• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الدين الأمريكي.. احتمالية ومخاطر عدم السداد

فمع أي تخفيض في قيمة الدولار، أو فقدان الثقة فيه، سوف تتأثر الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة سلبيًا، كما سيكون مصير استثمارات الحكومات والمؤسسات في سندات الخزانة الأمريكية، هو تحقيق خسائر كبيرة، وبالتالي التفكير الجدي في سحب تلك الاستثمارات، والبح


يترقب العالم نهاية أول يونيو 2023، الموقف الأمريكي وما سيتخذ من قرارات من قبل مجلس النواب، بشأن قضية دين الحكومة المركزية الأمريكية، البالغ 31.4 تريليون دولار، حيث تأمل حكومة بايدن، أن يعتمد مجلس النواب العجز بالموازنة، وقبول الاستدانة بقيمة العجز المقدر بنحو 1.5 تريليون دولار.

بينما المعارضة المسيطرة على مجلس النواب، والتابعة للحزب الجمهوري، ترى أنه يجب على الحكومة، أن تخفض من نفقاتها، وبالتالي تخفيض قيمة العجز، وهو أمر قد لا تستقيم معه تسيير أمور الحكومة المركزية، في ظل نفقات الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، وكثير من اعتبارات الإنفاق العام.

ونحن إزاء أمرين، يمكن أن تنفرج عنهما الأمور، الأول: أن يرفض مجلس النواب اعتماد عجز الموازنة، ومتطلبات الاقتراض للحكومة، وهو سيناريو مخيف على الصعيدين الأمريكي والعالمي، فعلى الصعيد الأمريكي، فإن قرار رفض اعتماد عجز الموازنة وعدم السماح بالاقتراض بما يسد العجز، يعني نفاد السيولة بالخزانة الأمريكية، وتوقف العديد من مخصصات الإنفاق على التعليم والصحة والتسليح، وقفز البطالة لمعدلات مخيفة، وتوقف العديد من المؤسسات الحكومية عند تقديم خدماتها للمجتمع.

وعلى صعيد الاقتصاد العالمي، فإن ذلك يعني هزة عنيفة للثقة في الاقتصاد الأميركي، وكذلك في عملة الدولار، التي تعد حتى الآن العملة التي تحظى بقبول عالمي للتسويات التجارية والمالية. فضلًا عن أن ذلك سوف يؤثر بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية في أمريكا.

 

بعد أن سيطرت أمريكا على مقدرات النظام الاقتصادي العالمي، بمكوناتها المختلفة، وبخاصة في الجانب المالي والنقدي، أصبحت السياسات النقدية والمالية الأميركية، تلقي بظلالها سلبًا وإيجابًا على باقي اقتصاديات العالم

 فمع أي تخفيض في قيمة الدولار، أو فقدان الثقة فيه، سوف تتأثر الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة سلبيًا، كما سيكون مصير استثمارات الحكومات والمؤسسات في سندات الخزانة الأمريكية، هو تحقيق خسائر كبيرة، وبالتالي التفكير الجدي في سحب تلك الاستثمارات، والبحث عن ملاذ أكثر أمنًا.

كما يتوقع في حالة عدم سداد الديون الأمريكية، أن تحدث انهيارات كبيرة في أسواق المال العالمية، لتكون هي الأعنف في العقود الماضية، كما يتوقع في هذه الحالة أن يتم تخفيض التصنيف الائتماني لأمريكا، وما يترتب على ذلك من خلل منظومة الائتمان بأمريكا.

والجدير بالذكر أنه في أغسطس 2011، حدث أن خفضت وكالة "استاندر اند بورز" التصنيف الائتماني لأمريكا من "AAA" إلى "AA"، ولكن تحت الضغوط واعتراض حكومة أوباما، قامت الوكالة بسبب تقريرها، وعودة التصنيف الائتماني لأمريكا، لما كان عليه.

والأمر الثاني، أن يتم تمرير اعتماد العجز، والسماح بالاقتراض بالمبالغ التي تطالب بها الحكومة، وبالتالي تنتهي الأزمة بشكل نهائي، وقد يكون هناك حل في إطار هذا المجال، بأن يتم اعتماد العجز بنسبة أقل مما تطالب به حكومة بايدن، بحيث تقبل الضغط المفروض عليها من قبل المعارضة الجمهورية، وتقلل من نفقاتها.

ولكن ذلك يعني تعميق الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الآن الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، وكذلك معدلات التضخم التي لاتزال عند حدود 5% أو أقل منها بنسب طفيفة، بينما المأمول أن تنخفض معدلات التضخم لأقل من 2%.

كما أن تخفيض العجز بالموازنة الأمريكية، يعني التأثير السلبي على الطلب الكلي، وبالتالي دخول الاقتصاد الأمريكي في مزيد من الركود، وبخاصة أن جزءًا من عجز الموازنة المعروض من الحكومة الأمريكية، يتعلق باعتبارات الإنفاق الاجتماعي، من رعاية اجتماعية وتعليم وصحة، فضلًا عن الإنفاق على التسليح.

·      كيف بدأت الأزمة 

التمويل بالديون أحد أهم أدوات المالية العامة في النظام الاقتصادي الرأسمالي، إلا أنه عادة ما تذكر الكتابات المتخصصة في ذلك النظام، أن هناك حدودًا يجب ألا يتجاوزها الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وإلا تحول إلى عبء على الموازنة العامة للدولة بشكل خاص، وعلى مقدرات الاقتصاد القومي بشكل عام.

وحسب الأرقام المتاحة على قاعدة البنك الدولي، فإن ديون الحكومة المركزية الأمريكية في عام 2021 بلغت 28.07 تريليون دولار، وبما يمثل 120.4%، وفي عام 2023 بلغت الديون الأمريكية 31.4 تريليون دولار، بينما الناتج المحلي الأمريكي في نهاية 2022 قدر بنحو 25.4 تريليون دولار، وبالتالي بلغت نسبة الديون للناتج 123.6%

وقد بدأ الاقتصاد الأمريكي في تجاوز الحدود الأمنة، للسقف المتعارف عليه، في نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي في عام 2008، حيث كانت المرة الأولى التي بلغت فيها الديون للحكومة المركزية نسبة الـ 60%، وكانت قيمة الديون بحدود 9.43 تريليون دولار، وبما يمثل نسبة 63.8%.

وقد ساهم في ارتفاع قيمة ونسبة الديون للحكومة المركزية الأمريكية، القرارات الخاطئة في حكومات متعاقبة بدءًا من حكومة بوش الابن والمتمثلة في نفقات غزو أفغانستان والعراق، وزيادة فاتورة الدفاع والتسليح، وكذلك القرارات الأخرى من قبل بوش الابن وترامب، فيما يتعلق بالتخفيضات الضريبية، التي يعتبرها الجمهوريون أحد الأدوات المهمة لتشجيع الاستثمار.

·      هل سيسمح بعدم سداد الديون؟

المتابع لتصريحات الخبراء الاقتصاديين، وكذلك المنشور بوسائل الإعلام من أخبار ومقالات أو تحليلات، يجد أننا أمام ما نطلق عليه "أمريكا تكون أو لا تكون"، والحقيقة أن ثمة مبالغة في هذا الأمر، فقضية دين الحكومة المركزية الأميركية، طرحت غير مرة، منذ عام 2008، مع مجيء أوباما، وتم التوافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على اعتماد العجز بالموازنة العامة للدولة، حيث كانت نسبة ديون الحكومة المركزية لا تتجاوز نسبة 63.8% من الناتج المحلي الإجمالي.

بل إنه في عام 2019، كانت المرة الأولى، التي تتجاوز فيها ديون الحكومة المركزية نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع ذلك تم تمرير الأمر، مع بعض المناوشات السياسية، والضغط الإعلامي هنا وهناك.

ونتوقع أن يتم تمرير الأمر هذه المرة كذلك، فالظرف الاقتصادي على الصعيدين الأميركي والعالمي، لا يسمح بإمكانية أن يعيش الاقتصاد الأميركي مزيد من الركود، أو الدخول في مشاكل أعمق مما هي عليه على صعيد المالية العامة في أمريكا، أو المؤشرات النقدية المتعلقة بسعر الفائدة المرتفع، أو الدولار الذي يواجه العديد من التحديات، من قبل المنافسين الاقتصاديين، ومحاولات استبدله بعملات أخرى.

ثانيًا سيكون الأمر متعلقًا بشكل كبير بمستقبل الانتخابات والتصويت في الشارع الأميركي، ففي العام القادم ستشهد أمريكا انتخاباتها الرئاسية، ومن يتصدر لمشهد تعميق الأزمة الاقتصادية بأمريكا -في حالة توقع أن يرفض الجمهوريون اعتماد عجز الموازنة- سوف يتعرض لانصراف المصوتين عنه في الانتخابات، ليس في انتخابات الرئاسة فحسب، بل وفي الانتخابات القادمة لمجلس النواب كذلك. 

 

إن الجهود التي تبذل في اتجاه العمل على الانعتاق من ربقة سيطرة أمريكا على مقدرات الاقتصاد العالمي أصبحت ضرورية، ومن صالح مواطني الدول النامية والصاعدة

·      من أين يمول الدين الأميركي؟

تعتمد أمريكا على تمويل ديونها المركزية، على طرح السندات الحكومية على الصعيدين المحلي والدولي، ومن هنا وجدنا معظم دول العالم تستثمر جزءًا لا يستهان به من احتياطاتها من النقد الأجنبي في سندات الحكومة الأميركية، وتعد الصين واليابان أكبر مستثمرين في السندات الحكومية الأميركية بنحو قرابة تريليون دولار لكل منهما.

وإذا لم تكف حصيلة السندات الأميركية، لسد العجز ومتطلبات الدين، يتم اللجوء لطباعة النقود، على أن يصدر بقيمة ما تم طباعته سندات مستحقة على الحكومة الأميركية لحساب مجلس الاحتياطي الفيدرالي، والتي عادة ما تساعد في ارتفاع معدلات التضخم، لأنها نقود بلا مقابل من سلع وخدمات حقيقية.

والجدير بالذكر أن نحو 69% من الديون الأميركية، مصدرها السوق المحلي، بينما 31% مصدرها الخارج، من خلال الاكتتابات في سندات الخزانة الأميركية.

·      أمريكا وتصدير المشاكل للعالم

بعد أن سيطرت أمريكا على مقدرات النظام الاقتصادي العالمي، بمكوناتها المختلفة، وبخاصة في الجانب المالي والنقدي، أصبحت السياسات النقدية والمالية الأميركية، تلقي بظلالها سلبًا وإيجابًا على باقي اقتصاديات العالم.   

ففي حالة مرور أمريكا بحالة ركود، فهذا يعني إصابة أكبر اقتصاد في العالم بالركود، وهو ما يعني أن تنخفض أسعار السلع والخدمات على مستوى العالم نظرًا لتراجع الطلب، ورأينا كيف تتحكم أمريكا عبر بياناتها الاقتصادية في سوق النفط.

كما رأينا كيف تؤثر قرارات الفيدرالي الأميركي بشأن سعر الفائدة، على أسعار الفائدة في باقي دول العالم، وكيف أثر وضع الدولار صعودًا وهبوطًا على أسعار صرف باقي عملات دول العالم.

ختامًا: تبقى قضية الديون الأميركية، وما تحمله من مراوغات سياسية واقتصادية، لها دلالاتها على الصعيدين الأميركي والعالمي، ولكن علينا أن نستوعب، أن الساسة في أمريكا لن يسمحوا بمرور أمريكا بأزمة، يملكوا مفاتيح حلها، سواء كان ذلك عبر قبول عجز الموازنة المقدم من الحكومة، أو تخفيضه.

كما ان الجهود التي تبذل في اتجاه العمل على الانعتاق من ربقة سيطرة أمريكا على مقدرات الاقتصاد العالمي أصبحت ضرورية، ومن صالح مواطني الدول النامية والصاعدة، أن يكون هناك بديلًا للنظام الاقتصادي العالمي الحالي، شريطة ألا يكون البديل أكثر شراسة من النظام الأميركي الحالي، فمن حق الدول النامية والصاعدة، أن يكونوا شركاء حقيقيين في أي نظام اقتصادي عالمي جديد.

ومن الضروري أن نشير إلى أهمية أن يراجع العالم نفسه في شأنه الاقتصادي المتعلق بسعر الفائدة، وقضية التمويل بالديون، التي أرهقت معظم اقتصاديات العالم، وجعلت الحكومات تدور في حلقة مفرغة، على الرغم من استيعاب الدرس في الأزمة المالية العالمية في عام 2008، بضرورة الالتفات إلى نظام المشاركة الإسلامي، وليس الديون وسعر الفائدة.

 

أعلى