تشير بيانات عسكرية صادرة عن جهاز الأمن الداخلي المعروف باسم (الشاباك) في دولة الكيان الصهيوني إلى أن العام 2022 شهد زيادة مضطردة في عدد العمليات التي استهدفت المستوطنين والجنود، بواقع 1933 عملية، أدت إلى مقتل 29 صهيونياً وجرح نحو 128
إن أغلب العمليات التي أشارت إليها البيانات الأمنية والعسكرية في دولة الكيان هي
عمليات فردية، يقوم بها منفذون فلسطينيون بصورة فردية من دون غطاء أو توجيه تنظيمي،
وبدافع من الغضب على ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من جرائم "إسرائيلية"،
وآخرها مجزرة مخيم جنين بالضفة الغربية التي ارتقى خلالها 10 شهداء، جراء نيران
الجيش الصهيوني خلال اقتحامه للمخيم.
هذه الزيادة الواضحة في العمليات الفردية التي تطلق دولة الكيان على منفذيها
"الذئاب المنفردة"، ويصفهم الفلسطينيون بـ "الأسود المنفردة"، تبدو أنها مرشحة
للزيادة والتصاعد أكثر وأكثر في قادم الأيام، إذا ما واصلت الحكومة المتطرفة في
دولة الكيان تنفيذ مخططاتها التي تستهدف كل ما هو فلسطيني، من قتل وهدم وترحيل،
وحتى الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال لم يسلموا من إجراءاتها القمعية والعدائية.
|
كان لعمليات استهداف المسجد الأقصى المبارك، واقتحامه المتكرر من جانب
مسؤولين ومستوطنين صهاينة، دورها في زيادة دوافع الشباب الفلسطيني، لتوظيف
أبسط ما يمتلكون للدفاع عن مقدساتهم |
ولعل عملية إطلاق النار التي نفذها الشاب الفلسطيني المقدسي خيري علقم في القدس
المحتلة في 27 يناير الماضي، وقتل فيها 7 مستوطنين وجرح آخرون، هي واحدة من أكثر
العمليات الفردية وقعاً على دولة الكيان، من حيث عدد القتلى وتوقيت ومكان وقوعها،
وهي تعطي مؤشراً على مقدار الغضب المتنامي في نفوس الشباب الفلسطيني من غير
المنتمين للفصائل الفلسطينية التقليدية، وهذا النوع من الشباب الذي يأخذ المبادرة
بتنفيذ عمليات فدائية يصعب على أجهزة استخبارات الكيان توقعه ومجابهته، وهي عمليات
أشدة خطورة وأثراً.
لقد كان العام 2014 نقطة بالنسبة للجوء الشباب الفلسطيني لتنفيذ عمليات فردية ضد
قوات الاحتلال الصهيوني، وتتلخص في عمليات طعن ودعس بالسيارات وإطلاق نار، ولهذه
الظاهرة المتصاعدة أسباباً عدة كانت دافعاً وراء مثل هذه النوعية من العمليات
الفدائية، وكل هذه الأسباب مرتبطة بجرائم مروعة ارتكبتها قوات الاحتلال وأشعلت
نيران الغضب في نفوس الفلسطينيين، خاصة الشباب منهم، ولعل جريمة حرق الطفل المقدسي
محمد أبو خضير كانت الحدث المفصلي لتبني الشباب الفلسطيني هذا النمط من العمليات،
لأثره الشديد على دولة الكيان، حيث تأتيها الضربة من حيث لا تحتسب.
ومن بعد جريمة حرق وقتل الطفل أبو خضير، كانت الحرب الدموية المدمرة على غزة في
يوليو من العام 2014، وما أظهرته عدسات الكاميرات من مشاهد صادمة خلفتها آلة القتل
والدمار الصهيونية، لتشكل حدثاً مفصلياً آخر دفع للمزيد من العمليات الفردية
الانتقامية.
كما
كان لعمليات استهداف المسجد الأقصى المبارك، واقتحامه المتكرر من جانب مسؤولين
ومستوطنين صهاينة، دورها في زيادة دوافع الشباب الفلسطيني، لتوظيف أبسط ما يمتلكون
للدفاع عن مقدساتهم،
ولم يكن أمامهم سوى المبادرة الذاتية لتنفيذ عمليات فردية، تستهدف غالباً، جنود
الاحتلال وقطعان المستوطنين بالقدس والضفة الغربية.
وبرصد الأرقام منذ العام 2014 يلحظ المتابع تصاعداً متنامياً في هذا النمط من
العمليات، وشهد العام 2021 أكثر العمليات الفردية تأثيراً على دولة الكيان، خاصة
العمليات التي استخدم فيها السلاح، فيما كان العام الذي تلاه 2022 عاماً لعمليات
الدعس بالسيارات، إضافة إلى عمليات إطلاق النار.
|
إن هذا النمط من العمليات الفردية الفدائية يؤكد فشل مخططات دولة الكيان في
تحييد الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية، والداخل المحتل، عن ثقافة
المقاومة التي ارتبطت بقطاع غزة خلال السنوات الماضية |
وأخذت هذه الظاهرة بالتطور حتى أخذت طابعاً من التنظيم غير المركزي، بظهور تشكيلات
مسلحة تضم أفراداً غير مرتبطين بتنظيمات تقليدية، مثل "عرين الأسود" و"كتيبة نابلس"
و"كتيبة جنين"، وغيرها من الكتائب في مخيمات الضفة الغربية، التي شكلت تحدياً
كبيراً بالنسبة لدولة الكيان، لعدم اعتمادها البنية التنظيمية التقليدية من حيث
التسلسل القيادي، ولتحرك أفرادها بحرية ومن دون قيود الأوامر التنظيمية وقراءة
المصالح الحزبية.
وكان لهذه الظاهرة الفردية الدور الأبرز خلال الشهور الماضية، وآخرها الشهر الماضي
الذي شهد تنفيذ 530 عملية فردية أسفرت عن مقتل 7 صهاينة وجرح 38 آخرين، وجاءت في
أغلبها رداً على جرائم ارتكبتها دولة الكيان في القدس ومخيمات الضفة، وحتى ضد
الأسرى داخل السجون.
وكعادتها، حاولت ماكينات الدعاية الصهيونية عزو هذه الظاهرة إلى عدة عوامل ليس
بينها العامل المفجر الرئيسي وهي الجرائم والانتهاكات المتعددة التي ترتكبها بشكل
يومي ومستمر ضد كل ما هو فلسطيني، ليس فقط على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967،
وكذلك في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وهو ما يفسر انخراط شبان من مدن الداخل
في أعمال المقاومة ضد الاحتلال بشكل ملحوظ ومتنام عن سنوات مضت.
إن هذا النمط من العمليات الفردية الفدائية يؤكد فشل مخططات دولة الكيان في تحييد
الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية، والداخل المحتل، عن ثقافة المقاومة التي ارتبطت
بقطاع غزة خلال السنوات الماضية،
حيث تدرك دولة الكيان أن اشتعال المقاومة وتمددها في الضفة يشكل خطراً استراتيجياً
عليها أضعاف تأثير المخاطر الصادرة عن غزة الصغيرة والمحاصرة منذ 16 عاماً، نظراً
للمساحة الكبيرة للضفة وموقعها الجغرافي الملاصق لمدن فلسطين التاريخية، وسهولة
الاختراق والوصول إلى أهداف تؤلم الاحتلال.
وإضافة إلى الدوافع الوطنية، يجب عدم تجاهل العامل الديني لهذا النوع من العمليات،
وبحسب دراسات رصدت نتائج تحقيقات أمنية صهيونية مع عدد من منفذي عمليات فردية جرى
اعتقالهم، فإن الاعتداء على المقدسات الإسلامية، والرغبة في دخول الجنة، كانا بين
الأسباب التي دفعتهم إلى تنفيذ العمليات، إضافة إلى رغبة البعض منهم في الانتقام
لقتل الجيش الصهيوني بعض أصدقائهم وأقربائهم.
وأهم ما يميز منفذي هذه العمليات، هو التضحية بالذات، فكونهم يدركون أنهم لن يعودوا
أحياء، يجعلهم يتطلعون إلى إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف الصهاينة، وزرع الخوف
في أوساطهم، في محاولة منهم لدفع الكيان الصهيوني إلى التفكير ملياً قبل تنفيذ أي
عملية عسكرية تؤدي إلى قتل فلسطينيين.
وفي سبيل مجابهة هذه العمليات، اتخذت دولة الكيان سلسلة من الإجراءات السياسية
والعسكرية والأمنية والاقتصادية، والتي لم تخل من ارتكاب جرائم قتل واعتقالات،
وأبرز هذه الإجراءات:
- تأسيس كتيبة خاصة لمراقبة نشاط الفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي،
وتكثيف النشاط الاستخباراتي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- تفعيل قانون التسلل الذي أقرته دولة الكيان عام 1954، ويتيح القتل أو السجن
والغرامة لكل من يقترب من الحدود الصهيونية ضمن مسافات قصيرة جداً.
- تأمين جدار الفصل العنصري وإغلاق الفتحات التي يستخدمها فلسطينيون للتسلل إلى
العمق الصهيوني، ونشر كتائب عسكرية على طول الجدار في الضفة، وكذلك الجدار المحيط
بقطاع غزة.
- تنفيذ عمليات اقتحام وقتل استباقية على غرار ما جرى الشهر الماضي في مخيم
جنين شمال الضفة الغربية، وقتل 10 فلسطينيين، ادعت قوات الاحتلال أن الهدف من
العملية احباط مخططات لعمليات ضدها.
- تنفيذ عمليات اعتقال واسعة في أوساط الشباب الفلسطيني، على غرار العملية
الأخيرة قبل بضعة أيام واستهدفت مخيم عقبة جبر في مدينة أريحا بالضفة الغربية،
وأسفرت عن اعتقال عدد من الشباب الذين تستبه دولة الاحتلال في انخراطهم بأنشطة
مقاومة.
إن دولة الكيان لا تستوعب الدروس ولا تستخلص العبر، فمثل هذه الإجراءات والكثير من
الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة عام 1948، لم تفلح في ثني
الفلسطينيين عن مقاومتها وابتكار أساليب مقاومة جديدة ومتجددة وتتلاءم مع ظروفهم
وامكانياتهم، وتتغلب على ما تضعه دولة الكيان أمامهم من عقبات وعراقيل، وفي ظل
انسداد الأفق السياسي، وتنامي الجرائم الصهيونية، لم تجعل دولة الكيان أمام الشباب
الفلسطيني من سبيل سوا مقاومتها، وليس مستبعداً أن تتحول هذه الظاهرة الفردية إلى
انتفاضة فلسطينية ثالثة.