• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قرية حوارة الفلسطينية .. هل يمحو الاحتلال الجغرافيا بعد أن زوّر التاريخ؟

بلدة "حوارة" الفلسطينية، واحدة من 56 قرية وبلدة تتبع مدينة نابلس، إحدى أكبر محافظات شمال الضفة الغربية بدأت تتصدر قائمة الأحداث بعد تنفيذ مقاومين فلسطينيين عملية فدائية وقتل مستوطنيْن في وسط الشارع الرئيس لبلدة "شارع حوارة"


عندما كانت آلة الدعاية الصهيونية تعمل بجد على المشروع الاستيطاني في أرض فلسطين وتدعو اليهود المُشتَّتين في شتى أصقاع الأرض إلى القدوم إليها، كان قادة الصهيونية الأوائل من أمثال "ثيودور هِرتزل" و"إسرائيل زانجويل" يخططون لجعل الأرض الفلسطينية خالية تمامًا من أهلها تحقيقًا لهدفهم في أن تصبح أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، كانت سردية الخطاب الصهيوني تقوم على أن هذه الأرض هي التي وُعِدُوا بها في كتابهم المقدس لذا فإن العودة إليها واجبة الحدوث، وهو ما دفعهم للاستحواذ عليها بشتى الطرق، منذ ذلك الحين وحتى الآن.. لا يزال الاحتلال يمحو الجغرافيا الفلسطينية ويغيّر معالمها نتيجة الإبادة المستمرة للقرى والأحياء السكنية وتهجير الفلسطينيين من مناطقهم جنبًا إلى جنب مع عمليات تزوير تاريخهم وتشويهه من أجل كتابة تاريخ جديد لدولة الاحتلال.

محو قرية حوارة

بينما كان المستوطنون الصهاينة يشنون هجومًا داميًا على قرية حوارة الفلسطينية قبل أيام، كان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يصب مزيدًا من الزيت على النار بتصريحاته التي دعا خلالها إلى محو هذه القرية من الوجود، وبالرغم من أن هذه التصريحات ليست بجديدة على القادة الصهاينة، حيث قيل ما هو أبشع منها على مرّ التاريخ، إلا أن تلك التصريحات الأخيرة أغضبت المجتمع الدولي فانتفضت الولايات المتحدة عبر وزارة خارجيتها لتدرس رفض منح سموتريتش تأشيرة دخول إلى أراضيها، فيما قال المتحدث باسمها نيد برايس إن تصريحات سموتريتش "بغيضة وغير مسؤولة ومثيرة للاشمئزاز واستفزازية إلى حد التحريض على العنف"، ووسط تزايد الضغوط الدولية حول ما قاله، اضطر سموتريتش إلى القول بأنها كانت "زلة لسان"، مضيفًا أنه أخطأ في اختيار كلماته بشأن حوارة، ومشيرًا إلى أن تصريحه خرج وسط ما أسماه "جيشان المشاعر".

 

بعد أكثر من 7 عقود، أصبحت النكبة رمزًا لإنكار الحقوق المتوارثة من جيل فلسطيني إلى آخر، وعملية مستمرة من التهجير ونزع الملكية على جانبي الخط الأخضر مدفوعة بسياسات وممارسات بغيضة

لكن تصريحات سموتريتش بشأن محو قرية حوارة لم تكن الوحيدة، فقد سبقه النائب بالكنيست، تسفيكا فوغل، وهو من أبرز نواب حزب عوتسما يهوديت (القوة اليهودية) الذي يرأسه وزير الأمن القومي المتطرّف إيتمار بن غفير، حيث قال إنه يريد رؤية بلدة حوارة محترقة ومحاصرة، كما قام زميله في الحزب ليمور سون هار- ميليخ بالتوجّه إلى القرية من أجل دعم المستوطنين الذين يهاجمون حوارة وعددًا من القرى الفلسطينية المجاورة شمالي الضفة الغربية، وقتلوا بالفعل عدد من الفلسطينيين وأصابوا أخرين وأحرقوا عشرات المنازل والسيارات التي يملكها فلسطينيون، كان اللافت خلال هذا الهجوم أن هناك مساندة من المستوى السياسي للضالعين في أحداث العنف والإرهاب التي وقعت في حوارة.

نكبة مستمرة

مع اقتراب مرور 75 عامًا على ذكرى النكبة، لا يمكن نسيان ما حدث في تلك الأثناء عندما طُرِدَ حوالي 800 ألف فلسطيني من أصل نحو مليون و400 ألف، قسريًا من منازلهم وممتلكاتهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، ودُمِرَت 531 قرية من أصل 774 قرية ومدينة فلسطينية، واستشهد أكثر من 10 آلاف فلسطيني في الأحداث التي سبقت عام 1948م، تشردت آلاف الأسر الفلسطينية فيما عمد الكيان المحتل إلى نزع ملكية اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين من خلال اعتماد تشريع يهدف إلى حرمانهم بشكل منهجي من حقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، وهذا التشريع لا يزال ساري المفعول حتى يومنا هذا، وبالرغم من أن القانون الدولي أعاد التأكيد على حق الفلسطينيين في العودة لديارهم باعتباره حقًا غير قابل للتصرف، وذُكِرَ ذلك في أكثر من مائة قرار من قرارات الأمم المتحدة، لكن استمر تجريد المدنيين من حقوقهم وطردهم من أراضيهم ومنازلهم، وبقيت القرارات الأممية والتنديدات الدولية لا تعدو كونها حبرًا على ورق.

فبعد أكثر من 7 عقود، أصبحت النكبة رمزًا لإنكار الحقوق المتوارثة من جيل فلسطيني إلى آخر، وعملية مستمرة من التهجير ونزع الملكية على جانبي الخط الأخضر مدفوعة بسياسات وممارسات بغيضة، فمحنة الفلسطينيين تشبه في نواح كثيرة محنة الشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم، الذين تم اقتلاعهم قسرًا وطردهم، وحل محلهم مستوطنون أجانب، في حين تم إخضاعهم لحياة من الدرجة الثانية في أرضهم، بيد أن ارتباط الفلسطينيين بأرضهم ظلّ قويًا وراسخًا، ظلت الهوية الفلسطينية باقية في الذاكرة الجماعية وهذه سمة مميزة للنضال الفلسطيني بالرغم من السعي الصهيوني الدؤوب لإسكات الفلسطينيين ومحو ذاكرتهم الجماعية على أمل أن ينسى الفلسطينيون يومًا ما ويتخلون عن حقوقهم.

تزوير التاريخ

اهتمت الحكومات الصهيونية المتعاقبة منذ نشأة هذا الكيان السرطاني بالآثار الفلسطينية كونها تشكل الأساس الدال على هوية فلسطين، لذا راكمت الأموال دعمًا لعلماء الآثار الإسرائيليين بغية تزوير التاريخ عبر تزوير الآثار الفلسطينية وإعطاء صبغة يهودية لها، وقد خضعت المدن الفلسطينية الرئيسية مثل القدس وعكا ويافا وطبريا لإجراءات تهويد ممنهجة عبر تزوير الكتابات الأثرية وصولًا إلى دسّ بعض المخطوطات أو الآثار المنقولة من أماكن أخرى في أرض فلسطين ومن ثمَّ استخراجها مجددًا أمام كاميرات الإعلام، وقد تفاقمت تلك الظاهرة بعد انطلاقة انتفاضة الأقصى في نهاية سبتمبر 2000م، فيما تسبب جدار الفصل العنصري في تدمير العديد من المعالم الأثرية الفلسطينية التي وقعت في مسار بنائه، فضلًا عن نهب إسرائيل لعشرات المواقع الأثرية والأوابد التاريخية التي تحمل دلالات كبيرة على الهوية الحقيقية لفلسطين، وسبق وأن أشارت دائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطيني التابعة للسلطة الفلسطينية إلى تعرّض 500 موقع أثري فلسطيني وأكثر من 1500 معلم أثري فرعي للسرقة والتدمير من قبل لصوص آثار صهاينة.

 

 إذا كانت إسرائيل تسطو على الأرض والآثار بالسلاح، فإنها تسطو على الوعي عبر تزييفه، فشرعت أيضا في تغيير مضامين الكتب الدراسية الفلسطينية في القدس المحتلة

وبينما تتفاقم أزمة التصدي لظاهرة سرقة آثار فلسطين والاعتداء على مواقعها الأثرية، ظهرت تحديات أخرى تتمثل في سرقة إسرائيل للأزياء والمأكولات الفلسطينية، حيث تقوم بنسبتها لنفسها وتشارك بها في معارض دولية على اعتبار إنها إسرائيلية أصيلة، بالرغم من كونها جزءًا أصيلًا من هوية الشعب الفلسطيني، هذا إلى جانب قيام سلطات الاحتلال بدسّ آلاف القبور اليهودية الوهمية في أراضي محيط المسجد الأقصى والبلدة القديمة من القدس، وذلك كجزء من مخطط تهويد القدس عبر تقنين وضع القبور اليهودية الوهمية واصطناع منطقة يهودية مقدسة بتاريخ عبري وهمي يمنحهم أحقية تاريخية ودينية في تلك الأراضي المقدسة للمسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها تشكيل الحكومة الصهيونية لجنة خاصة في عام 2004م تحت مسمى "لجنة إنقاذ مقبرة جبل الزيتون"، وتم رصد ميزانية ضخمة لها من أجل تعزيز تهويد القدس تحت مزاعم ترميم مقبرة الزيتون، وما حدث في الواقع أنه تم دسّ مئات القبور اليهودية الوهمية في الأرض وإقامة حدائق توراتية تلمودية حولها.

إذا كانت إسرائيل تسطو على الأرض والآثار بالسلاح، فإنها تسطو على الوعي عبر تزييفه، فشرعت أيضا في تغيير مضامين الكتب الدراسية الفلسطينية في القدس المحتلة، فلم تسلم التاريخ والجغرافيا والمدنيات من التغييرات الإسرائيلية التي تتلاءم مع رؤيتها الصهيونية وتوجهاتها السياسية، فحذفت سلطات الاحتلال كل الصفحات والفقرات المرتبطة بالهوية القومية والوطنية الفلسطينية وحتى الدينية، وتمت إزالة أية شعارات تخص السلطة الفلسطينية والعلم الفلسطيني والنشيد الوطني وأي إشارة إلى حق العودة أو الجهاد في سبيل الله أو صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وبالتالي إضعاف الهوية الوطنية وخلق حالة اغتراب بين الفلسطينيين والمواقع الطبيعية، وعلى الجانب الآخر تروّج في الداخل الإسرائيلي وعالميًا لأساطير تاريخية يهودية من نسج خيال كتّابها، بحيث تروى بأسلوب سردي جذاب هذه الأساطير لإعادة تشكيل وعي الشباب اليهود من جهة، من أجل بناء علاقة وجدانية بين اليهودي ووطنه المزعوم، وإعادة تشكيل وعي شباب الدول البعيدة عن منطقتنا، فتصبح الأجيال الناشئة عالميًا مؤمنة بقضية إسرائيل الزائفة.

تشويه الجغرافيا

لم تتوقف إسرائيل عند حدود احتلال الأرض وتزوير التاريخ، بل شرعت مبكرًا في محو الجغرافيا كجزء من خطتها لمحو هوية فلسطين بشكل ممنهج، فسنّت حكومة الاحتلال الأولى تحت قيادة ديفيد بن غوريون قانون التسميات في عام 1951م، وبدأت بشكل محموم في عبرنة مسميات الشوارع والأماكن والإكثار من نشر وتوزيع الخرائط والكتيبات السياحية واللافتات الإرشادية لجعل الأجيال الجديدة لا تعرف سوى المسميات العبرية لمعالم أرض فلسطين، ورغم تراجع الحكومة عن مشروع قانون بتهويد المسميات في عام 2009م نتيجة احتجاجات فلسطينيي الداخل، لكن بقيت الممارسات على أرض الواقع على خلاف ذلك تماما؛ فباتت استعمال يروشلايم وجروزاليم بدلًا من القدس هو الشائع، وانقلبت صفورية إلى تسيبوري والحمة إلى حمات غدير، وأصبح تل القاضي هو تل دان، وباتت محمية العشرة تدعى حوشات طال، أما عين السودا فباتت تسمى عين حوجلاه، ومثل ذلك الكثير والكثير، وحتى الجبال والأنهار والبحيرات لم تسلم من العبرنة، فعلى سبيل المثال أصبح جبل فقوعة صار يدعى جبل الجلبوع، وجبل الجرمق أصبح جبل ميرون، أما نهر العوجا فقد استبدل اسمه باليركون، ونهر المقطع بات نهر الكيشون، وقد أشارت إلى ذلك الباحثة الإسرائيلية نوجا كدمان في كتابها "جوانب الطرقات وعلى هامش الوعي"،  حيث قالت إنه تمت إضافة 418 قرية في الثقافة اليهودية عبر اختراع تسميات عبرية لها ولمناطقها أو تحوير أسمائها العربية.

يمتد العبث الإسرائيلي بالجغرافيا لفرض واقع سكاني جديد يُحدث تغييرًا ديمغرافيًا من خلال الترحيل القسري للفلسطينيين من أراضيهم، وهي سياسة تعود جذورها إلى مؤسسي الصهيونية الأوائل وصارت شائعة وتلقى دعمًا وتأييدًا في ظل توسع عمليات الاستيطان وخطط المسؤولين الإسرائيليين التوسعية، وسبق وأن همس إيجال يادين، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في الفترة ما بين عامي 1949م و1952م، في أذن رئيس الحكومة بن جوريون قائلاً: "إن العرب يشكّلون خطرًا على دولتنا في أيام السلم كما في أيام الحرب"، بيد أنه مع اقترابنا من إحياء ذكرى يوم النكبة في الخامس عشر من مايو، وهو اليوم الذي أُعلن فيه قيام إسرائيل على معظم أراضي فلسطين في عام 1948م، لا يزال الفلسطيني المولود في أي مكان حول العالم يتماثل مع مدينته أو قريته التي طُرِدَ منها أجداده، بعضهم لم يُسمَح له أبدًا من قبل بدخول فلسطين، لكنّه ظل ـ وسيظل ـ باقيًا على عهد من سبقوه، بأن هذه الأرض فلسطينية وعربية وإسلامية، مهما حاول الصهاينة محو الجغرافيا وتزوير التاريخ.

أعلى