ما هي الشعبوية؟ وكيف يكسب الزعماء الشعبويون الجماهير؟ ولماذا تثق بهم الجماهير وتمنحهم أصواتها في الانتخابات؟" وأخيرًا ما هو مستقبل صعود التيارات السياسية الشعبوية؟
الشعبوية مصطلح سياسي شهد تطورات تاريخية متعددة اختلفت من فترة زمنية إلى أخرى كما
اختلفت من بقعة جغرافية إلى أخرى لكنها في مجملها تتمحور حول الاعتماد على الشعب من
حيث عفويته واندفاعه لتأييد القيادة الشعبوية التي تستقطبه وتوجهه في اتجاه تحقيق
الأهداف والشعارات التي ترفعها هذه القيادة، وأيًا كانت التفاصيل الأكاديمية
السياسية والتاريخية لهذه الظاهرة فإن الذي يهمنا منها هنا هو جوانبها العملية
الفنية التكتيكية أو الأسلوبية التي تتمكن عبرها من استهواء الجماهير وتوظيفها في
إطار الشعارات التي ترفعها مهما كانت هذه الشعارات موضوعية أو خيالية وسواء كانت
صادقة أم خادعة.
|
يستخدم القائد الشعبوي خطابًا سياسيًا يدغدغ مشاعر الجماهير مدعيًا تبني
مصالح "الشعب" ضد مصالح القوى الأخرى المهيمنة على الواقع السياسي
والاقتصادي سواء كانت هذه القوى حقيقية أم متوهمة |
وبداية لابد أن نلاحظ أن الزعماء الشعوبيين يسعون للترويج لنفسه ولأهدافه وشعاراته
بين الجماهير، فلا يمكن القول إنهم أنجح من القادة السياسيين الطبيعيين وإنما هم
مثلهم مثل غيرهم من القادة فمنهم من ينجح في كسب الجماهير وتولي الحكم ومنهم من
يفشل ولكن يشتهر منهم الناجحون الذين كسبوا الجماهير وتولوا الحكم بينما ننسى هؤلاء
الذين فشلوا.
ومن هنا فإجابتنا على سؤال "كيف
يكسب الزعماء الشعبويون الجماهير ولماذا تثق بهم الجماهير وتمنحهم أصواتها في
الانتخابات؟؟"
إنما تتركز على الزعماء الشعبويين الناجحين، وكلهم نجحوا في كسب ثقة الجماهير وتولي
الحكم لكن أغلبهم رسبوا في امتحان الحكم عندما تولوا المنصب فبعضهم جر الكوارث على
شعبه ودولته كما في حالة موسيليني وهتلر، والبعض الآخر أخفقوا إخفاقًا ذريعًا مثل
شافيز ومادورو في فنزويلا أو بولسينارو في البرازيل.
وعادة ما يكسب القائد الشعبوي الجماهير عبر ثلاثة أمور:
الأول-طبيعته الذاتية:
حيث يتمتع القائد الشعبوي عادة بكاريزما.
الثاني-طبيعة الخطاب السياسي:
يستخدم القائد الشعبوي خطابًا سياسيًا يدغدغ مشاعر الجماهير مدعيًا تبني مصالح
"الشعب" ضد مصالح القوى الأخرى المهيمنة على الواقع السياسي والاقتصادي سواء كانت
هذه القوى حقيقية أم متوهمة
و سواء كانت هيمنتها هذه حقيقية أو متوهمة لكن من المهم أيضًا أن يعادي فريقًا ما
ويجعله في مواجهة الشعب ومصالح الشعب ثم يقذف في سلة "العدو" هذا كل من يعوق طريقه
نحو التفرد بالسلطة، و على سبيل المثال لا الحصر قد يضعون ضمن هذا "الفريق/العدو"
البنوك أو الشركات الكبيرة أو الشركات متعددة الجنسيات أو صندوق النقد الدولي أو
المهاجرين أو رجال الأعمال أو "فريق سياسي داخلي ما" أو قوة دولية أو اقليمية ما.
الثالث-طبيعة الجماهير التي يتوجه إليها ويسعى لكسبها:
حيث يرتكز عليها في حركته السياسية للوصول لكرسي الحكم ومن ثم الاستمرار فيه إن
استطاع، وعادة ما تكون الشريحة الجماهيرية هي من الفئات الفقيرة أو الضعيفة أو
المهمشة بشرط أن تكون عديمة الخبرة سياسيا لأنها لو كانت ذات خبرة سياسية كافية
فإنها ستكشف حيل وألاعيب القائد الشعبوي ولن تجاريه في أهوائه الاستبدادية، وعلى
سبيل المثال لا الحصر نجد أن كثيرًا من نخب الحزب الجمهوري الأمريكي لم تؤيد ترامب
في سعيه لعرقلة تسليم السلطة لبايدن بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية
2020 بما في ذلك نائب الرئيس ترامب نفسه مايك بنس الذي لعب دورًا مهمًا في إفشال
سعي ترامب لإفشال عملية تسليم الرئاسة.
|
أحيانًا لا يصل الزعيم الشعبوي للسلطة بالانتخابات ولا بانقلاب عسكري وإنما
بتواطؤ النخبة السياسية النافذة التي قد تكون ليبرالية لكنها لديها خوف من
"عدو ما" حقيقي أو متوهم
|
وعلى كل حال فمن الفوارق بين الزعيم الشعبوي والزعيم الشعبي الحقيقي في مجال
الشعارات والأهداف التي يعلنها كل منهما، أن الشعبوي يصل للسلطة ثم لا ينجز ما وعد
به من أهداف وما رفعه من شعارات بينما الزعيم الشعبي الحقيقي عندما يصل للسلطة فإنه
ينجز ما وعد به ويترك بصمة حسنة مهمة في الواقع والتاريخ، لأن أي زعيم كي يحصل على
ثقة الجماهير لابد ان يمتطي اساليب شعبية فإن أنجز في السلطة سميناه زعيمًا شعبيًا
أما إن فشل ولم ينفذ شعاراته التي رفعها كي يصل للحكم فهنا يتبين لنا أنه شعوبي
وليس شعبيًا.
ولذلك نجد أن الفئات التي لم يسبق لها الانخراط في العمل السياسي ولم تشارك من قبل
مشاركة نشطة في منظمات متمرسة سياسيا سواء حزبية أو نقابية أو طلابية وكذلك
المهاجرين من الريف للمدن الصناعية أو العمال والموظفين والفلاحين الذين يسحقهم
السعي لكسب أقواتهم ونحو ذلك من الفئات التي لا وقت ولا جهد لديها للتمرس بالعمل
السياسي وفهم دهاليز السياسة وألاعيبها كل هؤلاء يصيروا بسهولة صيدًا سهلاً للزعيم
الشعبوي وحركته السياسية.
وأحيانًا لا يصل الزعيم الشعبوي للسلطة بالانتخابات ولا بانقلاب عسكري وإنما بتواطؤ
النخبة السياسية النافذة التي قد تكون ليبرالية لكنها لديها خوف من "عدو ما" حقيقي
أو متوهم
كما حدث من تواطؤ النخبة الليبرالية في إيطاليا مع موسوليني وإفساح المجال له لتولي
الحكم خوفًا من المد البلشفي حينئذٍ.
ولذلك كله نجد أنه في استطلاعات الرأي التي أجريت قبل انتخابات التجديد النصفي
للكونجرس الأخيرة 2022، كان ترامب هو الاختيار الأول للجمهوريين ليكون مرشحهم
الرئاسي لعام 2024.
لكن بعد النكسة التي مني بها الجمهوريون في هذه الانتخابات أخذ الموقف في التغير،
لماذا؟
لأن مصيدة أي قائد شعبوي هو تولي الحكم فكل ذي عينين يتكشف له فشله في إنجاز ما
وعد، وهذا ما حدث مع ترامب من فشله في ترجيح كفة المرشحين الجمهوريين ويضاف لذلك
فشله في بعض جوانب الحكم أثناء حكمه رغم أنه رمى بذلك على كاهل فيروس كورونا.
كما أن
هناك أمرًا في منتهي الخطورة بالنسبة لأي زعيم شعبوي وهو أنه لا تنهدم أسطورته بعد
فترة زمنية من سقوطه لدى شريحة "ما" من الجماهير حتى لو كان فاشلا أو جر دولته الى
كارثة سياسية او اقتصادية أو كلتاهما معا، ولذلك فسنظل نجد ثلة من الجماهير تحب
زعماء شعبويين جروا الكوارث على شعوبهم مثل موسيليني أو هتلر أو ستالين أو جمال عبد
الناصر أو صدام حسين أو غيرهم لأن النسق الجماهيري للحركات الشعبوية قائم على عدة
أسس من ضمنها إنكار الهزيمة فبالتالي كيف ننتظر من حركة كهذه أن تعلن الهزيمة بينما
فكرها مبني على إنكار وقوع أي هزيمة لها؟
وأخيرًا ما هو مستقبل صعود التيارات السياسية الشعبوية؟
البعض يرى أن الظروف السياسية والاقتصادية الحالية وآفاقها المستقبلية تنبئ بأن
هناك أخطارًا كبرى جيوسياسية سوف
تلقي بظلالها على مستقبلنا القريب والمتوسط إذ من المتوقع أن يحدث صعود واضح
للأحزاب السلطوية الراديكالية لليمين المتطرف أو لليسار المتطرف بسبب الارتفاع
الحاد في الدخل لدى الطبقات العليا بجانب انعدام المساواة في توزيع الموارد على
مختلف طبقات المجتمع الأخرى، وهو أمر سيشعر هذه الطبقات بأنهم يجري سحقهم بينما
تزداد مكاسب النخبة من المال والنفوذ والقدرة، كما سترتفع نسب البطالة لأن الذكاء
الاصطناعي والروبوتات والأتمتة سوف تفضي إلى بطالة مرتفعة مما سيزيد من تفاقم
المشكلات الاقتصادية للقاعدة العريضة من الجماهير، وهذا كله يمهد لصعود تيارات
سياسية شعبوية ما لم نجد حلولاً ناجعة تشمل كافة أفراد المجتمع.