ما الذي يخيف المدافعون عن الهوية في السودان؟ ما الدوافع الأمريكية والتي تجعلها تتعجل في إبرام اتفاق بين الفرقاء في السودان؟
منذ أسبوع خرج الناطق باسم الحكومة السابقة، التي كان يترأسها الدكتور عبد الله
حمدوك، الكاتب الصحافي فايز السليك للصحفيين قائلاً: إن بوادر نشوء تسوية سياسية
بين المكون العسكري بقيادة رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوى
الحرية والتغيير–المجلس المركزي، بدأت منذ مارس الماضي، برعاية الآلية الرباعية،
ولاتزال تطبخ على نار هادئة.
ونوه السليك إلى أنه لاتزال هناك نقاط اختلاف بين المكون العسكري والمكون المدني،
بشأن وضع قيادات الجيش وضمان عدم مساءلتهم عن انتهاكات منسوبة إليهم، بما فيها ما
حدث في فض اعتصام القيادة العامة، وفي التظاهرات المتواصلة منذ 25 أكتوبر، ويطالب
المجلس العسكري بأن يتضمن الاتفاق مجلساً أعلى للقوات المسلحة يترأسه البرهان، يكون
مسؤولاً عن الجيش والأمن، وبنك السودان المركزي، والعلاقات الخارجية، بينما تطالب
(الحرية والتغيير –المجلس المركزي)، بمجلس دفاع وأمن وطني، برئاسة رئيس مجلس
الوزراء.
|
السياسة الأمريكية الاستباقية تحاول كبح جماح التمدد الروسي في السودان
وبعض دول الجوار الأفريقي، ومن مصلحتها رعاية تفاهمات لضمان بقاء السودان
في فلك السياسات الأمريكية بعيدا عن النفوذ الروسي. |
بعدها بعدة أيام تم تأكيد تلك التسوية الوشيكة، وذلك عندما نقلت وكالات الأنباء
تصريحات رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان، والذي ذكر فيها أن
للمجلس تفاهمات مع قوى الحرية والتغيير.
وبذلك تترقب الأوساط السياسية والشعبية في السودان رفع الستار عن اتفاق بين
العسكريين والمدنيين يقود لتشكيل حكومة ذات رأس مدني، عقب كشف الغطاء عن بعض هذه
المعلومات من داخل غرف التفاوض المباشر بين قادة الجيش والدعم السريع من جهة، ومن
جهة أخرى مع تحالف الحرية والتغيير، الذي يعتبر التحالف الرئيسي الذي قاد مع أجسام
أخرى ما أطلق عليه ثورة ديسمبر 2018، مع العلم أن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قد
انقلب على الشراكة معه بعد عامين في 25 أكتوبر 2021.
ويتضح من هذه التصريحات في وسائل الاعلام أن هناك معارضة لهذا الاتفاق تأتي من
طرفين:
الأول: بعض قوى ثورة ديسمبر، مثل لجان المقاومة والحزب الشيوعي، فقد أعلنت هذه
القوى أنها تهدف إلى الإطاحة الكاملة بالوضع الراهن، متبنية ما يطلق عليه التغيير
الجذري، واصفة حلفاءها السابقين من قوى الحرية والتغيير، بقوى الهبوط الناعم
الخائنة لمبادئ ثورة ديسمبر.
أما الطرف الثاني المعارض للاتفاقية فهم المدافعون عن هوية السودان العربية
والاسلامية على اختلاف تياراتهم.
فما الذي يخيف المدافعون عن الهوية في السودان؟
ما يخشاه هؤلاء أن هناك مؤشرات على مشروع دستور ترعاه الولايات المتحدة في السودان.
|
يبدو أن مشروع الدستور هذا قد تم طبخه في مركز بحثي أمريكي متخصص في
القوانين والدساتير، وهي مجموعة القانون والسياسات الدولية العامةPILPG ،
وهي مؤسسة أمريكية معروفة في مجال ما يعرف بصناعة السلام والعدالة
الانتقالية |
الدور الأمريكي والتلاعب بهوية السودان
يبدو أن الاتفاق المطروح والتفاهمات التي على وشك الاعلان عنها تتم برعاية أمريكية.
وبالرغم من أنه لا توجد أدلة مباشرة على ذلك، ولكن على ما يبدو أن هناك دورًا
أمريكيًا من وراء الكواليس، وهناك عدة شواهد على ذلك أبرزها:
أن الاتفاقات المطروحة والتي تم الكشف عن جزء منها يحمل طابع النموذج القديم الذي
يُفضّله الأمريكان وهو الشراكة العسكرية-المدنية، وهذا على الأرجح ما تدفع به بقوة
الادارة الأمريكية.
أما الشاهد الثاني على الدور الأمريكي، فهو النشاط المحموم الذي قام به سفير واشنطن
بالخرطوم جون غودفري، منذ أن جاء إلى الخرطوم في أغسطس الماضي كأول سفير لواشنطن
منذ 25 عاماً، حيث قام بما يسمى النشاط المكوكي بين الفاعلين السودانيين في محاولة
فيما يبدو لإقناع الجميع بضرورة الوصول لأي اتفاق يقود لتشكيل حكومة شراكة بين
المدنيين والعسكريين.
ولكن ما الدوافع الأمريكية والتي تجعلها تتعجل في إبرام اتفاق بين الفرقاء في
السودان؟
أولا/ إن الأولوية للسياسة الخارجية الأمريكية في العالم الآن تتعلق بتحجيم النفوذ
الروسي في المناطق المؤثرة في العالم، وقد برزت هذه الحاجة خاصة بعد التحدي الروسي
وإقدامه على غزو أوكرانيا في أواخر فبراير الماضي أي منذ تسعة أشهر،
فالسياسة الأمريكية الاستباقية تحاول كبح جماح التمدد الروسي في السودان وبعض دول
الجوار الأفريقي، ومن مصلحتها رعاية تفاهمات لضمان بقاء السودان في فلك السياسات
الأمريكية بعيدا عن النفوذ الروسي.
ثانيا/ تحاول أمريكا إبعاد السودان عن ما تطلق عليه التوجهات الاسلامية المتطرفة،
والتي ساهم في بروزها وانعاشها ووصولها إلى السلطة في دول الجوار السوداني ما يعرف
بالربيع العربي، وهذه التوجهات قد أغضبت كثير من القوى الإقليمية والدائرة في الفلك
الغربي، فأرادت الولايات المتحدة استباق التغييرات القادمة في هذا البلد ومحاولة
فرض أجندة ليبرالية بعيدة عن أي توجهات تعبر عن الهوية الحقيقية لهذا البلد العربي
الإسلامي.
ومن أجل تلك الغاية تجتهد الولايات المتحدة بشكل علني لدفع جميع الأطراف للقبول
بمشروع دستور انتقالي طرحه تكتل محامين سودانيين.
ويبدو أن مشروع الدستور هذا قد تم طبخه في مركز بحثي أمريكي متخصص في القوانين
والدساتير، وهي مجموعة القانون والسياسات الدولية العامةPILPG
، وهي مؤسسة أمريكية معروفة
في مجال ما يعرف بصناعة السلام والعدالة الانتقالية
والدعم القانوني للدول الخارجة من نزاعات وصراعات طويلة، ومن المعروف أن هذه
المجموعة قد لعبت دوراً استشارياً في اتفاقية نيفاشا 2005 بين حكومة السودان
والحركة الشعبية والتي انتهت بانفصال جنوب السودان.
كما أدت الدور الاستشاري ذاته في اتفاق سلام جوبا 2020 بين الحكومة الانتقالية
وحركات مسلحة سودانية.
ومما يؤكد على التدخل الأمريكي في هذا الدستور ما جرى منذ عامين، فطبقًا ما أعلنته
الحركة الشعبية السودانية فرع الشمال في ذلك التوقيت أي عام 2020، حيث ذكرت في بيان
لها حينها أن ممثلي حكومة السودان الانتقالية برئاسة الفريق أول شمس الدين كباشي
عضو مجلس السيادة ورئيس الوفد، وممثلي الحركة الشعبية ومساعديهم من الخبراء،
ومجموعة السياسات والقوانين الدولية العامة
PILPG،
والمركز الأفريقي للحلول البنَّاءَة للنزاعات
ACCORD،
واستشاري شركاء التنمية
PDS،
وفريق الوساطة لعملية السلام في السودان قد التقوا بفندق بالم أفريكا بجوبا في جنوب
السُّودان في الفترة ما بين 29 أكتوبر والأول من نوفمبر 2020.
وبحسب بيان الحركة في ذلك الوقت، فانه وبعد حوارات ونقاشات عميقة مصحوبة بتقديم
نماذج من خبراء دوليين ومحليين حول تطبيقات مبدأ فصل الدين عن الدولة في دول ذات
أغلبية مسلمة، وكان واضحا بأن النموذج التركي هو الأقرب لواقع السودان.
واوضح البيان ان الطرفين توصلا إلى صيغة للتقرير الختامي تم اقتراحها بواسطة
الخبراء، وتم تلاوتها على المشاركين في الورشة من الطرفين دون اعتراض أي طرف، حيث
يقضي المشروع بفصل الدين عن الدولة في الدستور، ولكن في اللحظات الأخيرة تراجع
كباشي عن الموافقة.
يعني أنه كان هناك منذ نحو عامين محاولة صياغة مشروع دستور علماني للسودان تتمحور
المناقشات فيه حول فصل الدين عن الدولة، وهذا الدستور جرت صياغته في مراكز أمريكية
ليتم تقديمه ومن ثم جرت مناقشته بين المعارضة العلمانية السودانية وقيادات الجيش
برعاية أمريكية، ولكن بعد أن وافقت عليه القيادات العسكرية في البداية لم يتم
التوقيع عليه في ذلك الوقت.
ويجري الآن احياء ذلك المشروع مرة أخرى.
ويبدو أن القوى والتيارات السودانية والتي تريد الحفاظ على هوية الدولة وتمنع تأطير
العلمانية في دستور، قد تنبهت لتلك الألاعيب فخرجت يوم الثاني عشر من نوفمبر في
مظاهرة احتجاجية رافضة لما أسمته تدخل السفارات الأجنبية في الشأن السوداني تحت
شعار موكب الكرامة الثاني.
وخرج الآلاف أمام مقر البعثة الأممية وهم يحملون الأعلام السودانية؛ رفضا للتسوية
السياسية المرتقبة، واحتجاجا على التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي للبلاد.
وتبقى الكرة الآن في ملعب العسكر السوداني، فهم واقعون بين ضغط جهتين:
الأولى القوى الغربية والتي تهددهم بالمحاكمات الجنائية الدولية على مزاعم مذابح
نفذها جنرالات الجيش، كما تضغط عليهم بأوضاع اقتصادية صعبة يعاني منها السودان مع
تدهور مريع للعملة السودانية.
أما الجهة الثانية الضاغطة فهم الضباط السودانيين داخل الجيش من الرتب المتوسطة
والصغيرة، وهؤلاء يريدون المحافظة على هوية السودان العربية الإسلامية.
سياسة اللعب على جميع الحبال لم تعد تجدي، فالبراجماتية قد تكون مقبولة سياسيًا تحت
مستوى معين وفي ظروف مواتية، ولكن الأمور سرعان ما تبدو مكشوفة وينبغي الحسم في
المسائل الكلية كهوية الدولة والتي لم تعد تقبل تلك البراجماتية.