قامت مئات الدول ثم سقطت في القرون الماضية في الخلافات
الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية، وصعد كذلك آلاف الحكام إلى سدة الحكم ثم
هبطوا، لكنهم كانوا -جميعا- يأخذون شرعيتهم من خلال تواصلهم مع مقومات الأمة،
واحترامهم لمقدساتها وشرائعها ومبادئها، واعتزازهم بقيمها وثقافتها، وتصديهم
لأعدائها.
وهم عندما يعلنون هذا التواصل مع
الأمة يأتي العلماء –وهم القيادة الثقافية للأمة- ويمنحونهم الشرعية، ويطلبون من
الرعية أن تطيعهم، لذلك يحدث التواصل بين القيادة وجماهير الناس، ويستمر البناء
الحضاري في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
"
لم يحدث أن اجترأ أحد من الحكام على مقدسات الأمة وشعائرها ومبادئها بأي لون من
الاستهزاء والاستخفاف، بل كان يبدو دائما منهم التوقير والاحترام والإعلاء
"
|
هذا ما حدث في مئات السنين الماضية،
ولم يحدث أن اجترأ أحد من الحكام على مقدسات الأمة وشعائرها ومبادئها بأي لون من
الاستهزاء والاستخفاف، بل كان يبدو –دائماً- منهم التوقير والاحترام والإعلاء.
ربما حدث استهزاء أو استخفاف ببعض
مقومات الأمة أو شرائعها أو مقدساتها. كما حدث مع الشعوبية عندما ازدرت الجنس
العربي، وكما حدث مع الزنادقة عندما ازدروا القرآن الكريم والنبوة, لكن كل أولئك
المجترئين على القرآن والسنة والمقدسات كانوا أشخاصاً، وأصبحوا –في أحسن الأحوال-
تياراً أو فرقة، لكنهم لم يكونوا حكاماً في أي حكومة إسلامية.
لكن الذي حدث في العصر الحديث ومنذ
سقطت الخلافة العثمانية قامت دول قومية ووطنية قطعت الصلة ببعض مقومات الأمة
كالدين والشرائع، واعتبر الفكر القومي العربي أن هناك أمة عربية في المنطقة
الواقعة بين المحيط والخليج قامت على عنصري اللغة والتاريخ، واستبعد الدين من
مقوماتها، كما قام فكر قومي آخر من لون آخر وهو الفكر القومي المصري في مصر،
والفكر القومي السوري في بلاد الشام، واعتبر الأول أن هناك أمة مصرية في مصر قامت
على العامل الجغرافي، ولا دخل للدين في إقامة هذه الأمة، وكذلك اعتبر الفكر القومي
السوري أن هناك أمة سورية قامت في بلاد الشام على العامل الجغرافي ولا دخل للدين
في إقامتها، واعتبرت كل تلك الأفكار القومية الحضارة الغربية نموذجها الذي تتطلع
إليه، وحاولت استنساخه في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
والثقافية والفنية.
وتطلعت القيادات -في هذه المرحلة- إلى
إقامة نهضة للأمة، لكنها فشلت، والسبب في فشلها يعود إلى أنها قطعت مع الماضي
نتيجة نظر خاطئ إلى واقع الأمة وعدم تشخيصه التشخيص الدقيق، وعدم معرفة العناصر
التي تقوم عليها الأمة بشكل صحيح، وبسبب استبعاد الدين من العناصر المكونة لهذه
الأمة، والنظر إليه مثل نظر الغرب على أنه عامل معطل للحياة العلمية والعقلية
والاجتماعية.
وقد اكتفى حكام النهضة في بلاد الشام
ومصر والمغرب العربي بأن قطعوا الصلة ببعض مقومات الأمة، لكنهم لم يجترئوا على
مقدسات الأمة، ولم يستخفوا بشعائرها، ولم يستهزئوا بأي حكم من أحكامها. وربما كان "معمر
القذافي" هو أول حاكم اجترأ على معظم مقدسات الأمة ورجالاتها وشعائرها
وأحكامها، واستخف بها دون علم ودون دراية، ونحن سنحاول أن نستعرض بعض أقواله التي
اجترأ فيها على مقدسات الأمة وثوابتها.
قال "القذافي" عن الله:
"إن الثورة ليست بالضرورة أن تكون بيضاء دائماً، ممكن تكون حمراء ضد أعدائها،
والمعارضة لا بد أن تسحق، قلت لكم إن الأديان سحقت معارضيها، والله يسحق معارضيه،
الذين خلقهم، وكل واحد يسحق معارضيه". وقارن "القذافي" بين البشر
وبين الله الذي هو في السماء، وقرر أن الشعب مثل الله، وأنه لا بد للشعب أن يكون
إلهاً على الأرض "الشعب مثل الله.... الله في السماء والشعب في الأرض، ليس
معه شريك، الله لو معه شريك قال: لاتخذوا إلى ذي العرش سبيلا، لو كان معه آلهة كان
واحد منهم يقول: أنا أريد أكون إلهاً، الذي بقى في العرش الآخرين يحاولوا أن
يقوموا بانقلاب عليه.... الشعب فوق الأرض لازم أن يكون هكذا، متأله فوق أرضه"
(خطاب "للقذافي" في ذكرى جلاء الطليان
7/10/1989).
وقد أعلن "القذافي" على
الملأ إنكاره السنة النبوية وإلغاءها، وأحرق كتب السنة تحت باب إحراق (الكتب
الصفراء)، والتشكيك الدائم بالأصل الثاني من أصول الإسلام (السنة)، وأنكر "القذافي"
عموم دعوته صلى الله عليه وسلم للناس كافة مخالفاً بذلك صريح القرآن والسنة وإجماع
المسلمين قاطبة من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، فقال
"العرب جسدهم القومية العربية وروحهم الإسلام، لأن محمداً مرسل للعرب فقط!!
والقرآن جاء من أجل العرب وبلغة عربية، موجه للعرب فقط، وأي واحد غير عربي اعتنق
الإسلام هذا متطوع في الحقيقة، أمره عند الله لكنه غير معني"، (لقاء "للقذافي" مع أساتذة الجامعات
بتاريخ 19/2/1978).
"
تجرأ القذافي على تحريف القرآن، وحذف كلمة "قل" من القرآن محتجا بأن
الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد انتقل النبي إلى جوار ربه، فلم يعد
هناك حاجة لقول "قل"
"
|
تجرأ القذافي على تحريف القرآن، وحذفَ
كلمة "قُلْ" من القرآن، محتجاً بأن الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-،
وقد انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جوار ربه، فلم يعد هناك حاجة لقول
"قل"، وإنما يبتدئ القارئ للقرآن مثلا بـ"هو الله أحد"
و"أعوذ بِرب الفلقِ"، و "أعوذ برب الناسِ"
وتطاول "القذافي" على
الصحابة واتهمهم من طرف خفي بوضع الأحاديث، بل وقارن بينهم وبين بعض الكفار
والمرتدين كأبي لهب ومسليمة، فقا: "لا نستطيع مثلما تأتي لنا بحديث وتقول،
هذا الحديث رواه النبي، لا نستطيع أن نعرف هل هذا الحديث اختلقه معاوية أم قاله
النبي فعلاً؟ أم اختلقته سجاح أم قاله أبو سفيان أم أبو لهب؟ لا نعلم، لأن هناك آلآف
الأحاديث عليها علامة استفهام، يا ترى أي منها قاله النبي فعلاً"، (خطاب "للقذافي" في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر
الإسلامي بتاريخ 25/9/1989).
وقال "القذافي" عن الحديث
الذي رواه البخاري ومسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد
الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى": "هذا كذب... هذا حديث لم يقله
النبي، هذا قاله يزيد لأنه يبغي -يريد- الناس ما تمشيش -لا تذهب- إلى الكعبة وتحج
إلى القدس، لأن القدس تحت سيطرته"، (خطاب "للقذافي"
أمام مجلس اتحاد الجامعات العربية في بنغازي بتاريخ 17/2/1990).
نزع "القذافي" الصبغة
الإلهية عن الشريعة الإسلامية وساوى بينها وبين الشريعة الرومانية أو الفرنسية
فقال "... لهذا تعتبر الشريعة الإسلامية مذهبا فقهيا وضعيا شأنه شأن القانون
الروماني أو قانون نابليون، وكل القوانين الأخرى التي وضعها الفقهاء الفرنسيون أو
الطليان أو المسلمون... فالذي يدرس القوانين الرومانية يعتبر أن علماء الإسلام
يحملون قانونا وضعيا يضاهي القانون الروماني، لكن لا تقول، هذا دين"، (حوار "للقذافي" مع حفظة القرآن الكريم بطرابلس
بتاريخ 3/7/1978)
واعتبر "القذافي" أن
الشريعة الإسلامية مؤلفة من بعض الأشخاص والفرق، فقال "إن ما يسمى بالشريعة
الإسلامية عبارة عن كتب وضعية واجتهادات وتأليفات قام بها بعض الناس، أمثال
الغزالي وابن سينا والفارابي وأهل الصفا والمعتزلة، كل واحد منهم ألف، وجميعهم
أخذوا من اليونانية"، (خطاب للقذافي في الملتقى
الثاني للجان الثورية في الجامعات والمعاهد، بقاعة التربية العقائدية بطرابلس،
بياريخ 30/3/1991).
استهزأ "القذافي" ببيت الله
الحرام، واعتبر الكعبة صنماً، فقال "إن الكعبة هذه هي آخر صنم ما زال باقياً
من الأصنام"، (خطاب للقذافي في افتتاح مجلس
اتحاد الجامعات العربية بمدينة بنغازي بتاريخ 17/2/1990). كما استخف
القذافي بشعيرة رمي الجمرات، وهي من واجبات الحج، وطالب استبدالها بسبع حجرات
ترمى في فلسطين، تحدث فقال "ترجمون الحجرات؟! كان يجب أن ترجم الصهاينة في
فلسطين، كل واحد منا يحمل سبع حجرات ويذهب بها إلى فلسطين، هذا هو الجهاد، هذا هو
رمي الجمرات... ماذا تعني أن ترمي سبع جمرات على تمثال؟! الذي هو نيابة عنه، هذا
هو الحج الحقيقي في هذه المرحلة"، (خطاب "للقذافي"
في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الثاني للقيادة الشعبية الإسلامية العالمية بمدينة
بنغازي بتاريخ 19/3/1990).
أنكر "القذافي" المعراج
فقال "لا يوجد في القرآن حاجة اسمها المعراج إطلاقاً، خاصة في مسألة الإسراء،
وليس هناك أي مصدر لحكاية المعراج تعتمد عليه... ولو كانت المعراج هي وقعت بالفعل
أو فيه شيء اسمه المعراج لكان القرآن ذكرها... هذه القصة الخيالية التي تسرد دائما
على ألسنة الفقهاء ليس لها ما يدعمها من مصدر وحيد للمعلومات في هذا الخصوص وهو
القرآن، خاصة حكاية البراق، هذه خرافة تماما ليس لها وجود، من هنا يجب أن ينتهي
الجانب الأسطوري في الإسراء والمعراج"، (حديث
إذاعي للقذافي بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج بتاريخ 24/6/1976).
والقذافي قد وقع في حديثه عن المعراج
في خطأين، الأول: إنكاره المعراج، والثاني: إنكاره أن يكون القرآن ذكر المعراج، مع
أن عدة آيات وردت عن المعراج في سورة النجم، فقال الله فيها: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
(6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا
كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ
الْمَأْوَى (15) }
وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآيات جاءت في الحديث عن رؤية الرسول -صلى الله
عليه وسلم- لجبريل على صورته الملائكية أثناء رحلة المعراج.
ثم خلع "القذافي" الأدب
عندما تحدث عن الخلفاء الراشدين وتقول على الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما لم
يقله، فقال "إن رسول الله برئ من الخلفاء الذين أتوا بعده، إذا كان علي خليفة
رسول الله فلماذا قاتله نصف المسلمين، وقتلوا أولاده من بعده... عثمان لا يصلح
للحكم لأنه أرستقراطي، ومكن أقاربه من حكم المسلمين ونشر الواسطة والمحسوبية في
الدولة العربية الإسلامية في ذلك الوقت فقتلوه..."، (خطاب
"للقذافي" في الملتقى الثاني للجان الثورية بالجامعات والمعاهد العليا
بطرابلس بتاريخ 30/3/1991).
"
إن حاكما قطع صلته بمقومات الأمة يجب أن تقطعه هذه الأمة، وإن رجلا خان ما يجب
أن يكون أمينا عليه وهي مقدسات هذه الأمة يجب أن تنبذه هذه الأمة
"
|
ثم استخف "القذافي" بقدسية
مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقال: "لا يمكن الرسول يقول، تشد الرحال
إلى مسجدي هذا أبداً، لأن مسجد الرسول في ذلك الوقت ما له قدسية... إيش هي القدسية
في مكان بنى فيه الرسول مثل قدسية الفاتيكان... أو قدسية قم بالنسبة لإخواننا
الشيعة أو كربلاء أو النجف... ما لها أي قدسية... الأماكن المقدسة عند الله
معروفة... البيت العتيق، المسجد الأقصى، جبل الطور، وادي طوى، "[فـ] اخلع
نعليك إنك في الوادي المقدس طوى""، (كلمة "للقذافي"
في اجتماع لجنة الأمانة المؤقتة للقيادة الشعبية الإسلامية العالمية بتاريخ
19/12/1989).
عرضنا فيما سبق نماذج من أقوال "القذافي"
التي اتضح فيها استخفافه واستهزاؤه ببعض مقدسات الأمة، وهي غيض من فيض ولا مجال
لاستقصاء كل اجتراءاته, لكننا في الختام نقول: إن حاكماً قطع صلته بمقومات الأمة
يجب أن تقطعه هذه الأمة، وإن رجلاً خان ما يجب أن يكون أميناً عليه وهي مقدسات هذه
الأمة يجب أن تنبذه هذه الأمة.
لذلك نشد على أيدي إخوتنا في ليبيا
ونقول لهم طهروا أرض ليبيا من رجسه، وضعوا على قبره شاهداً يقول: "هذا قبر
أبي رغال الجديد" (دليل أبرهةإلى هدم الكعبة), واطلبوا من جماهير أمتنا,
والأجيال القادمة أن ترجمه بحجر جزاء اجترائه على مقدسات هذه الأمة العظيمة.