تشير أخطر هذه الاحتمالات إلى استمرار تمسك نتنياهو وائتلافه بسياساته وتوجهه ضد القضاء، التي دفعت الجماهير إلى التزام الشوارع على مدار الأسابيع الماضية، وهي مرشحة للاستمرار والتصاعد عدداً ونوعاً
تتفاعل على نحو متسارع حركة الاحتجاجات ضد سياسات رئيس حكومة بنيامين نتنياهو وما
يطلق عليها تحالفه الحاكم "الإصلاحات القضائية"، وكان آخرها مشروع قانون يحصنه من
العزل، هذه الاحتجاجات مستمرة ومتنامية للأسبوع العاشر على التوالي، والمشاركة
العددية والنوعية فيها في تزايد.
لعل ما تشهده دولة الكيان منذ عودة نتنياهو إلى سدة الحكم على رأس تحالف من اليمين
الأشد تطرفاً وفي القلب منه الصهيونية الدينية، أحداثاً غير مسبوقة منذ قيام هذه
الدولة على أنقاض فلسطين التاريخية إبان النكبة في العام 1948، سواء من حيث صيرورة
الاحتجاجات واستمراريتها والهدف الذي انطلقت من أجله، ومشاركة قطاعات واسعة ومتنوعة
فيها، وعلى رأسها قيادات سياسية وعسكرية وأمنية.
ورغم الأثر الواضح الذي تركته هذه الاحتجاجات على سمعة دولة الكيان التي لطالما
ادعت أنها "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، والمخاوف على مستقبلها، مع تصريح
قيادات وازنة بأنها تتصدع من الداخل وأن وقوع حرب أهلية أمر غير مستبعد، إلا أن
نتنياهو لا يبدو أنه في وارد التراجع عن سياساته التي تستهدف إدخال تعديلات واسعة
على القضاء، تصب في صالحه الشخصي، ويهدف من ورائها إلى حمايته في منصبه وكذلك
تحصينه من الملاحقة القضائية على خلفية تهم في قضايا فساد، قد تزج به في السجن في
حال إدانته، وتقضي نهائياً على حياته السياسية.
|
أبرز
هذه التحديات وأخطرها والتي تتجاوز مستقبل الائتلاف اليميني المتطرف
الحاكم، وتتهدد وجود الكيان نفسه، هو الانقسام الداخلي الحاد، وتنامي
التصريحات الصادرة عن مسؤولين كبار
|
وفي هذا الصدد، صادقت لجنة برلمانية خاصة في الكنيست على مشروع قانون طرحه نتنياهو،
ينص على منع المستشارة القضائية من الإعلان عن تعذر رئيس الحكومة عن القيام بمهامه
إن لم يكن بحالة صحية، وتنحيته عن منصبه، وأقر الكنيست القانون بالقراءة الأولى.
كما أقر الكنيست بالقراءات الأولى والثانية مشاريع قوانين تحد من صلاحيات المحكمة
العليا، وتقلص من سلطتها الدستورية لتقييد رقابتها القضائية على قوانين عادية يسنها
الكنيست، وذلك من بين جملة قوانين تعتزم حكومة نتنياهو إقرارها تحت مسمى "إصلاح
الجهاز القضائي"، وتعتبرها قوى المعارضة أنها ستحول دولة الكيان إلى دولة
ديكتاتورية، وتغير من نظام الحكم، عبر منح هيمنة تامة لائتلاف نتنياهو من دون أي
منظومات رقابة أو كوابح قانونية أو قضائية لسياساتها.
لم يكن أشد المتشائمين في معسكر اليمين يتوقع أن تنقلب الصورة بهذا الشكل
الدراماتيكي، بعد نحو خمسة شهور على فوز ائتلاف نتنياهو والتيار الديني الصهيوني،
بالانتخابات البرلمانية الخامسة التي جرت في غضون السنوات الأربع الأخيرة، فحصول
ائتلاف نتنياهو الحاكم حالياً على 64 مقعداً، وتأليفه حكومة قوية ومنسجمة في كثير
من الملفات، يبدو أنها كانت بناء على نتائج خادعة، وحملت في طياتها الكثير من
المفاجآت غير المتوقعة، ووجد نفسه أمام تحديات كبيرة داخلياً وخارجياً.
أبرز هذه التحديات وأخطرها والتي تتجاوز مستقبل الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم،
وتتهدد وجود الكيان نفسه، هو الانقسام الداخلي الحاد، وتنامي التصريحات الصادرة عن
مسؤولين كبار
أبرزهما رئيس الكيان إسحق هيرتسوغ ووزير الجيش السابق وأحد أركان المعارضة بيني
غانتس عن التصدع الداخلي واحتمالات نشوب حرب أهلية، استناداً لكون الاحتجاجات
الحالي تكاد تكون الأولى من نوعها التي تنخرط فيها أطياف متعددة من مواطني دولة
الكيان، وبأعداد كبيرة ومتنامية، مع لجوئهم إلى إغلاق الطرق المؤدية إلى أهم "مطار
بن غوريون"، وهو أهم مطار في الكيان، ما أجبر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، على
عقد لقائه مع نتنياهو داخل أروقة المطار، الذي وصله الأخير على غير العادة بطائرة
مروحية، في سابقة محرجة لم تعهدها دولة الكيان من قبل.
وإلى جانب هذه المشاركة الجماهيرية الحاشدة وغير المسبوقة، برز دور جنود وضباط
الاحتياط العاملين في وحدات مختلفة من الجيش، والذين تقدّموا بعرائض احتجاج
لمديريهم، يعلنون فيها عدم مشاركتهم في التدريبات، أو العمليات الحربية إذا لزم
الأمر، في حال تمرير ما يسمى بـ "الإصلاحات القضائية"، وعلى رأس أولئك الجنود طيارو
سلاح الجو، ليس فقط العسكريين، بل وشمل طيارون مدنيون امتنعوا عن قيادة طائرة
نتنياهو وزوجته، في رحلتهما إلى إيطاليا، ما اضطره للاستعانة بطيار من اليهود
الحريديم لقيادة الطائرة.
|
ما كان يعتقد بأنه أحد أقوى الائتلافات الحاكمة التي مرت في تاريخ دولة
الكيان، ربما يتحول بين ليلة وضحاها إلى الائتلاف الأسرع تفككاً وسقوطاً،
في حال استمرت حركة الاحتجاجات الداخلية، وتصاعدت موجة العمليات الفدائية
الفلسطينية. |
وتتزامن هذه الاحتجاجات مع تنامي العمليات الفدائية الفلسطينية في القدس والضفة
الغربية، والتي تزيد من التحديات أمام ائتلاف نتنياهو، الذي جاء حاملاً لواء
استعادة الأمن للمستوطنين ولمواطني دولة الكيان، وفي حال تصاعدت هذه العمليات خاصة
خلال شهر رمضان المبارك، الذي تخشى فيه المؤسسة الأمنية والعسكرية في الكيان من
اتساع دائرة المواجهة مع الفلسطينيين، فإن أزمة ائتلاف نتنياهو ستزداد عمقاً، وقد
يجد نفسه أمام خيارات محدودة لمنع سقوطه المدوي والسريع وهو خوض حرب واسعة مع غزة،
أو لبنان، الأمر الذي تفسره الطريقة السينمائية التي أخرج بها عملية تفجير عبوة
ناسفة قرب مفترق مجدو، قبل بضعة أيام، وادعى أن متسللين من جنوب لبنان مسؤولين
عنها، وكانوا يخططون لتنفيذ هجمات أخرى ضد أهداف في الكيان، وهي الطريقة التي يعتقد
مراقبون أن نتنياهو يريد من ورائها تبرير أي هجوم محتمل على لبنان أو غزة، إذا وجد
نفسه مضطراً له للهروب من أزمته الداخلية.
استناداً إلى هذه التحديات التي تواجه ائتلاف نتنياهو، والعراقيل الكبيرة الذي
تعترضه، نصبح أمام مجموعة من الاحتمالات، التي يمكن أن تشهدها المرحلة المقبلة،
والتي يشير معظمها إلى أن الأسوأ لم يأت بعد، وأن
ما كان يعتقد بأنه أحد أقوى الائتلافات الحاكمة التي مرت في تاريخ دولة الكيان،
ربما يتحول بين ليلة وضحاها إلى الائتلاف الأسرع تفككاً وسقوطاً، في حال استمرت
حركة الاحتجاجات الداخلية، وتصاعدت موجة العمليات الفدائية الفلسطينية.
وتشير أخطر هذه الاحتمالات إلى استمرار تمسك نتنياهو وائتلافه بسياساته وتوجهه ضد
القضاء، التي دفعت الجماهير إلى التزام الشوارع على مدار الأسابيع الماضية، وهي
مرشحة للاستمرار والتصاعد عدداً ونوعاً، مع الكثير من الاحتقان بين المتظاهرين من
جهة، وبين أجهزة الأمن، التي يشرف عليها وزير الأمن القومي الأشد تطرفاً إيتمار بن
غفير من جهة أخرى، وإمكانية أن تتحول الاحتكاكات والمناكفات اللفظية والجسدية إلى
مواجهات عنيفة ينتج عنها قتلى وجرحى من الجانبين، أو في المؤسسات الرسمية
والحكومية، والتي تقف على رأسها مؤسسة الجيش، حيث تبدو فيها الأوضاع أكثر سخونة،
وتحمل في طياتها مخاطر جمة على مستقبل دولة الكيان.
هذا السيناريو سيدخل الكيان في إرباك شديد، وسيدفع نحو الهجرة العكسية لمواطنين في
دولة الكيان نحو دول غربية يحمل الكثير منهم جنسيتها إلى جانب جنسية دولة الكيان،
بحثاً عن الأمن.
سيكون نتنياهو وائتلافه الحاكم أمام مستقبل غامض، وفي طياته مخاطر جمة، خلال الشهور
القليلة المقبلة، وهو مفتوح على كل الاحتمالات، وكلها لا تصب في صالحه الشخصي، أو
لمستقبل دولة الكيان، التي يحذر كبار قادتها ومفكريها من عقدة العقد الثامن،
استناداً إلى حقائق تاريخية تشير إلى أن دولة لليهود لم تعمر أكثر من ثمانية عقود،
وها هي دولة الكيان تقترب من منتصف العقد السابع من عمرها، وسط أمواج متلاطمة من
التحديات، فهل يطيح نتنياهو الطامح دوماً إلى أن يكون "الملك المتوج للأبد" بنفسه،
وبدولته عن الخارطة؟، سؤال لن يطول انتظار إجابته وسيكشفها المستقبل القريب.