كيف تحول القوميون الأتراك إلى رمانة الميزان في السياسة التركية؟ ما حقيقتهم وما هي أفكارهم؟ هل هم علمانيون؟ للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا مقاربة تاريخية، نحلل فيها نشأة الفكر القومي في تركيا، ثم مقاربة فكرية تغوص في اتجاهاتهم الفكرية والحزبية.
كانت من أبرز دلالات الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، وما
أسفرت عنه من نتائج، هي بروز الدور المتعاظم للقوميين الأتراك على الساحة التركية
الداخلية، وما يحمله ذلك الظهور من استحقاقات وانعكاسات على السياسات التركية.
لم يقتصر هذا البروز على تيار واحد أو جبهة من الجبهات المتصارعة سياسيًا في تركيا،
بل شمل الجميع، سواء في جانب الحكومة أو المعارضة أو حتى المستقلين.
ولعل إطلالة سريعة على نتائج الانتخابات التركية تكشف لنا حقيقة تأثير القوميين
الأتراك بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.
فقد حصل حزب الحركة القومية وهو أكبر الأحزاب القومية التركية بزعامة دولت بهجلي
المتحالف مع حزب العدالة والتنمية المحافظ على 10.1% من الأصوات، وحصل حزب الجيد
المنشق عن حزب الحركة للقومية بزعامة ميرال أكشينار والمتحالف مع حزب الشعب
الجمهوري العلماني على 9.7% من الأصوات، وحصل تحالف الأجداد وهو منشق أيضًا عن حزب
الحركة القومية ولكنه لم ينضم الى أي من الكتلتين الرئيستين على 2.4% من الأصوات.
أما الانتخابات الرئاسية فقد حل سنان أوغان القومي على أكثر قليلا من 5% وحل في
المركز الثالث، ليتنافس أردوغان وكليجدار اللذان سيدخلان انتخابات الإعادة على
استقطابه.
والأسئلة التي تدور في الأذهان الآن:
كيف تحول القوميون الأتراك إلى رمانة الميزان في السياسة التركية؟ ما حقيقتهم وما
هي أفكارهم؟ هل هم علمانيون؟ للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا مقاربة تاريخية، نحلل
فيها نشأة الفكر القومي في تركيا، ثم مقاربة فكرية تغوص في اتجاهاتهم الفكرية
والحزبية.
صعود القومية التركية
يُعرِّف الدكتور جورج حنا القومية بأنها (عقد اجتماعي في شعب له لغة مشتركة،
وجغرافية مشتركة، وتاريخ مشترك، ومصير مشترك، ومصلحة اقتصادية مادية مشتركة، وثقافة
نفسية مشتركة، وهذا العقد يجب أن يكون فيه كل هذه المقومات مجتمعة).
وعموما ينتشر مصطلح القومية بمفهومين: مفهوم يعتبرها جنس أو لغة وحسب، أي لا ترتبط
بأبعاد فكرية، والمفهوم الآخر يتم النظر فيه للقومية كأيديولوجيا تحمل بنية ومحتوى
خاص يعبر عنها، ويتم النظير والتقعيد لها.
|
هناك تيار قومي علماني يتخذ من كمال أتاتورك أنموذجًا، أي يجمع بين القومية
والعلمانية، بينما كان هناك تيار قومي وهو التيار الأكبر غير متصادم مع
الدين والإسلام وإدخاله في الحياة العامة التركية |
وهذا المفهوم الأخير بدأه المفكرون في الغرب مع نشأة الدولة القومية في أوروبا على
أساس العرق واللغة والحدود الجغرافية، وانتقل إلى بلاد المسلمين في منتصف القرن
التاسع عشر مع انتشار عقلية الهزيمة النفسية والتي نتجت عن الهزيمة العسكرية
الحضارية أمام الغرب، ثم وصول البعثات المسلمة إلى أوروبا بتلك العقلية المهزومة.
وبالطبع تأثرت الدولة العثمانية بتلك الدعاوى، فظهر القوميون الأتراك وانتظموا داخل
ما يعرف بجمعية الاتحاد والترقي.
لقد ارتكزت الدولة العثمانية تاريخيًا في تمددها وانتشارها على قاعدتين رئيستين:
تعدد الأعراق والتعايش والتسامح معها بالرغم من أن قلب الدولة هم الأتراك، فقد كانت
الدولة العثمانية تضم ما يقرب من 26 جماعة قومية وعرقية، وفي نفس الوقت تمثلت
القاعدة الثانية لأساس الدولة في الإسلام الذي كان رسالتها الذي تحمله بين الأمم
باعتبارها مقر خليفة المسلمين.
فلما انهزمت الدولة العثمانية أمام الاحتلال الغربي، وجاء كمال أتاتورك لينفذ شروط
الغرب لكي ينسحبوا من الأراضي التركية، كان عليه أن يسير في محورين ليقضي على إرث
العثمانيين من جذوره:
المحور الأول قومي، بإعلاء شأن الجنس التركي واستحقار غيرهم من الأعراق الأخرى حتى
قيل إن الجنس التركي هو أصل البشرية والحضارة بأسرها، ويا لسعادة من قال أنا تركي.
أما المحور الثاني فهو نشر العلمانية المتوحشة والتي تنبذ الدين والإسلام، وتعمل
على إبعاده عن جميع مناحي الحياة سواء كانت اجتماعية أو سياسية.
ساعدت سياسات أتاتورك هذه على تمرد قومية الأكراد وفي نفس الوقت انتعاش الأحزاب
القومية، فظهرت الحركة القومية التركية وجناحها العسكري الذئاب الرمادية، والذي شن
حملة اغتيالات ضد المنظمات الكردية سواء في داخل تركيا أو خارجها، ويبدو أنه كان
مدعومًا من الأجهزة الأمنية التركية سرًا.
ولكن هناك تباين في التيارات القومية التركية.
فقد كان
هناك تيار قومي علماني يتخذ من كمال أتاتورك أنموذجًا، أي يجمع بين القومية
والعلمانية، بينما كان هناك تيار قومي وهو التيار الأكبر غير متصادم مع الدين
والإسلام وإدخاله في الحياة العامة التركية، باعتباره
عاملاً مهما وجزء لا يتجزأ من القومية والثقافة التركية مثله مثل اللغة والأرض
وغيرها من مقومات القومية.
وفي خضم هذا الصعود القومي ازدادت الفوضى والصراعات في تركيا، بين الإسلاميين
والعلمانيين، وبين السنّة والعلويين، وبين الترك والكرد والأرمن، وبين المؤسسة
العسكرية والمؤسسة المدنية، وبين النزوع الطوراني والأوروبي.
القومية التركية وحزب العدالة
ولكن مع صعود حزب العدالة والتنمية ووصوله إلى الحكم في أواخر عام 2002، أخذت
البلاد تتجه إلى التهدئة نتيجة الاستراتيجية التي صاغها الحزب باحترافية بالغة.
فقد طرح حزب العدالة استراتيجية صفر مشاكل، والتي يظن الكثيرون أنها تختص بالسياسة
الخارجية ومع جيران تركيا من الدول الإقليمية، ولكن تلك الاستراتيجية جرى تطبيقها
في الأساس مع الصراعات في الداخل التركي.
|
طرح حزب العدالة مفهوم القومية برؤية مختلفة، باعتبار الإسلام هو الرابط
الأساسي الذي يدخل في مظلته الأعراق والأجناس المختلفة ويعيشون بمساواة دون
أي تفرقة أو عنصرية، ودخل أردوغان في مفاوضات مع الأحزاب والجماعات الكردية
بهذه الفكرة |
طرح حزب العدالة مفهوم القومية برؤية مختلفة، باعتبار الإسلام هو الرابط الأساسي
الذي يدخل في مظلته الأعراق والأجناس المختلفة ويعيشون بمساواة دون أي تفرقة أو
عنصرية، ودخل أردوغان في مفاوضات مع الأحزاب والجماعات الكردية بهذه الفكرة
في محاولة لاستقطابهم بعيدًا عن العرقية، ودمجهم في النظام السياسي التركي، وبالفعل
بدأت تركيا أكثر استقرارًا مما شجعها على انتهاج سياسات اقتصادية مكنتها لتحتل
المرتبة ال 16 في ترتيب أقوى الاقتصاديات العالمية.
كان يمكن لهذه الاستراتيجية أن تستمر في النجاح، ولكن المشكلات والصراعات داخل
تركيا ليس منبعها الداخل التركي فقط، بل تغذيها عوامل خارجية من قوى إقليمية
وعالمية تحاول تأجيجها.
فبعض الأحزاب الكردية هي أحزاب علمانية ويسارية، لا ترغب في رؤية ثقافة إسلامية
جامعة للناس والشعوب، فهذا التوجه يخالف أيديولوجيتها، كما إن بعضها مدعوم ماديا
وتسليحيا من الغرب والكيان الصهيوني وبعض القوى الاقليمية.
وفي عشر سنوات التالية في حكم حزب العدالة، وتجدد التحدي العلماني والانقلاب
العسكري الفاشل، واتجاه الأكراد مرة أخرى إلى حمل السلاح واتخاذهم سوريا مركزًا لهم
بعد تحولها إلى الفوضى، الناتجة عن قصف بشار الأسد لشعبه المطالب بالحرية بالكيماوي
والبراميل المتفجرة، بالإضافة الى تدهور الاقتصاد وهو الذي كان الرافعة الكبرى في
شعبية حزب العدالة.
كل تلك الأحداث أدت إلى تراجع شعبية حزب العدالة، ودفعت أردوغان إلى تدشين التحالف
مع القوميين الأتراك وبالذات الحركة القومية التركية، والتي تعبر عن القوميين
الأتراك الغير متصادمين مع الإسلام.
وبدأت لغة خطاب حزب العدالة تتغير، ودخل فيها نهوض الأتراك ليس في الأناضول وحدها
بل في شتى البلدان التي يغلب عليها العنصر التركي، ففي عام 2009 تم تأسيس ما سُمي
مجلس التعاون للدول الناطقة باللغات التركية، قبل أن يتحول في نوفمبر 2021 إلى
منظمة الدول التركية أو كما أطلق عليه بعض المثقفين الأتراك جامعة الدول التركية،
في مقاربة مع منظمة جامعة الدول العربية.
ويقع مقر المنظمة في إسطنبول، وتضم إلى جانب تركيا كلًا من أذربيجان وكازاخستان
وقيرغيزستان، وتسعى تركيا إلى إقناع حكومات تركمانستان وأوزبكستان بالانضمام إلى
الجامعة التركية، والتي أصبحت تعبر عما أُطلق عليه العثمانية الجديدة.
ونجح تحالف حزب العدالة مع حزب الحركة القومية في كل الاستحقاقات الانتخابية التي
دخلها.
وهنا بدأ القوميون في الاختلاف والتباين، فانشق العلمانيون غير راضين عن التحالف مع
المكون الإسلامي باعتبار أن إرث أتاتورك ليست القومية الدينية بل القومية
العلمانية.
فانشق عن حزب الحركة القومية حزبان: حزب الجيد بزعامة مينرال أكشينار، وحزب الظفر
بزعامة أوميت أوزداغ.
وفي الجانب المقابل بدأ العلمانيون ممثلين في حزب الشعب الجمهوري في التحالف مع
المنشقين من الحركة القومية، فكان التحالف مع حزب أكشينار باعتباره يضم أغلب
المنشقين.
بينما ظل حزب الظفر متحالفًا مع أحزاب قومية صغيرة، ورشحوا القومي المتعصب سنان
أوغان، الذي حصل على 5.2% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة.
القوميون وأهميتهم
بقراءة نتائج الانتخابات التركية في العشرين سنة الأخيرة، نجد أن الشعب التركي
ينقسم في اتجاهاته على النحو التالي كنسب تقريبية:
حوالي 35% من الأتراك يصوتون للهوية الإسلامية، وهؤلاء الذين يصوتون لحزب العدالة
وغيره من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي.
وحوالي 25% يصوتون للعلمانيين سواء في حزب الشعب الجمهوري وغيره من الأحزاب
العلمانية.
وحوالي 15% من الأكراد يصوتون للحزب الكردي ومن يتحالف معه.
أما 25% من الشعب التركي فهم يصوتون على أساس قومي موزعين على حزب الحركة القومية،
وحزب الجيد وحزب الظفر، و5% من هؤلاء انتخبوا سنان أوغان.
لذلك قلنا إن القوميين هم العامل المرجح في الصراع بين أصحاب التوجه الديني وبين
العلمانيين في تركيا.