• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ما لم يقله كسينجر في دافوس

قال: إننا "نعيش الآن في عصر جديد تماما"، مشيرا إلى أن الوضع الجيوسياسي على مستوى العالم سيشهد تحوّلات كبيرة بعد انتهاء حرب أوكرانيا.


في الأسابيع الماضية تنافست وسائل الاعلام الروسية والموالية لها في منطقتنا، سواء كانت موالية لإيران أو تابعة لبعض الدول العربية، على الاحتفال وإبراز تصريحات هنري كسينجر (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والمنظر الاستراتيجي الأشهر في القرن الأخير) في المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس السويسرية، والذي عقد الشهر الماضي.

 لكن لماذا حرصت وسائل الاعلام الروسية والموالية لها على الاحتفاء بتلك التصريحات؟

وما قيمة ما يقوله هذا السياسي الأمريكي الأسبق أو بالأحرى ما تأثيرها على التوجهات الاستراتيجية العالمية أو في الصراع بين القوى الكبرى؟

حقيقة تصريحات كسينجر

في شهر مايو الماضي انطلقت أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس السويسرية، في أول لقاء بعد عامين من الاجتماعات الافتراضية بسبب تفشي جائحة كورونا.

تأتي خطورة هذا المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انطلقت فعالياته أول مرة عام 1971، من أنه تحول الى منظمة دولية مستقلة تحاول كما يزعم منظميه ونشر في وثائقه، تطوير العالم عن طريق تشجيع الأعمال والسياسات وكل القادة المجتمعيين لتشكيل الرؤية العالمية، فالمنتدى يناقش المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تواجه العالم وكيفية حلها.

ويستقطب المنتدى الاقتصادي العالمي نحو 3000 شخص، ثلثهم تقريباً من قطاع الأعمال.

ومن يحضر إلى المنتدى، يجب أن يكون قد تلقى دعوة رسمية، وفي هذه الحالة يكون دخوله مجانياً، أو أن يكون عضواً في المنتدى الاقتصادي العالمي، وهذا قد يكلف 480.000 جنيه إسترليني، ويحضر في المنتدى زعماء العالم وشخصيات رئيسية من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ورؤساء الشركات الكبرى من أمثال: كوكاكولا وغولدمان ساكس و آي بي أم.

فهذا المنتدى باختصار يعتبر رمزا للنخبة العالمية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، وفي عام 2019، وصف رئيس تحرير مجلة تايم الأمريكية، أناند غريدهارادس، دافوس بأنه أقرب إلى "لقاء لمّ شمل عائلي للأشخاص الذين تسببوا في إفلاس العالم الحديث".

وحمل منتدى هذا العام عنوان "التاريخ يقف عند نقطة تحول.. السياسات الحكومية واستراتيجيات الأعمال"، ويتزامن مع حرب روسيا على أوكرانيا، التي أثرت على مفاصل الاقتصاد العالمي. وشارك في أعمال المنتدى، نحو 50 رئيس دولة وأكثر من 2500 شخصية سياسية واقتصادية ورجال أعمال.

لذلك ارتقب الجميع ما يقوله كسينجر في هذا المنتدى فماذا قال؟

قال: إنه سيكون من الخطورة بمكان بالنسبة للغرب الانغماس في مزاج اللحظة ونسيان مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي.

وشرح كسينجر تلك المكانة قائلا: روسيا كانت جزءًا أساسيا من أوروبا على مدى 400 عام، كما كانت الضامن لتوازن القوة في أوروبا في الأوقات الحرجة. ولا ينبغي أن تغيب تلك العلاقة طويلة الأمد عن أذهان القادة الأوروبيين، كما لا ينبغي أن يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين.

وحذر من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، وقال إن على القادة عدم السماح للحرب بالاستمرار لمدة أطول، وحث قادة الغرب على حمل أوكرانيا على قبول الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا حتى وإن كانت شروط التفاوض أقل من الأهداف التي تريد الخروج بها من الحرب.

وقال كيسنجر "يجب أن تبدأ المفاوضات خلال الشهرين المقبلين قبل أن تؤدي إلى اضطرابات وتوترات لن يكون من السهولة بمكان التغلب عليها. ومن الأفضل أن يكون الهدف هو العودة إلى الوضع السابق (قبل اندلاع الحرب)

وشدد كيسنجر على أن مواصلة الحرب بعد تحقيق ذلك الهدف لن تكون من أجل استعادة حرية أوكرانيا، بل ستكون حربا جديدة على روسيا نفسها.

وأعرب عن أمله في أن يتعامل الأوكرانيون مع الأزمة بحكمة، وقال "آمل أن يقرن الأوكرانيون البطولة التي أظهروها بالحكمة"، مضيفًا أن الدور المناسب لأوكرانيا هو أن تكون دولة محايدة بدلاً من السعي لأن تكون جبهة أمامية أوروبية في الصراع مع روسيا.

عند التأمل جيدا في هذا الكلام الذي يقوله كسينجر، نجد أن خطابه موجه للغرب المساند لأوكرانيا في دفاعها عن الغزو الروسي.

ولكن كسينجر قبلها بيوم واحد وجه كلامه للروس في حديث لصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية نشرته سكاي نيوز 12 مايو الماضي، وهذا لم تذكره أو تغافلت عنه وسائل الاعلام المدافعة عن الموقف الروسي، فماذا قال الرجل في هذا الحوار للصحيفة البريطانية؟

قال: إننا "نعيش الآن في عصر جديد تماما"، مشيرا إلى أن الوضع الجيوسياسي على مستوى العالم سيشهد تحوّلات كبيرة بعد انتهاء حرب أوكرانيا.

بعد ذلك فصل كسينجر طبيعة الصراع على النظام الدولي ووجه كلامه للروس "ليس من الطبيعي أن تكون للصين وروسيا نفس المصالح في جميع المشاكل المستقبلية.. وبالتالي، فبعد حرب أوكرانيا، سيتعين على روسيا إعادة تقييم علاقتها بأوروبا على الأقل، وموقفها العام تجاه الناتو".

وتابع: "هذا لا يعني أن أيا منهما (الصين وروسيا) سيصبح صديقا حميميا للغرب، لكن المقصود هو أنه في قضايا معينة، سيكون خيار -التعامل بنهج مختلف- قائما.. أي أنه في الفترة المقبلة، يجب ألا نجعل روسيا والصين كتلة واحدة".

هنا مربط الفرس، والنقطة المحورية والتي تفسر كلامه في دافوس بعدها بيوم، فهو لا يريد للغرب أن يضع الصين وروسيا في سلة واحدة، حتى يتفرغ الغرب للصين بل يضم معه روسيا في صراعه مع الخطر الأكبر على الغرب الذي يراه كسينجر الصين.

وبشأن تهديدات بعض الدول باللجوء للسلاح النووي، أوضح كسينجر "أن العالم يواجه الآن تقنيات يمكن أن تؤدي إلى كارثة لم يكن من الممكن حتى تخيلها في وقت سابق.. والغريب أن هذه الأسلحة تتطور وتتكاثر كل عام، لكن لا توجد مناقشة دولية حول ما يمكن أن يحدث في حال تم استخدام الأسلحة النووية فعليا".

"ما خط بوتن الأحمر؟"، يجب كيسنجر على سؤال "فاينانشال تايمز" بالقول: "لقد قابلت بوتن عدة مرات، وخلصت إلى أن معتقداته الأساسية تقوم على نوع من الإيمان الصوفي بالتاريخ الروسي، وأنه تعرض للإهانة، بسبب الفجوة الهائلة التي ظهرت بين أوروبا والشرق.. لقد تعرض للإهانة لأن روسيا شعرت بالتهديد بضم هذه المنطقة بأكملها للناتو.. هذا ليس عذرا، ولم أكن أتوقع هجوما بحجم الاستيلاء على دولة معترف بها".

هنا انتقاد عنيف من كسينجر لروسيا بسبب مبررات غزو أوكرانيا.

وأضاف: "أعتقد أنه (بوتن) أخطأ في تقدير الموقف الذي واجهه دوليا، ومن الواضح أنه أخطأ في تقدير قدرات روسيا. والسؤال الآن هو إلى متى سيستمر هذا التصعيد وإلى أين قد يتجه".

وبخصوص الدروس التي ستستخلصها الصين من حرب أوكرانيا، شدد كيسنجر على أن "أي زعيم صيني سيفكر الآن في كيفية تجنب الوقوع في الموقف الذي وضع فيه بوتن نفسه، وكيف تتجنب بكين انقلاب العالم عليها".

وهنا يبرر كسينجر موقف الغرب ضد روسيا في أوكرانيا لأنه استراتيجيا سيكون رادعا للصين.

ولكن هناك كلام لكسينجر عن أوكرانيا موجها بالخصوص لبلده الولايات المتحدة والتي يستهدف مصلحتها في كتاباته ففي مقال قديم له عام 2014، عقب احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم يقول بوتين مطالبا إدارة أوباما في ذلك التوقيت بضبط النفس: فأكد أن المواجهة المباشرة مع روسيا ليست في مصلحة الولايات المتحدة، وأن القيمة الاستراتيجية لأوكرانيا محدودة.

وأقرّ كيسنجر أن مهارات السياسة الحقيقية تظهر في كيفية إنهاء الحروب وليس في إشعالها، "وإذا كان لأوكرانيا أن تبقى على قيد الحياة وتزدهر، فيجب ألا تكون موقعا متقدما لأي من الجانبين ضد الآخر، الغرب أو روسيا، بل يجب أن تعمل كجسر بينهما"، وأضاف "يتعين على الغرب أن يدرك أن أوكرانيا في نظر روسيا لا يمكن أبدا أن تكون مجرد دولة أجنبية عادية".

وآمن كيسنجر أن روسيا لن تتمكن من فرض حل عسكري على أوكرانيا من دون عزل نفسها في وقت أصبحت فيه العديد من حدودها محفوفة بالمخاطر بالفعل.

وعرض كيسنجر في ذلك المقال رؤية رباعية الأبعاد للحفاظ على أوكرانيا، وحفظ ماء وجه روسيا والغرب في الوقت ذاته معا على النحو الآتي:

أولا: أن يكون لأوكرانيا الحق في أن تختار بحرية توجهاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك السعي للانضمام للاتحاد الأوربي.

ثانيا: لا ينبغي لأوكرانيا أن تنضم إلى حلف الناتو على الإطلاق.

ثالثا: أن تتبع أوكرانيا نموذج فنلندا الحيادي الذي تقترب فيه من الغرب في كل المجالات، لكنها تتجنب بعناية استعداء روسيا.

رابعا: أن تقرّ روسيا بسيادة أوكرانيا على جزيرة القرم مع تمتعها وتمتع أسطولها بوضع خاص في قاعدة سيفاستوبول البحرية.

وأقرّ كيسنجر أن رؤيته هذه ما هي إلا مجموعة مبادئ عامة لن ترضي أيا من أطراف الأزمة، لكنها قد تعكس رضاء متوازنا بينهم.

خلاصة موقف كسينجر أن بوتين قد أخطأ في غزوه أوكرانيا، وأنه ورط نفسه، ولكن على الغرب ألا يتمادى في معاداة روسيا وأن يراعوا مصالحها في أوكرانيا لأنهم يحتاجون روسيا في صراعهم الأهم والأخطر مع الصين.

ويبقى السؤال لماذا دائما يحتفي قادة العالم بما يقوله هذا الرجل وما أهمية حديثه ومقولاته؟

كسينجر الثعلب العجوز

في شهر مايو الماضي بلغ هذا الرجل من العمر 99 عاما، ويحتفظ بقمة تركيزه، ولازالت له القدرة على الحديث والتفكير في المشكلات العالمية، ووضع الولايات المتحدة في النظام الدولي، وقدرتها على الاستمرار في تربعها على قمة ذلك النظام.

كانت له أدوار مؤثرة أو بالأحرى الأكثر تأثيرا في السياسات الأمريكية من منتصف الستينات وحتى منتصف السبعينات حيث عمل كمستشار للأمن القومي، ثم وزيرا للخارجية وهو في الحقيقة في تلك الفترة كان صاحب القرار الأساسي في السياسة الخارجية الأمريكية.

وبعد ذلك تفرغ كسينجر لكتابة مذكراته والعديد من المؤلفات التي دائما توصف بالاستراتيجية التي تتحدث عن الدبلوماسية أو النظام العالمي الجديد.

ولم يكن كسينجر غارقا في التنظير، والأحاديث من برج عاج، بل الميزة الأكبر لهذا الرجل أنه جمع بين التفكير الاستراتيجي والرؤية الواقعية على الأرض والتي يمكن تطبيق فيها تلك الاستراتيجيات، لذلك فإن أبرز ساسة العالم عندما يزورون الولايات المتحدة يكونون حريصين على ترتيب لقاء بهذا الرجل لينهلوا من خبراته وقدراته.

 

أعلى