انحرافات القبوريين الداء والدواء (2/2)
في
عرضه لسبل معالجة انحرافات القبوريين تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى المسلك
الدعوي، وأوضح فيه ضرورة أن يُعنى العلماء بتقرير التوحيد وتربية الأمة على
الانقياد للشرع انقياداً والتزاماً، ومخاطبة عقول الناس لبيان تهافت اعتقادات
القبورية، ثم شرع في إيضاح المسلك الثاني، وهو : المسلك العلمي الذي بين فيه ضرورة
إيضاح قواعد الاستدالال عند أهل السنة وأهل البدع، والتنبيه على أن أدلة اعتقاد
أهل السنة هي غالباً من المحكمات بخلاف أهل البدع، ثم بين تهافت استدلالات
القبوريين على انحرافاتهم، ويواصل في هذه الحلقة مقارعة ما تبقى من دعاويهم، وبيان
جوانب أخرى في الموضوع .
- البيان -
4-
ومن دعاويهم العريضة : احتجاجهم بأن الكثير من المسلمين في القديم والحديث يبنون
على القبور، ويتخذون المشاهد والقباب، ويتحرون الدعاء عندها .
والجواب
عن هذه الدعوى من وجوه :
أحدها : أن أكثر هذه المشاهد مكذوبة
لا تصح نسبتها إلى أصحابها، وكما يقول شيخ الإسلام : (وكم من مشهد يعظمه الناس وهو
كذب، بل يقال إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح؛
فإن أهل المعرفة يقولون إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة،
وقبر أبيّ بن كعب الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب)[1] .
ويقول
في موضع آخر : (عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق، لا يكاد يوقف منه على
العلم إلا في القليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس
من شريعة الإسلام .. بل قد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يفعله المبتدعون
عندها .. )[2]
.
ثانياً : إن البناء على القبور وتحري
الدعاء عندها ونحو ذلك من البدع المنكرة التي حذّر منها الشارع أيما تحذير، كما في
قوله -صلى الله عليه وسلم- : (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد يحذّر ما صنعوا) متفق عليه .
يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية : (قد كان من قبور أصحاب رسول بالأمصار عدد كثير، وعندهم
التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا استسقوا عند
قبره ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به . ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم
والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف،
تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً،
بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جُهّالهم)[3] .
ويقول
ابن القيم مبيّناً أن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة :
(هل
يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم [ أي : السلف الصالح ] بنقل صحيح أو
حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها،
وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم،
فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك...)[4] .
يقول
العلامة الصنعاني جواباً عن هذه الشبهة : (إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف
وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل وقبيلاً
بعد قبيل؛ فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة
عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل بلدته
يلقنونه : أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له، ويرحلون إلى محل قبره
... فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير ...
ولا يخفى على أحد يعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع
المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر)[5] .
ويقول
العلامة الشوكاني : (اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن
الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها من البدع التي
ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول -صلى الله عليه وسلم- لفاعلها، ولم يخالف في ذلك
أحد من المسلمين)[6]
.
ثالثاً : أن سكوت العلماء عن هذه
المظاهر الشركية والبدعية عند المشاهد والقبور لا يعني الرضا والإقرار، فقد يتعذر
عليهم الإنكار باليد وباللسان، ولم يبق لهم إلا الإنكار بالقلب، لا سيما وهذه
المشاهد والقباب قد بناها حكام وسلاطين؛ كما يقول الصنعاني : (فما كل سكوت رضى؛
فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه
وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلامه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد .
فإن هذه القباب والمشاهد أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم
الإسلام وخراب بنيانه، وغالب بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء
والولاة إما على قريب لهم، أو على من يحسنون الظن فيه ... )[7] .
ومن
هذا القبيل ما يحتج به القبوريون بأن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ضُمّن
المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه، كما يحتجون بوجود القبة
على قبره صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب
: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي المسجد،
فلم يدفن في المسجد، والأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاءت بذلك الأحاديث .
كما
أن الصحابة رضي الله عنهم دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ
قبره مسجداً؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول -صلى الله عليه
وسلم- في مرضه الذي مات فيه : (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد، قالت : فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجه البخاري
ومسلم .
وأمر
آخر وهو أن الحجرة النبوية إنما أُدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك
بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة[8] ؛
حيث أمر الوليد بن عبد الملك سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر
أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- إليه على سبيل التوسعة، فأدخل فيه الحجرةَ
النبويةَ حجرةَ عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد[9] .
فلا
يصح الاحتجاج بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الثابتة وما فهمه سلف
الأمة، وقد أخطأ الوليد في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد، وكان باستطاعته أن
يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية[10] .
وأما
دعوى عدم الإنكار فهذه دعوى بلا دليل، وعدم العلم ليس علماً بالعدم، وسكوت العلماء
لا يعني الرضا والإقرار؛ كما سبق الإشارة إليه آنفاً؛ لا سيما وأن الذي أدخل القبر
النبوي ضمن المسجد خليفة ذو شوكة وسلطان وهو الوليد بن عبد الملك وكذا الذي اتخذ
القبة هو السلطان قلاوون .
ومع
ذلك فإن المعوّل عليه هو الدليل والبرهان وليس واقع الناس وحالهم . والله المستعان
.
ومما
يبين تهافت هذه الدعوى : ما نقل عن علماء أنكروا هذا الصنيع وحذّروا منه .
فيحكى
عن سعيد بن المسيب رحمه الله : أنه أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد، كأنه خشي أن
يتخذ مسجداً[11]
.
وأشار
شيخ الإسلام ابن تيمية إلى إنكار هذه القبة؛ حيث قال : (ثم بعد ذلك بسنين متعددة
بنيت القبة على السقف، وأنكره من كرهه)[12] .
يقول
العلاّمة حسين بن مهدي النعمي في الرد على هذه الدعوى : (قوله [أي المخالف] : ومن
المعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- له قبة، وأولياء المدينة وأولياء سائر البلدان .
أقول
: الأمر كذلك؛ فكان ماذا ؟ بعد أن حذر -صلى الله عليه وسلم- وأنذر وبرأ جانبه
المقدس الأطهر -صلى الله عليه وسلم-، فصنعتم له ما نهى عنه، أفلا كان هذا كافياً
لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمره حجة عليه وتقدماً بين يديه ! فهل أشار
بشيء من هذا أو رضيه أو لم ينه عنه ؟ )[13] .
وقال
العلاّمة الصنعاني في الجواب عن هذه الشبهة : (فإن قلت : هذا قبر رسول الله قد
عمرت عليه قبة عظيمة، أنفقت فيها الأموال . قلت : هذا جهل عظيم بحقيقة الحال : فإن
هذه القبة ليس بناؤها منه، ولا من الصحابة، ولا من تابعيهم، ولا تابعي التابعين،
ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره -صلى الله عليه
وسلم-، من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك
المنصور في سنة 678هـ، ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، فهذه أمور
دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول)[14] .
ويُذكر
أن الإخوان رحمهم الله قد هموا في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود
رحمه الله عند دخولهم المدينة المنورة أن يزيلوا هذه القبة، ولكنهم خشوا من قيام
فتنة أعظم من إزالة القبة[15]
.
ج -
المسلك الاحتسابي : وهذا مسلك يقوم به أصحاب الحسبة، الآمرون بالمعروف والناهون عن
المنكر، لاسيما أصحاب النفوذ والسلطة والشوكة .
ويتمثل هذا المسلك في أمرين :
أحدهما : أن يسعى إلى هدم هذه القباب
ونقضها وإزالتها، امتثالاً للوصية النبوية واتباعاً لسلف الأمة .
فعن
أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : (ألا أبعثك على ما بعثني عليه
رسول ؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) . أخرجه مسلم .
ولما
ذكر ابن القيم هدم مسجد الضرار وتحريقه، قال : ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم
فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدّم كلها حتى
تسوّى بالأرض، وهي أوْلى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور،
يجب أن تهدم كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور
.. فبناءٌ أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم)[16] .
ومن
الأمثلة على هذا المسلك الاحتسابي ما فعله الحارث بن مسكين رحمه الله (ت 250هـ)
عندما هدم مسجداً كان قد بني بين القبور[17] .
قال
ابن كثير في حوادث سنة 236ه : (فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي
طالب، وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس : من وجد هنا بعد ثلاثة أيام
ذهبنا به إلى المطبق (السجن [18] .
وقال
أبو شامة (ت 665هـ) : (ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبينأني أحد
الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله
محمد بن أبي العباس المؤدّب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كانت العامة
قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذّر عليها نكاح أو ولد قالت : امضوا بي
إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله : فإنا في السحر ذات ليلة إذ
سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذّن الصبح عليها، ثم قال :
اللهم إني هدمتُها لك فلا ترفع لها رأساً، قال : (فما رُفِعَ لها رأس إلى الآن)[19] .
وذكر
ابن غنام في تاريخه ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع عثمان بن معمر
من هدم القباب وأبنية القبور فقال : (فخرج الشيخ محمد بن الوهاب ومعه عثمان بن
معمر وكثير من جماعتهم إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس
والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة،
وكان الشيخ هو الذي هدم قبة زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض
أصحابه)[20]
.
ومما
يجدر التنبيه عليه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد سلك هذا المسلك الاحتسابي
العملي لما كان عنده من شوكة وقوة، ولكنه كان في أول أمره قد سلك مسلك الدعوة برفق
ولين كما قال تلميذه وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم
الله : (كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في ابتداء دعوته، فإذا سمعهم
يدعون زيد ابن الخطاب -رضي الله عنه- قال : (الله خير من زيد) تمريناً لهم على نفي
الشرك بلين الكلام، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة)[21] .
ويذكر
الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناء دخولهم مكة شرّفها الله سنة
1218هـ فكان مما قاله : (فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يُعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه،
ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه مع جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في
البقعة المطهرة طاغوت يُعبد؛ فالحمد لله على ذلك)[22] .
ومما
سطره المؤرخ ابن بشر عن بعض الأعمال التي قام بها الأمير سعود بن عبد العزيز رحمه
الله ما يلي :
ففي
حوادث سنة 1216هـ حين توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدم القبة الموضوعة على قبر
الحسين)[23]
.
ويقول
أيضاً : (وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخل سعود مكة وطاف وسعى، فرّق جيوشه يهدمون
القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير
في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها) .
فأقام
فيها أكثر من عشرين يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون،
يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق في مكة شيء من تلك
المشاهد والقباب إلا أعدموها، وجعلوها تراباً)[24] .
وفي
سنة 1343هـ قام أتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والأبنية على القبور بمكة، مثل
القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها .
وقام
الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في جنوب الجزيرة العربية بهدم قبة في الساحل بمشاركة
بعض زملائه، وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي في سامطة[25] .
ويقول
الشيخ الألباني : (ومن تلك الأشجار شجرة كنت رأيتها من عشر سنين شرقي مقبرة شهداء
أحد، خارج سورها، وعليها خرق كثيرة، ثم رأيتها سنة 1371هـ قد استأصلت من أصلها،
والحمد لله، وحمى المسلمين من شر غيرها من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من
دون الله تعالى )[26]
.
الأمر الثاني : أن يسعى إلى فضح وكشف مكائد
أرباب القبور وسدنتها، وبيان حقيقة هؤلاء الدجالين الملبسين، وما هم عليه من
الفجور والولوغ في الفواحش، وأكل أموال الناس بالباطل، وأنهم خونة وعملاء
للاستعمار وأذنابه .
وقد
كشف أهل العلم حقائق مخزية وأحوالاً فاضحة لأولئك السدنة المضلين وأتباعهم، وما
يرتكبونه من انخلاع عن شرائع الله تعالى، وولع بالفجور والقاذورات .
يقول
العلاّمة النعمي حاكياً بعض أوضاعهم : (ومن ذلك أن رجلاً سأل من فيه مسكة عقل،
فقال : كيف رأيتَ الجمع لزيارة الشيخ ؟ فأجابه : لم أرَ أكثر منه إلا في جبال
عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الأيام فريضة .
فقال
السائل : قد تحمّلها عنهم الشيخ .
قلت
[النعمي] : وباب (قد تحمّل عنهم الشيخ) مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه،
وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد)[27] .
ومما
سوّده المؤرخ الجبرتي في شأن مشهد عبد الوهاب العفيفي (ت 1172هـ) وما يحصل عنده من
أنواع الفسوق والفجور ما يلي : (ثم إنهم ابتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة يدعون
إليه الناس من البلاد، فينصبون خياماً كثيرة ومطابخ وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر
من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والبغايا، فيملؤون
الصحراء، فيطؤون القبور ويوقدون عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات ويبولون
ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً،
ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر)[28]
.
وتحدث
الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن مفاسد عُبّاد القبور، فكان مما
قاله : (ومنها : ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات
وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين والتكليف، ومشابهة لما يقع في
أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور
والخمور)[29]
.
ويصف
الشيخ عبد الرحمن الوكيل أحوال عبّاد القبور من الصوفية وغيرهم ويشير إلى جملة من
صور الكفر والفجور في تلك المشاهد والموالد، فيقول : (وسلِ الآمّين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم
المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها .. فما ينقضي في
مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبّحون بحمد
جيفتها، ويسجدون أذلاء لرمتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر
و (الحشيش)، والأجساد التي طرحها الإثم على الإثم فجوراً ومعصية، ويسمونها موالد،
أو مواسم عبر وذكريات خوالد ... )[30]
.
وسرد
الكاتب أحمد منصور أقوال المؤرخين في الانحلال الخلقي عند مشهد الإنبابي .. وأن
فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر
فارغة، وأما ما حكي من الزنا واللواط فكثير لا يحصى .. حتى أرسل الله تعالى عليهم
ريحاً في تلك الليلة كادت تقتلع الأرض بمن عليها ...[31] .
وأمعن
عبّاد القبور في أكل أموال الناس بالباطل، وارتكبوا أنواع الأكاذيب والدجل في سبيل
نهب أموال العامة وممتلكاتهم .
وقد
حكى العلامة الشوكاني هذه الحالة فقال : ( وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر
ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم
الأرزاق ويقنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولون
ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً ... )[32]
.
وصندوق
النذور عند ضريح البدوي في مصر يستقطع من الدهماء ملايين الجنيهات، وللحكومة 39%
من هذه الأموال ! ! وسائر الأموال لسدنة الضريح والعاملين عليه ! ! وحسبك أن تعلم
أن ما يناله خادم الضريح من هذه الأموال أكثر مما يناله كبار الأطباء والمهندسين
وأساتذة الجامعات ... ومع ذلك لم يقف طمع أولئك السدنة وشرههم عند هذا الحد، بل
ويعمدون إلى التلاعب والتزوير في هذا الصندوق من أجل مزيد من الأموال[33].
وأما
الحديث عن خيانتهم وعمالتهم للاستعمار، فنكتفي بهذا المثال وهو أن فرنسياً أسلم
وتنسّك وصار إماماً لمسجد كبير في القيروان بتونس، فلما اقترب الجنود الفرنسيون من
المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في
المسجد يعتقدون فيه، فدخل الضريح ثم خرج مهولاً لهم بما سينالهم من المصائب، وقال
لهم بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم، فاتبع أولئك البسطاء قوله واستسلموا لعدوهم[34].
(1) الرد على البكري، ص 310، وانظر : اقتضاء الصراط المستقيم، 2
/646 649، ومجموع الفتاوى، 27/459 .
(2) مجموع الفتاوى، 27/449، 450، باختصار .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/681 .
(4) إغاثة اللهفان، 1/318 .
(5) تطهير الاعتقاد، ص 36، باختصار .
(6) شرح الصدور، ص 8 .
(7) تطهير الاعتقاد، ص 41 .
(8) انظر : الرد على الأخنائي، ص 184، ومجموع الفتاوى، 27 323 .
(9) انظر : تاريخ ابن كثير، 9/74 .
(10) انظر : تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، للألباني، ص 93،
وصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق محمد، ص 106 .
(11) انظر بحثاً : حول القبة المبنية على قبر الرسول، لمقبل
الوادعي، ص 357 .
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/279 .
(13) معارج الألباب، ص 147، بتصرف يسير .
(14) تطهير الاعتقاد، ص 43 .
(15) انظر بحثاً حول القبة المبنية على قبر الرسول، لمقبل الوادعي
ص 275 .
(16) إغاثة اللهفان، 1/327 .
(17) انظر : ترتيب المدارك للقاضي عياض، 1/332، والديباج المذهب،
لابن فرحون، 1/339 .
(18) تاريخ ابن كثير، 1/315 .
(19) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 103، 104 .
(20) تاريخ ابن غنام، 1/78، بتصرف يسير .
(21) مجموع التوحيد، ص 339 .
(22) الهدية السنية، ص 37 .
(23) عنوان المجد، 1/257 .
(24) المرجع السابق، 1/263 .
(25) انظر : الشيخ حافظ الحكمي، حياته ومنهجه في العقيدة، لأحمد
علوش، ص 357 .
(26) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص 139 .
(27) معارج الألباب، ص 177 .
(28) تاريخ الجبرتي، 1/304، باختصار .
(29) منهاج التأسيس، ص 55 .
(30) هذه هي الصوفية، ص160، 161، باختصار .
(31) انظر : السيد البدوي، ص 323 236، وانظر : الصراع بين الحق
والباطل، لسعد صادق، ص 49، 50، والألوهية في العقائد الشعبية، لعبد السلام
البسيوني، ص 9698 .
(32) الدر النضيد، ص 27 .
(33) انظر تفصيل ذلك في كتاب : (الله توحيد وليس وحدة) لمحمد
البلتاجي، ص 302، 308، وكتاب : البدوي، لأحمد منصور، ص 298، 299 .
(34) انظر : التصوف بين الحق والخلق، لمحمد الشقفة، ص 211، 212 .
(( مجلة البيان ـ العدد [132] صــ 50 شعبان 1419 - ديسمبر 1998 ))