روسيا العظمى، أو روسيا القصيرية، متى بدأ إرهاصات تلك الدولة، وما هو تاريخها ؟ وكيف تحولت من إمارة صغيرة إلى دولة كبرى؟ وكيف كانت علاقاتها مع المسلمين؟
الروس من الشعوب السلافية[1]،
التي أطلق عليها الجغرافيون العرب في العصور الوسطى اسم "الصقالبة"، وكلمة صقلب
Esclave))
كلمة فرنسية قديمة، ومعناها عبد أو رقيق، وذلك أن الجرمان، سكان غرب أوروبا، دأبوا
على سبي تلك الشعوب السلافية في العصور الوسطى، وبيع رجالها ونسائها، وبخاصة
الأطفال منهم، إلى عرب الأندلس، ومن هنا جاءت التسمية العربية "الصقالبة".
وكان العرب في ذلك الوقت يطلقون هذا الاسم على سكان البلدان
المختلفة الخاضعة لدولة بلغاريا العظمى، التي خرجت من تحت العباءة البيزنطية عام
1185، وامتدت رقعة أراضيها من البحر الأسود شمالا، إلى البحر الأدرياتيكي جنوبا،
قبل أن تتفكك إلى مدن وإمارات صغيرة متناحرة.
ولم يُعرف للروس أية مساهمات ملموسة في تكوين الحضارات الإنسانية،
كما لم يكن لهم كيان معروف أو اسم متداول أثناء فترة الفتوحات الإسلامية للأقاليم
الشرقية في آسيا الوسطى والقوقاز. وأقدم المعلومات التي دونها العرب في كتبهم، حول
الروس وبلادهم، تعود إلى بداية القرن الثالث الهجري، وقد كان ذلك من خلال الرحالة
العرب الذين جابوا مناطق القارة الآسيوية، ومنها روسيا، في تلك الفترة.
|
كان الخان التتري يفرض الجزية السنوية على الأمراء الروس. وكان الأمراء
الروس تتفاوت أقدارهم لدى الخان، الذي كان له الكلمة العليا عليهم.
|
وتعتبر رحلة أحمد ابن فضلان إلى روسيا في عام 309هـ، والتي سجلها في
مؤلفه الذي أطلق عليه اسم "الرسالة" من أهم تلك الرحلات. وجاءت هذه الرحلة في إطار
سفارة تتألف من جمع من القادة والجند والتراجمة، أرسلها الخليفة العباسي المقتدر
بالله (295-320هـ)، إلى ملك الصقالبة (على ضفاف نهر الفولغا)، إجابة لطلب بلغار
الفولغا الذين كانوا قد دخلوا الإسلام حديثا، وبعثوا برسول منهم إلى بغداد عاصمة
الخلافة يرجون إنفاذ من يفقههم في الدين، ويعرفهم بشعائر الإسلام.
وترجع أهمية رسالة ابن فضلان تلك، إلى كونها تعطينا أول صورة يمكن
الاعتماد عليها عن روسيا، في العصور الوسطى. وقال الرحالة ابن فضلان عن سكانها
بأنهم أكثر خلق الله جهلاً، وأنهم على عكس جيرانهم من البلغار، فقد ظلوا على
الوثنية، وهم سفاكون للدماء، مولعون بالحروب، سرعان ما تنشب بينهم الحروب والنزعات
الدموية، وتتفشى فيهم السرقة، ويكثر القتل، حتى أصبح عادة شائعة عندهم، وفي عرفهم
أن الحكم النهائي للقوة، فإذا احتكموا إلى ملكهم، ولم يقتنعوا بحكمه يطلب منهم
المبارزة بالسيوف.
ووصف ابن فضلان طقوس الوفاة عندهم، فقال: أن الروس، سواء كانوا
فقراء أو أغنياء، يحرقون موتاهم، وقد جرت العادة أن يموت الرجل بمحض إرادته حالما
تموت زوجته. وكان الروس حينئذٍ عبارة عن دوقية (إمارة) صغيرة تعيش حول مدينة كييف،
عاصمة أوكرانيا الحالية، وذكر ابن فضلان أن عدد سكان تلك الدوقية حوالي مائة ألف.
ولكن في نهاية القرن العاشر الميلادي، حدث تحول جذري وخطير في حياة
الروس، وبدأت يظهر لهم كيان ملموس على الساحة العالمية، ففي عام 989م، اعتنق
فلاديمير الكبير (980-1015)، دوق كييف الروسي، المسيحية الأرثوذكسية، وفرضها على
شعبه، مما ساهم في انتشارها في الأراضي شمال البحر الأسود.
الأوكرانيين
والبيلاروس وأغلب شعوب أوروبا الشرقية (البولنديين، والتشيك والسلوفاك، والصرب،
والكروات، والسلوفينين
ومنذ عام 1054، عندما مات آخر حكام كييف، وقعت السهوب الأوكرانية
تحت سيطرة الترك والقبجاق. وفي القرن الثالث عشر انهارت روسيا، تحت ضربات التتار
والمغول، بما في ذلك كييف، التي سقطت بأيديهم في ديسمبر1240. ثم ما لبثت غير وقت
قصير حتى أصبحت روسيا خاضعة لسيادة المسلمين التتار، الذين اعتنقوا الإسلام وتحمسوا
له، وحكموا باسمه أمدا طويلا، وكانت في ذلك مثلها مثل بقية الإمارات في القوقاز
وآسيا الوسطى، بل كانت دولة التتار تشمل جميع البلاد السلافية (الصقالبة) ، في تلك
الفترة، أو بعبارة أخرى أغلب المناطق التي عُرفت فيما بعد بالاتحاد السوفييتي.
وكان
الخان التتري يفرض الجزية السنوية على الأمراء الروس. وكان الأمراء الروس تتفاوت
أقدارهم لدى الخان، الذي كان له الكلمة العليا عليهم.
وبلغ من سطوة المغول أن بارسلوف دوق روسيا الأعظم، أضطر أن يقسم
يمين الولاء للأمير التتري "باطو" ، وأن يعلن هو وسائر أمراء الروس خضوعهم لسلطته.
وفي عام 1328 استطاع أمير موسكو إيفان الأول أن يقنع الخان التتري (أزبك) بمنحه لقب
الأمير فلاديمير العظيم، نظير تحمسه وإخلاصه في جباية الجزية من الأمراء الروس.
والأهم من ذلك هو أن الروس حققوا تقدما كبيرا أيام المغول، وتدريجيا
صاروا إدارة شبه مستقلة، وأزالوا الغابات لتوسيع الأرض الزراعية كما اشتغلوا
بالتجارة والصناعة. فضلا عن التطور في التاريخ والأدب والفلسفة والشعر.
|
كان من نتائج هذا الصعود والتقدم الروسي وقف توسع الإسلام، في وسط شرقي
السهوب، وخسر المسلمون أول موقع لهم، خسارة جدية، وكان ذلك بداية اندحارهم |
وعندما آل أمر التتار إلى الضعف بشكل تدريجي، ظهرت عدة إمارات روسية
مستقلة أهمها موسكو، التي تمردت فيما بعد على حكم التتار، فقامت الحرب بينها وبين
دولة قازان التترية، فوحد الروس جهودهم، وهزموا التتار عام 1380م، وامتد الصراع
الدموي بين دولة المسكوف ودولة التتر، بعد ذلك قرابة مائة عام.
ونظرا لما تميز به الروس من طموح ومن شجاعة عسكرية، ولشغفهم بالحرب
والإغارة والتوسع، وإيمانهم في" أن الحكم النهائي للقوة"، والأهم من كل ذلك هو وجود
الرغبة الصليبية المجنونة التي تحركهم، وصراع الغضب المشتعل بلهيب البغضاء والحقد
بعد فتح العثمانيين للقسطنطينية عام 1453، فقد انتهت حروبهم الطويلة مع التتار،
بإعلان استقلال موسكو عام1480، وذلك على يد إيفان الثالث (1462-1505)، وقد صارت
موسكو روما الثالثة بعد سقوط القسطنطينية.
وكان التتر حينئذٍ قد ضعفوا بسبب منازعتهم الداخلية، وصاروا أعجز في
مواجهة التحدي. وجاء إيفان الرهيب، المعاصر للسلطان سليمان القانوني (1520-1566)،
فوحد روسيا واتخذ لقب القيصر، وجعل موسكو عاصمة له، ثم أعاد تنظيم جيشه مستفيدا من
التقنية الأوروبية التي أنتجها عصر النهضة، فشن حملة صليبية على جيرانه المسلمين،
واستولى خلالها على قازان عاصمة التتر، وقضى على دولة التتار على ضفاف نهر الفولجا
عام 1556.
وقد عرُف هذا القيصر بالرهيب لقوة اندفاعه خارج الدائرة الروسية، بصورة بثت الرعب
في قلوب جيرانه.
وكان من نتائج هذا
الصعود والتقدم الروسي وقف توسع الإسلام، في وسط شرقي السهوب، وخسر المسلمون أول
موقع لهم، خسارة جدية، وكان ذلك بداية اندحارهم،
في وقت كان العثمانيون يتقدمون في الجهات الأخرى، ويبسطون سيطرتهم في مناطق مختلفة
في هنغاريا ومحيط البحر الأسود، وصولا إلى حصار فينا الثاني عام1683.
ومنذ هذا التاريخ بدأ الصراع بين المسلمين والروس يأخذ أبعادا
خطيرة، ودخلت روسيا التي فرضت نفسها كحامية للأمم الأرثوذكسية المسيحية، وللشعوب
السلافية، كطرف ثالث في معاداة الدولة العثمانية الممثلة للمسلمين، وفي الحرب
عليها، وذلك بجانب كلٍ من: الصليبية الإيبيرية في المتوسط والأطلسي والهندي،
والدولة الصفوية الشيعية في إيران.
وكان الروس منذ سطوع نجمهم على مسرح الأحداث، شديدون جدا على
العثمانيين، وانتهجوا معهم، ومع جيرانهم المسلمين في القوقاز وسيبيريا وآسيا
الوسطى، سياسة معادية لا هوادة فيها، وشنوا عليهم الحرب تلو الحرب تحت راية الصليب،
في كل فرصة تسنح لهم، وعملوا بشتى الوسائل على إضعاف الدولة العثمانية وتقويضها.
وهناك تشابه واضح بين هذه الحروب والحروب الصليبية التي شنها
الفرنجة والإسبان والبرتغاليين ضد العالم الإسلامي في المشرق والمغرب، من حيث أن
الدين هو المحرك الأساسي لها، ومن حيث الضراوة والوحشية والهمجية التي تميزت بها،
ومن حيث أنها لاتزال مستمرة حتى اليوم.