مقاتل، وبتضاعف الإنجازات نجد أن المؤمنين بعد الفتح بسنتين فقط يبلغ عددهم في حجة الوداع أكثر من 100 ألف مؤمن ومؤمنة، فالدعوات الإيديولوجية والنجاحات السياسية لا تنجح بالنظريات والأفكار فقط بل لابد لها من إنجازات عملية على الأرض لتقنع أغلبية هي عادة لا تفهم لغة العقل والمنطق دون مثال عملي مادي على الأرض.

وبشكل عام فإن الإنجازات السياسية لها أوجه عديدة ومنها حسن إدارة الصراع السياسي ومن ذلك ما جرى في معارك الانتخابات التركية من اقتناص أخطاء المعارضة واستثمارها لإضعافها وكشف عيوبها للشعب، وعلى سبيل المثال لا الحصر رأينا استثمار خطأ دوس كمال كيلتشدار أوغلو بحذائه على سجادة الصلاة ومعه عدد من قادة حزبه، وكذلك طرد ضحايا الزلزال من الفنادق والاعتداء عليهم في بلديات يهيمن علي إدارتها حزب الشعب الجمهوري زعيم المعارضة، وشجار القيادي بنفس الحزب كرم إمام اوغلو مع بائع فى اسطنبول، وإبراز علاقة المعارضة بالغرب ومساندة الغرب لها، ومساندة حزب العمال الكردستاني للمعارضة ودعوته للتصويت لها، واعتداء بعض انصار العلمانية على المحجبات، وابتزاز المرشح الرئاسي محرم انجه واجباره على الانسحاب من السباق الرئاسي، ففي كل هذه الأحداث لم يفوت تحالف الجمهور الذي يقوده أردوغان الفرصة بل أجج إعلاميا المعركة السياسية حول كل خطأ وقعت فيه المعارضة أو أحد أنصارها لكشف عيوب المعارضة للشعب.

واستخدم أردوغان وإعلام حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه التاريخ لضرب المنافسين وتعرية حقيقتهم أمام الشعب وذلك بالتذكير بتاريخ معاداتهم للحكم الديمقراطي ومناصرتهم للانقلابات العسكرية وغلقهم المساجد ومنعهم الأذان ومنع الحجاب ودورهم التاريخي في تدهور قوة تركيا السياسية والاقتصادية.

ومن أبرز وأهم أعمال أردوغان وحزبه وأبلغها أثرًا في تشكيل حاضر ومستقبل تركيا عملية "برمجة" سلوك بعض أبرز المعارضين و"هندسة" واقع المعارضة حزبيًا، فعندما تعرض محرم انجه للابتزاز اتصل اردوغان به وسانده معنويًا وعمليًا، وعندما أعلن سنان أوغان أنه سيدرس من سيساند في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية وجدناه يصرح في البداية أنه قد يطلب تولي منصب الوزير لإحدى الوزارات ثم بعدها قال فى وقت تالي: لماذا أصبح وزيرًا بينما يمكنني أن أصبح نائبًا لرئيس الجمهورية، ثم فجأة وبعد اجتماعاته بقادة حزب العدالة والتنمية ثم الرئيس أردوغان نجد تغيرًا في خطابه حيث أصبح كلامه مقتصرًا على الحديث عن مصلحة تركيا ومستقبل تركيا وقوتها، كما نلاحظ أن مفردات تولي منصب وزاري أو غيره تغيب عن خطابه تمامًا، ونجد أردوغان نفسه يقول إنه لم تحدث مساومات ولا مطالبات في التفاوض مع سنان أوغان، هذا كله رغم أن سنان أوغان أعلن تأييده لأردوغان وظل يدعو أنصاره للتصويت لأردوغان كما واصل انتقاده لكمال كيلتشدار ومعارضة التصويت له.

ونلاحظ أن كل من انشقوا عن الأحزاب المعارضة نجدهم ينضمون لحزب اردوغان وهم فى مجموعهم يصل عددهم لعدة آلاف من القادة والنشطاء (أغلبهم من  المتوسطين والصغار) فلم نجد أحدًا تمسك بالاستمرار في حزبه مع مساندة أردوغان إلا نادرًا جدًا، ومن هنا نلاحظ ملمح التحولات السياسية القادمة فى تركيا حيث يتحول الأغلبية لمناصرين للتحالف الحاكم وتتحول المعارضة إلى أقلية لا حول لها ولا قوة ذات بال.

ومن المؤكد أن هذه البرمجة للأشخاص والهندسة للحياة السياسية لم تأت بمجرد كلام معسول وشعارات رنانة وإنما من خلال الاقناع بمشروع نهضوي قومي واقعي له إنجازاته المادية المحسوسة على الأرض والتي تكفي لإقناع كل ذي عين إن قصر عقله عن فهم الجوانب النظرية لهذا المشروع النهضوي، إذ دائمًا نجد أغلبية الناس تقتنع بالوقائع المادية العملية بأكثر من فهمها للجوانب النظرية التى لا تظهر بوضوح إلا فى عالم العقل والفكر.

وقد توجد الإنجازات المادية عند البعض لكنهم يقصرون فى توظيفها فى هندسة وتوجيه الواقع السياسي وكسب عقول الجمهور، إما للعجز عن هذا التوظيف وإما لعدم إدراك حجم القوة التي يمتلكونها لتحقيق هذه "الهندسة السياسية" للواقع بما يخدم أهدافهم.

 

 

أعلى