لا يمكن استبعاد المواجهة المباشرة في الصراع على حكم النظام العالمي بالنسبة للصين والولايات المتحدة، فقد دمرت اليابان وألمانيا بسبب طموحاتهما التوسعية وصراعهما مع الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة
يقود المتغيرات في هذا العالم وتيرة متسارعة من التنافسية بين الولايات المتحدة
والصين، وما ترجح حدوثه تلك المتغيرات كانت نظريات العلاقات الدولية تنفي أي فرصة
لوقوعه، فهي ترى أن القوى الكبرى لديها مساحة من التفاوض وحل الخلافات فيما بينها
دون الوصول إلى النزاع المسلح، وهذا ما جرى بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة
الأمريكية خلال الحرب الباردة التي استمرت لعقود، لكن قد تكون النهاية البيضاء
للحرب الباردة والتي توجت بالإطاحة بالنظام الشيوعي سببها قدرة الولايات المتحدة
على تجنب المواجهة المسلحة المباشرة مع السوفيت ورهانها على الاستنزاف الداخلي لذلك
الكيان المدجج بالأسلحة النووية. ما جرى مع السوفيت كررته واشنطن في العراق وليبيا
وأفغانستان وإيران، فهي في الوقت الذي تخوض فيه صراعاً علنياً تسمح بفتح ثغرات
للتواصل مع خصومها سواء من خلال المجادلة في آليات تطبيق الديمقراطية أو المصالح
الاقتصادية المشتركة أو المؤسسات ذات الطابع المدني وهي ليس مجرد أدوات لنزع فتيل
الأزمة بقدر ما هي حواضن استخبارية وجزء لا يتجزأ من أدوات الصدام.
لذلك يمكن القول إن الحرب الباردة التي تجري بين الصين والولايات المتحدة وروسيا
ليس من المرجح أن تنتهي بصورة سلمية، فوفقاً للأدوات الموضوعية التي يمكن رصدها لا
تزال الولايات المتحدة القوة المهيمنة من الناحية العسكرية والاقتصادية أما بالنسبة
للصين فهي تحتل المرتبة الثانية بينما تشكل القوة النووية الروسية قوة ردع مخيفة في
ظل وجود نظام دكتاتوري أقرب إلى كونه إعادة لتجربة ستالين.
ما يعقد الأمور بالنسبة للولايات المتحدة ليس هذا الترتيب من التنافسية، بل إن
الضعف الذي ينهش أوروبا بسب أزماتها الداخلية أضعف جناح الولايات المتحدة، وهذا
الأمر جعل الكثير من القوى الدولية تقف كطرف ثالث أقرب من الانحياز الصين وروسيا،
ومن هذه القوى الهند والبرازيل وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وتركيا. لذلك تُصعّد
واشنطن من خطابها ليس لإخافة الصين وروسيا بل لكي تضمن حياد أكبر قدر من الأطراف
التي تنتمي إلى التحالف الثالث، فقد صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن استخدام
القوة العسكرية لا يزال مطروحًا على الطاولة بصفته ملاذاً أخيراً للتعامل مع
البرنامج النووي الإيراني.
تعتقد الصحافة الأمريكية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخطأ التقدير حينما قرر
مهاجمة أوكرانيا، لكن ما يمكن قراءته مع مرور عدة أشهر على الحرب فإن المتضرر
الأكبر من هذه الحرب هي أوروبا بسبب قطع إمدادات الغاز والذي خلف أزمة اقتصادية
خانقة للكتلة الأوربية وحول هذا الملف إلى ورقة سياسية تستخدمه دولاً مثل الجزائر
والدول المنتجة للنفط مثل المملكة العربية السعودية، وهذا الأمر يضغط بصورة كبيرة
على التحالف الذي تصنع واشنطن ضد روسيا والصين، فالأخيرة ترى أن هزيمة الموقف
الأمريكي في أوكرانيا سينعكس إيجاباً على السلوك الصيني في تايون. فالصين تراقب
الغموض الأمريكي في ما يتعلق بالوقوف إلى جانب تايون، وترى في ذلك إشارة مبدئية إلى
عدم إمكانية دخول واشنطن في حرب مع الصين من أجل الجزيرة، وهذا الاستنتاج قد يكون
نتيجة مراقبة السلوك الأمريكي في أوكرانيا التي تعد ذات أولوية كبرى بالنسبة
للمصالح الأمريكية في أوروبا.
كذلك الأمر بالنسبة لإيران التي تتلقى تهديدات متواصلة من الرؤساء الأمريكيين لكنها
لم ترَ سوى تحرك صهيوني فردي لمواجهة محاولاتها للحصول على قنبلة نووية، وهذا الأمر
يدفعها لمواصلة تلك المحاولات. قد يفسر ارتباك الموقف الأمريكي من كل ما يجري هو
الصعود الصيني القوي اقتصادياً بينما تتجه واشنطن إلى انحدار مخيف على الصعيد
الاقتصادي والسياسي الداخلي والانتشار العسكري، ففي الوقت الذي تنسحب فيه واشنطن من
قواعدها في الشرق الأوسط توسع الصين انتشارها في إفريقيا.
لا يمكن استبعاد المواجهة المباشرة في الصراع على حكم النظام العالمي بالنسبة للصين
والولايات المتحدة، فقد دمرت اليابان وألمانيا بسبب طموحاتهما التوسعية وصراعهما مع
الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة. ورغم تداعي الكثير من التصريحات بشأن
التفوق النووي الذي تلوح به كلٌ من واشنطن وموسكو، إلا أن التكنولوجيا العسكرية
اليوم تعتمد بصورة كبيرة على ما يمكن وصفه بــ"الثورة الصناعية الرابعة"، حيث تعتمد
الحروب على تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة والاتصالات والصواريخ التي تفوق سرعة
الصوت، والاقتصاد العالمي، وهذا الأمر يصب بصورة لاشك فيها لصالح الصين التي قطعت
شوطاً طويلاً في هذا المجال.
تعتمد واشنطن على الأدوات الليبرالية للتسلل للمؤسسات الدولية حتى نجحت عبرها في
تشكيل تحالف ضخم في أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا، لكن تلك الأدوات أصبحت
تستغلها روسيا والصين كذلك وتحولها إلى أهداف يمكن أن تجعلها أكثر تأثيراً في
المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فقد أحبطت الصين إجراء تحقيق من
قبل منظمة الصحة العالمية بشأن كوفيد19، وكررت الأمر نفسه روسيا في مجلس الأمن
عندما هاجمت أوكرانيا.
لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أن الكتلة الغربية برُمتها وعلى رأسها الولايات
المتحدة شريك غير نزيه في الاقتصاد العالمي، فبمجرد اندلاع الحرب تم فرض عقوبات على
الشركات الروسية ومصادرة أموالها وردت روسيا بنفس الطريقة وذهبت بعيداً حيث قطعت
الغاز الروسي عن أوروبا، وهذا الأمر يبرهن على أن دورة الاقتصاد العالمي هي جزء من
أدوات الصراع وليس وسيلة لصنع السلام العالمي.
يحاول بايدن جر الصراع بين الولايات المتحدة والصين إلى شيء اعتادت عليه الولايات
المتحدة حينما تخوض مواجهة غير عادلة للقضاء على منافسيها، فقد صرح قائلاً "إن
المعركة حالياً بين الديمقراطية والاستبداد"، وهذا الأمر كررته واشنطن في العراق
وفي ليبيا، لكن واشنطن كعادتها تلتزم الصمت إزاء الاستبداد الذي يحمي مصالحها مثل
استبداد النظام السوري. تقول مجلة فورين بوليسي إنَّ تتبع 2500 سنة من التاريخ
تؤكد أن الأنظمة الاستبدادية تنهار ولا تصمد أمام الأنظمة الديمقراطية في مثل هذه
الصراعات، لكن المجلة تجاهلت أن النظام الديمقراطي الحالي ولد من رحم الأوتقراطية
الحضارية الغربية التي برعت في صنع نظام يحمي نفوذها ويفرض هيمنتها على العالم، وفي
حال فشلت أدواتها في حماية مصالحها تلجئ إلى القوة العسكرية.