عندما لاح هلال رمضان في الأفق سنة 492هـ، كانت بيت المقدس غارقة في مستنقعات من دماء أهلها، إذ لم يكن قد مضى على اقتحامها من قبل الفرنجة، سوى أسبوع واحد فقط، ولكي نعلم ما حدث خلال ذلك الأسبوع، فتعالوا نبدأ القصة من أولها.
"...أنتم فرسان أقوياء، ولكنكم تتناطحون وتتنابذون فيما بينكم..
ولكن، تعالوا وحاربوا الكفار (المسلمين)!... يا من تنابذتم اتحدوا ... يا من كنتم
لصوصًا كونوا الآن جنودا! ... تقدموا إلى بيت المقدس ... انتزعوا تلك الأرض
الطاهرة، ـواحفظوها لأنفسكم، فهي تدر سمنًا وعسلاً!.. إنكم إذا انتصرتم على عدوكم
ورثتم ممالك الشرق!". "إن المسيح هو الذي يدعوكم، ولست أنا، وليعلم كل حاضر، وليبلغ
كل غائب أنها أوامر المسيح".
هذا ما قاله، البابا أربانوس الثاني (1088-1099) لفرسان الإقطاع
الأوروبي، في مجمع كليرمونت بوسط فرنسا، في 18-11-1095، تدشينًا لأبشع وأطول حملات
الغزو الاستيطاني، التي عرفها التاريخ. بدأت أولى تلك الحملات سنة 1096 بقيادة عدد
من الأمراء الفرسان، مخترقة شرقي أوروبا، ومجتازة آسيا الصغرى، ومنها إلى الشام.
وكان سقوط انطاكية بأيدي الفرنجة، بمساعدة الأرمن والسريان، في رجب 491هـ، منعطفًا
أساسيًا في مسيرة الحملة، فقد كانت هي
البوابة الرئيسية لبلاد الشام،
وبعد سقوطها واصلت جيوش الفرنجة تحركها باتجاه بيت المقدس، بسهولة، مرتكبة في
طريقها إليها، المجازر المروعة، بحق المسلمين.
|
أعقب ذلك الاقتحام، ارتكاب الفرنج المتعطشين للدماء، لمذبحة من أكبر
المذابح هولاً ووحشية، في تاريخ البشرية، فقد قتلوا معظم سكان القدس، من
المسلمين العزل، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ومثلوا بجثثهم، وأحرقوا
بيوتهم، وهدموها على رءوسهم |
وفي منتصف رجب 492هـ، وبعد عام من مسيرة القتل والعدوان والترويع
بالنار والدم، تحت راية الصليب، وصلت الحملة إلى هدفها الرئيسي، وهو مدينة بيت
المقدس، فأطبقت عليها، وحاصرتها حصارًا خانقًا، وقذفتها بالمنجنيقات، والتهبت مشاعر
الفرنج، بعد أن سرت بينهم إشاعة تقول: إن القديس جورج قد اشترك في المعارك ضد
المسلمين "الوثنين"، الذين يدنسون مهد يسوع وقبره. فنجحوا في اقتحام المدينة، ظهيرة
يوم الجمعة 23 شعبان 492هـ، بعد خمسة أسابيع من الحصار.
واعقب
ذلك الاقتحام، ارتكاب الفرنج المتعطشين للدماء، لمذبحة من أكبر المذابح هولاً
ووحشية، في تاريخ البشرية، فقد قتلوا معظم سكان القدس، من المسلمين العزل، نساء
ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ومثلوا بجثثهم، وأحرقوا بيوتهم، وهدموها على رءوسهم،
واستمرت عمليات القتل الوحشي، والتمثيل بالجثث، والحرق والتخريب والمطاردة
والعربدة، ودونما رحمة أو هوادة، حتى أول يوم من رمضان، لدرجة أن شوارع المدينة
وأزقتها وقصورها ومساجدها تحولت إلى بحيرات دم، وتناثرت الجثث والأشلاء والأيدي
والأرجل والرؤوس المقطوعة، في كل مكان، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، الذي
تركزت المقاومة الأهلية فيه بعد الاقتحام، قبل أن يحولوه بعد ذلك، إلى حظيرة
لخيولهم،
وانتشرت في أرجاء المدينة رائحة الحرائق والدخان المختلطة برائحة الدم والأجساد
المحترقة،
ولم يسلم من القتل، حينذاك، حتى السكان اليهود، فقد أحرقوهم في
المكان الذي وجدوهم مختبئين فيه.
والمهم أنها كانت مذبحة وحشية، تشمئز منها التماسيح والوحوش وأسماك
القرش المفترسة، فحتى بعض مؤرخي النصارى استنكروا سلوك بني جلدتهم هؤلاء. فمنهم من
وصفهم، بالمجانين، ومنهم من قال: "إنهم بغال تتمرغ في القمامة".
وقال المؤرخ الفرنسي ميشو في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية ج1):
"سرعان ما صارت المذبحة عامة: ذ ُبح المسلمون في الطرقات وفي المنازل، ولم يعد في
بيت المقدس ملجأ للمغلوبين؛ فبعض الذين فروا من الموت القوا بأنفسهم من فوق
الأسوار، والآخرون جروا جماعات يختبئون في القصور والأبراج، وبخاصة المساجد، ولكنهم
لم يستطيعوا أن يفروا من أن يتبعهم الصليبيون، أما وقد صار الصليبيون سادة المسجد
الأقصى الذي دافع المسلمون عن أنفسهم حينًا فيه؛ فقد جددوا فيه المناظر المحزنة،
دخله المشاة والفرسان، واختلطوا بالمنهزمين، وفي وسط أشنع ضوضاء؛ كنت لا تسمع إلا
الأنين وصيحات الموت، لقد كان المنتصرون يسيرون على أكوام من الجثث ليتبعوا من
يحاول الفرار عبثًا."
|
كان من المستحيل التدقيق في عديد قتلى المجزرة دون استشعار الرعب في
النفوس، لقد تناثرت أجزاءهم في كل مكان، وغطت دماء القتلى الأرض. ولكن
الأمر الأكثر إثارة للخوف هو التحديق في المنتصرين، فقد كانت الدماء تقطر
منهم من الرأس إلى أخمص القدم |
وقال شاهد عيان، وهو القس ريمون داجيل، في مذكراته: "ارتفعت الدماء
إلى ركب الخيل وأعنتها في المسجد، وكل الذين أبقى عليهم التعب من الذبح أو أسروا
طمعًا في أن يفدوا أنفسهم بفدية كبيرة قتلهم الصليبيون؛ لقد أكرهوا على أن يلقوا
أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويكونوا طعامًا للنيران، وكانوا يخرجونهم من
الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الميادين العامة، حيث يذبحونهم فوق أكداس الموتى،
ولم يثنهم دموع النساء ولا صيحات الأطفال. لقد كانت المذبحة هائلة وكانت الجثث
مكدسة، لا في القصور، ولا في المساجد، ولا في الشوارع، فحسب، ولكن في أخفى الأماكن
وأبعدها. ولم تنته المذبحة إلا بعد أسبوع... وبعدئذ أمر من بقى من المسلمين الذين
لم ينجوا من القتل إلا ليقعوا في استعباد مخيف، أن يدفنوا الأجساد المشوهة
لأصدقائهم وإخوانهم، فأخذوا ينقلون، وهم يبكون، هذه الجثث خارج بيت المقدس، وساعدهم
في ذلك بعض الصليبيين الذين دخلوا المدينة أخيرًا، فلم يظفروا بكثير من الأسلاب،
وأخذوا يبحثون عن بعض الغنائم بين الموتى".
وقال
وليم الصوري في تقريره الذي كتبه في القرن 12:
"كان من المستحيل
التدقيق في عديد قتلى المجزرة دون استشعار الرعب في النفوس، لقد تناثرت أجزاءهم في
كل مكان، وغطت دماء القتلى الأرض. ولكن الأمر الأكثر إثارة للخوف هو التحديق في
المنتصرين، فقد كانت الدماء تقطر منهم من الرأس إلى أخمص القدم. "
وقال: "ويُروى أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط،
قُرابة عشرة آلاف من الكفرة (المسلمين(،
إضافة إلى القتلى المطروحين في كل مكان من المدينة، في الشوارع والساحات، حيث قدّر
عددهم أنه كان مساويًا لعدد القتلى داخل حرم الهيكل، وطاف بقية الجنود خلال المدينة
بحثًا عن التعساء الباقين على قيد الحياة، والذين يمكنهم أن يكونوا مختبئين في
مداخل ضيقة وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسُحب هؤلاء على مرأى الجميع وذُبحوا
كالأغنام، وتشكل البعض في زُمَرٍ واقتحموا المنازل حيث قبضوا على أرباب الأسر
وزوجاتهم وأطفالهم وجميع أسرهم، وقتلت هذه الضحايا أو قذفت من مكان مرتفع حيث هلكت
بشكل مأساوي".
ويقول المؤرخ فوشيه الشارتري في كتابه (تاريخ الحملة إلى القدس):
"وبعد هذه المذبحة دخلوا، أي الفرنجة، بيوت السكان واستولوا على كل ما وجدوه بها،
وتم هذا بطريقة جعلت كل من يسبق إلى الدخول، فقيرًا كان أو غنيًا، يستولي على البيت
ولا يجد من ينازعه من الفرنج الآخرين، وكان له أن يحتل المنزل أو القصر ويمتلكه بكل
ما فيه، كما لو كان ملكية خاصة له، وهكذا اتفقوا على هذا النمط من حقوق الملكية،
وبهذه الطريقة صار كثيرون من الفقراء أغنياء".
"وفي هذا الجو الموحش الكئيب، الذي يلفه الصمت الرهيب، وتغلفه
الروائح الكريهة الصادرة من المنازل المحترقة والجثث المتعفنة، اجتمع القادمون من
غرب أوربا تحت راية الصليب، لأداء صلاة الشكر في كنيسة القيامة، وترددت في أرجاء
الكنيسة العتيقة عبارة باللاتينية معناها (شكرًا للرب)."
ثم كتبوا إلى البابا أوربان الثاني، المحرّض على هذه الحروب،
يتباهون بالمجازر التي صنعوها بالمسلمين، فقالوا: "..إذ أردت أن تعرف ما يجري
لأعدائنا، فثق أنه في معبد سليمان (جامع عمر بن الخطاب)، كانت خيولنا تغوص إلى
ركبها في بحر من دماء الشرقيين (المسلمين)".
***