• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تعاويذ النبي صلى الله عليه وسلم (2)

ينبغي للمؤمن وهو يتعوذ بالتعاويذ النبوية أن يفهم معانيها، ويستحضرها بقلبه، ولا يكتفي بمجرد حفظها أو ترديدها؛ وذلك ليرى أثرها عليه في حياته ونفسه وأهله وماله.


الحمد لله العليم القدير؛ فارج الكربات، مجيب الدعوات، مقيل العثرات، لا يخيب من رجاه، ولا يرد من دعاه، وهو الغني الكريم، نحمده على الإيمان والقرآن ورمضان، ونشكره على البر والعطايا والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تعلقت به قلوب الموقنين، وعفرت له جباه المتهجدين، ورفعت له أكف الداعين، يرجون عطاياه في هذا الشهر الكريم؛ فاللهم اقبل منا ومن المسلمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يعتكف في عشر رمضان، ويطيل التهجد والقيام، ويلح على الله تعالى بالدعاء، يرجو الأجر والثواب، ويلتمس ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا في هذه الليالي العظيمة؛ فإنها عن قريب راحلة، وتبقى أعمالكم فيها ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7- 8]. 

أيها الناس: هذه الليالي ليالي الدعاء، وأفضل الدعاء أجمعه، وأجمع الدعاء ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد أعطي جوامع الدعاء وجوامع الكلم. وما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي للمؤمن أن يتعوذ منه.

ومما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعاويذ: ما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ» رواه الشيخان. وفي رواية للبخاري أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ».

وهذه التعويذة من أجمع التعاويذ وأنفعها، فإذا نُجي العبد من هذه الأربع عوفي في الدنيا وفي الآخرة، وكانت دنياه سعادة وسرورا، وآخرته فوزا وحبورا.

وأولها: جَهْدُ الْبَلَاءِ: «فكل ما أصاب الإنسان من شدّة المشقّة والجهد، مما لا طاقة له بحمله، ولا يقدر على دفعه عن نفسه فهو من جهد البلاء». قَالَ السيوطيّ: «هي الحالة التي يختار الموت عليها، أي: لو خير بين الموت، وبين تلك الحالة لأحبّ أن يموت تحرّزًا عن تلك الحالة. نعوذ بالله تعالى من جهد البلاء».

وثانيها: دَرَكُ الشَّقَاءِ: والمعنى: أعوذ بك أن يدركني، والشقاء يكون في الدنيا وفي الآخرة؛ ففي الدنيا ما يستجلب الهموم والغموم والأحزان من تضييق العيش، وركوب الدين، وتسليط العدو، ونحو ذلك. قال الشوكاني: «درك الشقاء: شدة المشقة في أمور الدنيا، وضيقها عليه، وحصول الضرر البالغ في بدنه أو أهله أو ماله». وفي الآخرة باستجلاب أسباب الشقاء من الكفر والنفاق والبدع والكبائر، وأوله ضيق الصدر في الدنيا، وقلق القلب، وظلمة الوجه، ثم سوء الخاتمة، ثم عذاب القبر، ثم شدة الحساب، ثم هول العذاب، ومن نجي من درك الشقاء سعد في الدنيا والآخرة. فإذا استعاذ العبد بالله تعالى من درك الشقاء فهذا يتضمن الدعاء بألا يعمل عمل الأشقياء؛ لئلا يكون منهم.

وثالثها: سُوءُ القَضَاءِ، «بمعنى المقضيّ؛ إذ حكم الله تعالى منْ حيث هو حكمه حسنٌ لا سوء فيه»، «أي: القضاء المسيء المحزن في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل» «وهو ما يسوء الإنسان، ويوقعه في المكروه».

وَربعها: شَمَاتَةُ الأَعْدَاءِ: وهذه زيادة في الحديث زادها سفيان بين عيينة ونسي، قال البخاري بعد أن روى الحديث: قَالَ سُفْيَانُ: «الحَدِيثُ ثَلاَثٌ، زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً، لاَ أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ». ودلت روايات أخرى على أن جملة «شماتة الأعداء» هي التي زادها سفيان ونسي، وهذا يدل على ضبط علماء الحديث ودقتهم، فإنه لما زاد واحدة ونسيها نبه على ذلك، والرواة نقلوا ذلك عنه حتى دونه البخاري ومسلم في صحيحيهما، فلله در علماء الحديث ما أشد دقتهم وتحريهم في ضبط الألفاظ، وما أعظم خدمتهم للسنة النبوية.

قال الحافظ ابن حجر: «كُلُّ أَمْرٍ يُكْرَهُ، يُلَاحَظُ فِيهِ جِهَةُ الْمَبْدَأِ وَهُوَ سُوءُ الْقَضَاءِ، وَجِهَةُ الْمَعَادِ وَهُوَ دَرَكُ الشَّقَاءِ؛ لِأَنَّ شَقَاءَ الْآخِرَةِ هُوَ الشَّقَاءُ الْحَقِيقِيُّ، وَجِهَةُ الْمَعَاشِ وَهُوَ جَهْدُ الْبَلَاءِ. وَأَمَّا شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ فَتَقَعُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ كُلٌّ من الْخِصَال الثَّلَاثَة»اهـ. «وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ هِيَ فَرَحُ الْعَدُوِّ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِعَدُوِّهِ».

ومما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعاويذ: ما جاء في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَشَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» رواه مسلم، وفي رواية للنسائي أنه كان يقوله في الصلاة، كما جاء من حديث فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: «حَدِّثِينِي بِشَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِهِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» وفي رواية أخرى: «كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ». وهذا يدل على أهميته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منه، ويدعو به في الصلاة.

واستعاذة العبد من شر ما عمل، معناه: من شر ما اكتسبه مما قد يقتضي عقوبة في الدنيا، أو يقتضي عقوبة في الآخرة، وإن لم يكن قصده. ويدخل فيه ما يعمل من الأعمال الصالحة بأن يدخل فيها ما يحبط ثوابها كالعجب والرياء والسمعة، فيعاقب عليه؛ لأنه شرك خفي. ويدخل فيه أيضا أنه قد يعمل الإنسان العمل لا يقصد به إلا الخير، ويكون في باطن أمره شر لا يعلمه، فاستعاذ منه. وتضمن الحديث أيضا الاستعاذة من شر ما لم يعمل، أي: من شر ما لم أعمل أنا بنفسي، وعمله غيري من المعاصي التي توجب العقوبات العامة؛  لقول الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25]،  كما يتضمن الاستعاذة من أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه الله تعالى، فإنه لا مأمن لأحد من مكر الله تعالى ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].

نسأل الله تعالى أن يقبل منا من المسلمين، وأن يجعلنا بليلة القدر من فائزين، وأن ينظمنا في عباده الصالحين، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131- 132].

أيها المسلمون: جدوا واجتهدوا في هذه العشر المباركة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، وكان يلزم المسجد معتكفا لله تعالى ليالي العشر تحريا لليلة القدر، قالت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» متفق عليه.

أيها المؤمنون: ومما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعاويذ: ما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» رواه أبو داود وصححه ابن حبان.

فتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع لشدة ألمه، ووصفه بأنه «بِئْسَ الضَّجِيعُ» أي: المضاجع، والضجيع: ما يلازم صاحبه فِي المضجع، وأطلق عَلَى الجوع ضجيعًا؛ للزومه للإنسان ليلًا ونهارًا، فِي النوم واليقظة. وللجوع ألم شديد، يسهر ليل صاحبه، ويضجره في نهاره، ولا يكاد يسكن حتى يعود مرة أخرى. وتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخيانة، وأخبر أنها بئس البطانة، أي: بئس ما يبطنه الخائن ولا يظهره. فجعل أقبح ما يخفيه الإنسان في باطنه الخيانة. وأصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. ولكنها تعم الدين كله؛ فإن الإنسان مؤتمن على دينه أن يقوم به، وسمى الله تعالى ذلك أمانة فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال:27]، فمن ضيع شيئًا مما أمر الله تعالى به، أو ركب شيئًا مما نهى الله تعالى عنه فقد خان الأمانة . وكل من عصا الله تعالى فقد خان نفسه؛ إذ جلب إليها الذم في الدنيا، والعقاب في الآخرة.

وما أحوج المؤمن إلى هذه التعويذة في هذا الزمن؛ إذ المجاعات تطل على كثير من المجتمعات بسبب الركود الاقتصادي، والفساد المالي، وتوحش الرأسمالية. والأمانة تتلاشى من البشر شيئا شيئا، وأول ما يفقد الناس من دينهم الأمانة كما جاء في الأثر، وجاء في الحديث الصحيح أن الأمانة تقبض من القلوب في آخر الزمان، حتى لا يكاد أحد يؤدي الأمانة.

وينبغي للمؤمن وهو يتعوذ بالتعاويذ النبوية أن يفهم معانيها، ويستحضرها بقلبه، ولا يكتفي بمجرد حفظها أو ترديدها؛ وذلك ليرى أثرها عليه في حياته ونفسه وأهله وماله.

وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

أعلى