• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
(الأوبئة) التنجيم والعرافة والكهانة في الأوبئة

في النوازل والأزمات يكثر القيل والقال، وتنتشر التخرصات والأوهام، وتتفشى الخرافات والإشاعات، وتغيب في خضمها الحقائق والمعلومات.


الحمد لله العليم الحكيم؛ ذي البطش الشديد ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 13 - 16] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 1- 2]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بشر وأنذر، ورغب ورهب، ووعد وأوعد، وبلغ البلاغ المبين، وهدى إلى صراط مستقيم؛ فمن أطاعه فاز بدار النعيم، ومن عصاه كان من أهل السعير ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 69-70].

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعلقوا به قلوبكم، وتوكلوا عليه في كل شئونكم؛ فإنه سبحانه خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، وباعثكم ومحاسبكم، ولا يملك أحد من الخلق نفعا ولا ضرا من دونه سبحانه ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الفتح: 11].

أيها الناس: في النوازل والأزمات يكثر القيل والقال، وتنتشر التخرصات والأوهام، وتتفشى الخرافات والإشاعات، وتغيب في خضمها الحقائق والمعلومات. والوباء أزمة نزلت بالناس منذ عام وزيادة، فشرق فيه الأفاكون وغربوا، وخاض فيه الكهان والمنجمون والعرافون ببدع من الأقوال، وغرائب من الأوهام، حتى زعم الزاعمون منهم أن هذه الفيروسات غزو فضائي، وألفوا في ذلك كتبا ومقالات. ومنهم من أدخل الرؤى والمنامات في نازلة الوباء فزعموا أنه ينتهي في شهر كذا أو يمكث من المدة كذا، وبشروا الناس بقرب انجلائه، فذهبت أوهامهم أدراج الرياح، وتجدد الوباء، واشتد أواره على الناس.

وكذلك الكهان والمنجمون والعرافون خرجوا على الناس في الفضائيات والمواقع الألكترنية يقذفون بالغيب في وقت الوباء ومدته وآثاره ومستقبل الناس معه، وهو وحي أخذوه عن شياطينهم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]، وفي آية أخرى ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].  وهذا الوحي الشيطاني الذي يلقيه على الناس الكهنة أو المنجمون أو العرافون قد تلقوه من شياطين الجن، الذين يسترقون السمع، وأضافوا إليه كذبا كثيرا؛ كما في حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ» رواه البخاري.

والأمور الغيبية يجب أن لا يخوض الناس فيها، ولا يصدقون من يخوض فيها من الكهان والمنجمين والعرافين؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ومن ذلك مستقبل الوباء أو نهايته أو آثاره مما هو من علم المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [آل عمران: 179] ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 26]. وقد خاض الكهان والمنجمون والعرافون في شأن هذا الوباء، وزعموا أنه من الكواكب والنجوم واقترانها أو افتراقها، ونشروا تنبؤاتهم حول بدايته ونهايته في الصحف والفضائيات والشبكات العالمية، وفتنوا بعض متابعيهم في ذلك، مع أنهم كذبوا في ما زعموا، ولم يصدقوا في تنبؤاتهم، فقد زعموا أن هذا الوباء ينتهي بعد أشهر من تفشيه، ولم ينته كما قالوا.

ولما وقع ما يسمى بالطاعون الأسود، أو الفناء الكبير في القرن الثامن الهجري فعل المنجمون والكهان والعرافون آنذاك ما يفعل خلفهم الآن، قال العلامة ابن المنبجي الحنبلي في ذكر زعمهم: «وأجهل من أولئك من أحال ذلك على القِرَانات النجومية، والاتصالات الكوكبية، وتشكل الأفلاك بالشكل الغريب، بحيث يصدر منه هذا الأمر العجيب، وجعلوا الكواكب سعودا ونحوسا، ونعيما وبؤسا، وزعموا أنها المدبرات أمر ما تحتها من الكائنات، وأحالوا التدبير عليها دون رب الأرض والسموات، وذلك كفر برب العالمين، ومفارقة لأديان جميع المسلمين. وقد لهجت هذه الطائفة في هذه الحادثة فقالت بأباطيل من الأقوال، وقضوا على قرانات في هذا الوقت بانقضاء آجال، وانتقاض درك، وتغير أحوال، وأنه يكون في هذا العالم قران يوجب الموت العام، فدخلوا على بيوت النفوس من أبواب شغلها بالهواجس والحدس، ولفقوا للحوادث الماضية قرانات أسندوها إليها، وأحالوا بتلك الحوادث عليها... فهذه نبذة يسيرة من كذبهم وافترائهم».

وأفاض ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان كذب المنجمين والعرافين، ومما قاله: «وأمَّا قولهم: إنَّ في اتصالات الكواكب نَظَرَ سُعودٍ ونُحوس، فممَّا أضحكوا به العقلاء عليهم من جميع الأمم، ونادَوا به على جهلهم وضلالهم، وصاروا به مركزًا لكلِّ كذاب، وكل أفَّاك، وكلِّ زنديق، وكلِّ مُفْرِطٍ في الجهل بالنبوَّات، وما جاءت به الرُّسل، بل بالحقائق العقليَّة، والبراهين اليقينيَّة». ورد زعمهم وافتراءاتهم، وبين خطأهم من عشرين وجها.

وواجب على كل مسلم أن يحذر من إسلام عقله في أخبار الوباء وغيره للكذبة والأفاكين، من الكهان والمنجمين والعرافين؛ فإن غاية ما يخبرون الناس به إما كذب محض لا يقع منه شيء ألبتة، وإما خبر أخذوه عن شياطينهم من مسترقي السمع، فأضافوا عليه كذبا كثيرا، وزخرفوه بزور القول؛ ليضحكوا به على السذج من الناس، وينقلوهم به من التوحيد إلى الشرك، ومن الإيمان إلى الشك، وماذا يبقى للعبد إذا فقد إيمانه وتوحيده؟! نسأل الله تعالى العافية والسلامة.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: على المؤمن أن يتسلح في الأزمات والمصائب العامة والخاصة بالإيمان واليقين، ولا يرخي سمعه للكذبة الخراصين الأفاكين؛ لئلا يقع في الكفر وهو لا يشعر؛ فقد روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» رواه أحمد والحاكم وصححه. وفي حديث آخر قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» رواه مسلم.

قال التابعي الجليل قَتَادَةُ السدوسي رحمه الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِّهِ، وَأَخْطَأَ حَظَّهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي هَذِهِ النُّجُومِ كَهَانَةً، مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ، وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَالْحَسَنُ وَالذَّمِيمُ. وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّائِرِ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ، وَقُضَى اللَّهُ أَنَّهُ ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾، وَلَعَمْرِي لَوْ أَنَّ أحَدًا عَلِمَ الْغَيْبَ لَعَلِمَهُ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شِيءٍ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ يَأْكُلُ فِيهَا رَغَدًا حَيْثُ شَاءَ، وَنُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْبَلَاءُ حَتَّى وَقَعَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ يُعْلَمُ الْغَيْبُ لَعَلِمَتْهُ الْجِنُّ حِينَ مَاتَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِثَتْ تَعْمَلُ لَهُ حَوْلًا فِي أَشَدِّ الْهَوَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِمَوْتِهِ ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ أَيْ: تَأْكُلُ عَصَاهُ ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾ [سبأ: 14] وَكَانَتِ الْجِنُّ تَقُولُ قَبْلَ ذَلِكَ إِنَّهَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَتَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَجَعَلَ مَوْتَ سُلَيْمَانَ لِلْجِنِّ عِظَةً» رواه ابن أبي حاتم.

فالحذر الحذر -عباد الله- من إسلام العقول والأهل والولد للكهان والعرافين والمنجمين؛ فلا خير في الاستماع إلى إفكهم، أو مشاهدة برامجهم، فضلا عن التصديق بهم؛ فإن ذلك يورد دار السعير.

وصلوا وسلموا على نبيكم....

 

أعلى