شمال القوقاز منطقة احتلها الروس وما زال، أغلبيتها مسلمون، لكن لأهميتها الاستراتيجية والزراعية أبى الروس بعد انحلال الاتحاد السوفيتي التخلي عنها، هل تعد تلك المنطقة حقا جزءا من الدولة الروسية تاريخيا؟ ولماذا وقف الغرب متفرجا على مآسي أهالي تلك المنطقة؟
منذ عدة أيام، وفي ظل السجال الروسي الأمريكي المتفاقم، خرج الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين بتصريحات خلال زيارته لمصنع طائرات يسترجع فيها التاريخ القريب لعداء الغرب
للدولة الروسية.
فيقول: بدأت جميع المشاكل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لأن العالم تم إنشاؤه بعد
الحرب العالمية الثانية من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وعلى
رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
ويواصل بوتين حديثه، فيذكر أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، دخلت روسيا حربًا في
شمال القوقاز أي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، ولكن الرجل يعد تلك الحرب من بين
الحروب التي افتعلها الغرب ضد روسيا، فيقول بالحرف الواحد:
انهار الاتحاد السوفيتي وبدأت الضغوط على روسيا نفسها. وتم إنشاء طابور خامس في
الداخل من أجل زعزعة الوضع السياسي، وتم إرسال الإرهابيين الدوليين إلينا، الذين
بدأوا العمل في مناطق مختلفة، بما في ذلك شمال القوقاز. لقد مررنا جميعًا بمرحلة
الهجمات الإرهابية داخل البلاد، كل شيء كان أمام أعيننا.
ويختم الرجل حديثه فيقول، إن معارك الروس حالياً هي الحفاظ على وجود روسيا.
فهل ما ذكره بوتين صحيحا فيما يتعلق بشمال القوقاز؟
الرجل يتحدث عن هذه المنطقة وكأنها جزء أساسي من الأراضي الروسية.
فهل هذه الفرضية صحيحة؟ وما حقيقة ما جرى فيها؟
وهل موقف الغرب في تلك الحقبة التاريخية كان موقفا عدائيا لروسيا كما يزعم بوتين؟
ان ما دار في شمال القوقاز في التسعينات وأوائل الألفية يعد حلقة في سلسلة من مآسي
المسلمين في هذا العصر لازالت مستمرة حتى اليوم...كيف ذلك؟
|
يؤرخ المؤرخون لدخول الإسلام بشكل قوي في منطقة القوقاز وبلاد الشيشان في
عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عام 23 هجري الموافق 647 ميلادي، عندما
جهز جيشًا قوامه 18 ألف مقاتل بقيادة سراقة بن عمرو |
القوقاز بين الجغرافيا والتاريخ
القوقاز أو القفقاس هي المنطقة الجبلية والتي يطلق عليها جبال القوقاز، الواقعة بين
بحر قزوين (كان يسمى قديما بحر الخزر) والبحر الأسود، وهذا جعلها شبيه بسد او جسر
من اليابسة ما بين بحر قزوين شرقا والذي يفصلها عن اسيا الوسطى، والبحر الأسود غربا
الذي يفصلها عن اوروبا الشرقية، فهي تاريخياً بمثابة حاجز طبيعي بين شرق أوروبا
وغرب آسيا.
وتبلغ طول هذه المنطقة الجبلية 1200 كيلو متر، وتتكون من سلسلتين: (القوقاز الصغرى)
الجنوبية، (والقوقاز الكبرى) الشمالية.
فسلسلة القوقاز الصغرى التي تقع جنوب القوقاز تمتد على حوالي ثلثي منطقة القوقاز،
وتشمل حاليا جمهوريات مستقلة هي، جورجيا وأرمينيا وأذربيجان.
أما سلسلة القوقاز الكبرى الشمالية ويطلق عليها شمال القوقاز، وهي المنطقة التي
تحتلها روسيا الآن، وتشمل أراضي قبائل وقوميات ويشكل المسلمون كديانة الغالبية بين
شعوبها.
وقد نظمتها روسيا عام 2010، في سبع جمهوريات أشهرهم، الشيشان وداغستان وشركسيا، حيث
يبلغ سكان شمال القوقاز ما يقرب من عشرة ملايين شخص، غالبيتهم مسلمون.
تاريخيًا،
يؤرخ المؤرخون لدخول الإسلام بشكل قوي في منطقة القوقاز وبلاد الشيشان في عهد
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عام 23 هجري الموافق 647 ميلادي، عندما جهز جيشًا
قوامه 18 ألف مقاتل بقيادة سراقة بن عمرو فوصل
بلاد فارس ثم استولى على أذربيجان جنوب القوقاز، وانفصلت عنه قوة بقيادة عبد الرحمن
بن ربيعة فأكملت فتح جنوب القوقاز في أرمينيا وجورجيا، ثم توجه إلى شمال القوقاز
فتم فتح داغستان وقبرطاي وأوسيتيا وأبخازيا والشيشان. وأتخذ سراقة بن عمرو تبليسي
عاصمة جورجيا الحالية عاصمة له.
واستمر حكم العرب للقوقاز خمسة قرون، حتى نهاية العصر العباسي فانقسمت منطقة
القوقاز إلى دويلات محلية، الأمر الذي أتاح للسلاجقة الأتراك المتواجدين في آسيا
الوسطى وبلاد الشام إلى ضم هذه المناطق لها بعد أن استولوا على إيران وخوارزم ومعظم
مناطق آسيا الوسطى
ونظرًا لكون السلاجقة مسلمين فقد انتعش الإسلام في منطقة القوقاز مرة أخرى.
استمر حكم السلاجقة حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، عندما قام المغول باحتلال
القوقاز بقيادة جنكيز خان وفرض سيطرته على القوقاز، حتى قيام دولة التتار بقيادة
تيمور لنك الذي اكتسح إيران وآسيا الصغرى وتركيا وأخضع معظم بلاد القوقاز (عدا
الشيشان)، ودام حكم التتار (الذين كانوا في حينها مسلمين) في القوقاز حتى قيام
الإمبراطورية الروسية التي أخذت بالتوسع نحو القوقاز، ليمتد الصراع بين روسيا وأهل
القوقاز وفي المقدمة منهم الشيشان إلى ما يزيد على أربعة قرون.
|
استخدم بوتين ذريعة الإرهاب الإسلامي لشن الحرب الروسية الشيشانية الثانية.
وقد وصفها رسمياً بأنها "عملية مكافحة الإرهاب"، التي اعتقد أنها ستكون
قصيرة، لرفع شعبيته الخاصة |
وحتى عام ١٩٩٠ كان الاتحاد السوفيتي السابق يحتل كل إقليم القوقاز، شماله وجنوبه،
وبعد تفككه اعترف الروس باستقلال القوقاز الجنوبي والذي يضم الجمهوريات الثلاث:
أذربيجان، وجورجيا وأرمنيا.
ولكن شمال القوقاز فقد أبى الروس إلا أن يظلوا جاثمين على أرضه، وعندما تجرأ أهل
الشيشان وهي إحدى مناطق شمال القوقاز على إعلان الاستقلال، وقعت حرب الشيشان
الأولى.
جرت فصول هذه الحرب بين عامي 1994 و1996، حينما أعلن الرئيس جوهر دوادييف استقلال
الشيشان، وأصدر أوامره بإيقاف عمل المؤسسات الروسية، ثم تبع ذلك بإجراء انتخابات
رئاسية وبرلمانية في الشيشان، إلى أن أعلن في 12 مارس 1992 الدستور الشيشاني
الجديد.
فشن الروس هجومًا شاملاً ولكنه تمت مواجهته بصمود القوات الشيشانية، وبالرغم من
احتلال العاصمة جروزني، إلا أنه بعد عام ونصف من احتلالها للعاصمة، ووافق الرئيس
الروسي بوريس يلتسين على استقلال الشيشان بحكم الأمر الواقع، وتم التوقيع على
اتفاقية خاسافيورت، والتي اعتبرها العديد من قادة الجيش الروسي بمثابة صك
الاستسلام، ولذلك لم تنتهِ الحرب بعد.
وبعدها ببضع سنوات في عام 1999، شن الرئيس الروسي الجديد حينها فلاديمير بوتين
الحرب في الشيشان لإضفاء الشرعية على سلطته الشخصية وتعزيزها.
واستخدم بوتين ذريعة الإرهاب الإسلامي لشن الحرب الروسية الشيشانية الثانية. وقد
وصفها رسمياً بأنها "عملية مكافحة الإرهاب"، التي اعتقد أنها ستكون قصيرة، لرفع
شعبيته الخاصة،
من شخصية سياسية غير معروفة كرئيس للوزراء إلى رئيس لروسيا.
استطاع الروس السيطرة على العاصمة بعد معركة طاحنة دامت لسنة كاملة استعمل فيها
الروس المدفعية والدبابات والصواريخ والطائرات والأسلحة المحرمة، منها قنابل الوقود
والقنابل الحارقة وبعض الأسلحة الكيميائية، وبعد المعركة وصفت الأمم المتحدة
العاصمة غروزني بانها المدينة الأكثر دمارًا على وجه الأرض، إذ بلغت نسبة دمار
المدينة ٩٥% منها، وفي النهاية تمكن الروس من السيطرة على الشيشان إثر خيانات عديدة
من بعض قادة الشيشان وكان على رأسهم قاديروف والذي كافأه الروس بتعيينه رئيسًا
للشيشان ومن بعده ابنه، داخل الاتحاد الروسي.
محصلة الحربين، فقد قتل فيها أكثر من ثلاثمائة ألف شيشاني مما يشكل حوالي ربع سكان
الشيشان في هذا الوقت.
لقد وصف الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف والذي قتلته القوات الروسية في الحرب
الشيشانية الأولى الوحشية الروسية ضد أهل القوقاز بأبلغ لفظ حين قال في حديث صحفي
قبل استشهاده: "أن يتغير الموقف الروسي تجاه الشيشان، فهذا أمر يتطلب تغيير روسيا
بأكملها وإن (النزعة الروسية) لهي أشد خطرًا من الفاشية أو النازية وكل أيديولوجيات
الكراهية".
الموقف الأمريكي من الغزو الروسي في الشيشان
في الحرب الأولى، قارن الرئيس الأمريكي وقتها بيل كلينتون موقف رئيس روسيا وقت
الحرب بوريس يلتسين، بإبراهام لينكولن الرئيس الأمريكي الذي حرر العبيد ووحد أمريكا
في الحرب الأهلية، بل قدمت الولايات المتحدة مساعدات مالية لروسيا في هذا الصدد.
وفي الحرب الثانية صمت الغرب، وخرجت بعض التصريحات المتناثرة منددة بمجازر الروس
على استحياء، ولكن في مجملها تعلن موافقة ضمنية على ما حدث، معتبرة أن ما يجري تمرد
يحدث داخل روسيا، أو على أقل تقدير محاولات روسية لضمان أمنها في دائرة نفوذها
الجغرافي الضيق، فهذا مسموح به.
وعند مقارنة الموقف الغربي من غزو الاتحاد السوفيتي قبلها بعقد لأفغانستان، والدعم
الغربي الإعلامي، بما حدث في الشيشان بعد الغزو الروسي، سندرك جيدًا الحسابات
السياسية والعقدية في الحالتين، فالاتحاد السوفيتي كان يقدم نفسه أنه قوة ملحدة
تريد السيطرة على العالم، بعكس روسيا الجديدة التي تعتبر نفسها جزء من الشعوب
المسيحية.
يدرك بوتين جيدًا أن التأييد الغربي ودعمه له في حرب الشيشان كان بلا حدود، وهو
يعرف بالتأكيد قبل أي أحد أن حديثه عن إرسال الغرب للإرهابيين في الشيشان، لهو حديث
زور وكذب وبهتان واستهلاك إعلامي، وأنه قد يحدث صدام بين الغرب والشرق ويتنافسان
على التمدد والنفوذ، ولكن في حال صعود أي قوة إسلامية ناشئة فسيتحدان ضدها
ويتحالفان معًا لسحقها.