أعلن ماكرون بعد الغزو مباشرة، من أن الحرب ستطول ويجب أن نستعد لها، مشيرا إلى أن الحكومة تعد خطة صمود لمواجهة العواقب الاقتصادية للأزمة.
"سيتم جركم رغم أنفكم لهذا النزاع"
هذا جزء مما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون
أثناء المؤتمر الصحفي الذي أعقب اجتماعهما في موسكو الشهر الماضي، قبل الغزو الروسي
لأوكرانيا بأسبوعين تقريبا، حيث تحدث بوتين بلهجة حادة، مما اعتبره متابعون بأنه
نوع من التهديد لأوروبا في ظل وجود ماكرون الذي جاء كرئيس الاتحاد الأوروبي.
ولكن لماذا تمثل الحرب في أوكرانيا معضلة عند فرنسا؟ هل لأنها تمثل أوروبا في هذه
الأوقات أم أن الأمر يتعلق بالدولة الفرنسية وطموحاتها وأهدافها بالذات؟
ما تفسير الظهور المتكرر واللافت للرئيس الفرنسي في وسائل الاعلام وغيره من
المسئولين الفرنسيين، وتوالي تصريحاتهم وتعليقاتهم على مجريات الحرب؟
لماذا كان ماكرون الرئيس الوحيد الذي هرع الى موسكو لمقابلة بوتين قبل الحرب بأيام
معدودة؟
وعندما وقعت الحرب انهالت الاتصالات التليفونية بين ماكرون وبوتين أكثر من أي رئيس
آخر.
هل كانت فرنسا تمثل الغرب في عرض موقفه على روسيا، أو ربما الطلبات التي تريدها
أوروبا وأمريكا من بوتين في المسألة الأوكرانية؟
ولذلك سنرصد تلك الاتصالات والتصريحات، ونحاول تحليلها واستبطان المقصود منها
وخلفياتها، لتكشف لنا عن رافد هام في مسار الحرب الجارية الآن في أوكرانيا.
التصريحات والاتصالات
في الثامن من الشهر الماضي أي قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بحوالي أسبوعين، زار
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون روسيا والتقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في
زيارة كانت مثيرة للجدل.
هذه الاثارة نبعت من شيئين: مضمون الزيارة ومن شكلها التي كانت عليها، فمن حيث
مضمونها فقد كان الانطباع عنها أنها شكلت انفراجا في الأزمة الأوكرانية بالرغم من
بعض التصريحات الفجة لبوتين في المؤتمر الصحفي، ولكن تصريحات ماكرون عقب الاجتماع
أوحت بأنه بات يرى إمكانية لتحقيق تقدم في المحادثات بين موسكو وكييف بشأن النزاع
المشتعل في شرق أوكرانيا، وأعرب عن تفاؤله حيال وجود حلول ملموسة وعملية لخفض
التوتر بين روسيا والغرب، بينما اعتبر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل،
في تصريح للصحفيين أن زيارة إيمانويل ماكرون إلى روسيا حملت معها عنصر انفراج، وقال
بوريل ما دام هناك استعداد للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتحاور، أعتقد بأنه سيكون
هناك أمل في عدم الدخول بمواجهة عسكرية، وفقا لفرانس برس.
ولكن بعدها بأسبوعين بدأ الغزو الروسي وذهبت تلك التطمينات أدراج الرياح وكأنها
خدعة من بوتين لفرنسا.
أما من حيث الشكل فقد أثار المتابعون ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، جدلا كبيرا عن
طريقة وأسلوب الرئيس الروسي بوتين في تعامله مع ماكرون.
فمثلا لم ينتظر بوتين نظيره الفرنسي، بعد انتهاء المؤتمر الصحفي بينهما في الكرملين
ومشى تاركا ضيفه يسير خلفه، مما اعتبره البعض مخالفة بروتوكولية ورغبة في تجاهل
ماكرون متعمدا.
وتظهر لقطات بوتين وهو يسير نحو باب القاعة التي عقد فيها المؤتمر الصحفي، متقدما
خطوات عدة عن ضيفه، الذي راح يتبعه ناحية الباب.
كذلك كان الخطاب الترحيبي بين الرجلين خاليا من الألقاب والبروتوكولات، حيث خاطب
بوتين ماكرون بـأنت فيما رد عليه ماكرون بـ فلاديمير.
أما الشيء الأبرز واللافت في الاجتماع فقد كانت طاولة الاجتماعات الطويلة بين
الرئيسين، فقد بلغ طولها 4 أمتار ولم يتصافحا، في حين أنه بعد ثلاثة أيام من اجتماع
ماكرون، استضاف بوتين الرئيس الكازاخي قاسم توقاييف، وتصافح الزعيمان وجلسا على
مقربة من أحدهما الآخر حيث لم تفصل بينهما سوى طاولة صغيرة.
وتعددت التفسيرات لطول تلك الطاولة، فالمطلعين على البروتوكول الصحي للرئيس الفرنسي
أبلغا رويترز بأن ماكرون وجد نفسه أمام خيارين؛ إما قبول مسحة (بي سي آر) تجريها
السلطات الروسية، ومن ثم السماح له بالاقتراب من بوتين، أو الرفض، ما يضطره
للالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي الصارمة، وبحسب المصادر الفرنسية فقد ذكرت رفض
فرنسا حصول الروس على الحمض النووي للرئيس، مشيرة إلى المخاوف الأمنية في حال قيام
أطباء روس بفحص ماكرون.
لكن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، قال إن الطرف الروسي استشعر ضرورة حماية
بوتن في الاجتماع من عدوى محتملة، وأكد أن هذا لا يتعلق بالسياسة، ولم يؤثر على
المحادثات.
ولكن بوتين الذي دائما يعتمد على الرسائل الخفية في حركاته، والتي تعددت بأشكال
أخرى مع مسئولين في دول أخرى، لذلك كان التفسير الأقرب لطول هذه الطاولة، وكأنها
تحمل رسالة إلى الرئيس الفرنسي، بمثابة طلب روسي الى فرنسا وأوروبا كلها بالوقوف
على مسافة بعيدة، أو ابتعدوا عن الأزمة مع أوكرانيا.
وبعد الغزو الروسي واندلاع الحرب، توالت الاتصالات الهاتفية بين الرئيسين الروسي
والفرنسي وبلغت حتى التاسع من هذا الشهر (مارس) أربع اتصالات.
ولكن محصلة هذه الاتصالات هو تشدد ظاهري للسياسة الفرنسية ضد روسيا، مما يمكن
تفسيره أنه شعور بالخذلان من جانب ماكرون تجاه بوتين.
فقد أعلن ماكرون بعد الغزو مباشرة، من أن الحرب ستطول ويجب أن نستعد لها، مشيرا إلى
أن الحكومة تعد خطة صمود لمواجهة العواقب الاقتصادية للأزمة.
وبعده خرج وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في الثلاثاء الثامن من مارس
ليقول، إنه يؤمن بالنصر النهائي لأوكرانيا على العملية العسكرية الروسية، وامتدح
لودريان القدرة الكبيرة للمقاومة الأوكرانية.
وأضاف وزير الخارجية الفرنسي: لدينا مثال جروزني، لدينا مثال حلب وها هو يتكرر، في
إشارة إلى الحصائل الثقيلة للغاية للتدخلات الروسية في العاصمة الشيشانية وفي
المدينة الكبيرة شمال سوريا، وتابع جان إيف لودريان: أعتقد أن ما سنكتشفه في
ماريوبول عندما تنتهي الحرب سيكون مروعاً، وهناك أوديسا ثم هناك كييف.
ثم جاءت تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي لتؤكد على وحدة قوات الناتو،
وأن التزام الحلفاء ليس هجوميا إنما دفاعيا، فالتحالف على حد قولها لا يهدد روسيا،
وأضافت في المقابل، يعود إلينا أن نظهر لروسيا أن وحدتنا راسخة حين يتصل الأمر
بالدفاع عن حلفائنا.
ولكن الحالة الدفاعية كما تراها فرنسا، ليس معناه عدم مساندة الجيش الأوكراني ولكن
دعمه بالسلاح، فقد كشف ألكسيس كوربير، النائب والمتحدث باسم حزب (فرنسا غير
الخاضعة) الأربعاء في التاسع من مارس، أن فرنسا سترسل إلى أوكرانيا صواريخ مضادة
للدبابات، وسترات واقية للرصاص. إلا أنه عاد وتراجع عن تصريحه، في حديث إلى قناة
فرانس إنفو، وقال إنه لا يمكنه التصريح عن تسليم السلاح من فرنسا إلى أوكرانيا
بالضبط. وأضاف كوربيير: لا أعرف التفاصيل، داعياً الصحافيين الذين حاولوا استجوابه
إلى عدم محاولة إزعاجه. وتابع: الأمر متروك للحكومة الفرنسية لتخبركم.
وبعدها أعلن المتحدث باسم رئيس أركان الدفاع الفرنسي، العقيد باسكال ااني، أن فرنسا
أرسلت معدات عسكرية دفاعية إلى أوكرانيا، لتعزيز دفاعاتها في الصراع الدائر بينها
وبين روسيا.
كما أعلن رئيس أركان القوات المسلحة الفرنسية، الجنرال تييري بورخار، أن فرنسا
ستنشر 500 جندي في رومانيا في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في ظل الأزمة
الأوكرانية.
انهيار الحلم
منذ أكثر من ثلاث سنوات وفي مقابلة مع راديو (أوروبا 1)، قال الرئيس الفرنسي
ماكرون: علينا حماية أنفسنا اتجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.
وأضاف الرئيس الفرنسي: عندما أرى الرئيس ترامب يعلن أنه سينسحب من معاهدة رئيسية
لنزع السلاح، أُبرمت بعد أزمة الصواريخ الأوروبية في ثمانينات القرن الماضي، فمن
الضحية الرئيسية هنا؟ أوروبا وأمنها.
وأردف قائلا: لن نحمي أوروبا إلا إن قررنا الحصول على جيش أوروبي حقيقي. نريد
أوروبا تدافع عن نفسها بشكل أفضل لوحدها دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وبشكل
مستقل أكثر.
ولكن جاء الغزو الروسي لأوكرانيا، ولم تتبلور بعد صيغة الجيش الموحد فقضي على
المشروع وهو لايزال فكرة تحتاج الى التبلور.
لقد قضي بالفعل على مشروع القوة الأوروبية العالمية، عندما ضربت مصداقية الرئيس
ماكرون، الذي كان آخر رئيس يزور بوتين، وخرج من اللقاء يصرح أنه يشعر بالارتياح،
وأعطى انطباعا بأن بوتين لن يغزو أوكرانيا، فأظهر قائد أوروبا المنتظر بمثابة الرجل
الزعيم المخدوع.
ولكن العامل الأهم أن الهجوم الروسي على أوكرانيا، جعل أوروبا تبدو كأنها عاجزة عن
حماية أمنها الشرقي من التغلغل الروسي، وذكرها بأيام النازية أو زمن التغلغل
السوفيتي، فبدلا من أن تتكتل أوروبا وتصنع تحالفا أوروبيا جديدا بعيدا عن أمريكا
والناتو، أفاقت هذه الأزمة أوروبا لحقيقة هشاشة تحالفها، وأن الأوربيين لا يزالون
بحاجة الى الحماية الأمريكية والانضواء تحت أجنحتها في ظلال الناتو.
باختصار، غزو روسيا لماكرون أثبت لأوروبا أنها لن تستطيع أن تكون قوة عالمية موازية
للولايات المتحدة أو الصين أو حتى روسيا.