ثمة عامل آخر يدفع بوتين الى الحرب في أوكرانيا وتوريطه فيها بالرغم من ادراكه لسيناريوهات الاستدراج ومن ثم الهزيمة، وهو العامل الذي يجعل الطغاة لا يدركون ما يقدمون عليه، يدفعهم الشعور بالعظمة وأنهم كائنات فائقة القوة لا يضاهي أحد ذكاءهم وخبرتهم.
هذا السؤال يردده الكثيرون في أعقاب المغامرة الروسية بغزو أوكرانيا منذ عدة أيام،
وتردد أن الولايات المتحدة هي من أعدت هذا السيناريو للإيقاع بغريمها بوتين،
لإشغاله وإلهائه قبل أن تتوجه وتركز على احتواء مصدر الخطورة الأول والأعظم لأمريكا
وهي الصين.
ومما يعزز هذا التساؤل ما ذكرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نقلا عن مسؤول أمريكي
قوله، بحثنا مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي الأماكن الأكثر أمانا له لضمان استمرارية
الحكومة الأوكرانية، فلماذا تريد الولايات المتحدة استمرار الحكومة الأوكرانية إلا
لاستنزاف روسيا في حرب عصابات طويلة الأمد؟
ولكن لماذا يقبل بوتين أن ينزلق لسيناريو الاستدراج هذا، ويقبل بسحبه الى مستنقع
أوكرانيا؟
هل بوتين بعد أكثر من عشرين عاما من حكم روسيا بمثل هذه السذاجة ويكرر السيناريو
الأفغاني، والذي حدث للاتحاد السوفيتي أيضا في أواخر السبعينات من القرن الماضي
وأدى الى انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد في البداية من ذكر أنه ليس هناك دليل قطعي، يثبت أن
هناك تخطيطا أمريكيا لاستدراج روسيا لأوكرانيا لإنهاء تمددها الاستراتيجي في
العالم، ولكن هناك شواهد تاريخية وأمثلة حاولت فيها أمريكا استخدام استراتيجية
الاستدراج لتحقيق أهدافها وسنذكر منها ما جرى في حرب السويس عام 1956، ثم الهزيمة
السوفيتية في أفغانستان عام 1989.
كيف تغير القوى الكبرى النظام الدولي؟
قبل حرب السويس تلك، كانت بريطانيا تتشبث بكونها القوة التي لاتزال تقود الغرب
متجاهلة وضعها الجديد المتراجع بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي تتجاهل الصعود
والتفوق الأمريكي ودوره الحاسم في هزيمة النازية، ثم الدور الأمريكي الأساسي في
قيادة ما يطلق عليه في الغرب العالم الحر لمواجهة الاتحاد السوفيتي العدو الجديد.
فكان لزاما لدى الولايات المتحدة أن تصوغ تحركا تضع فيه بريطانيا في حجمها الحقيقي،
وتنتزع منها أحد المفاصل الاستراتيجية وأدوات هيمنتها، لتثبت لها أن أصبحت بالفعل
قوة عجوز ويجب عليها افساح النظام الدولي للقوى الصاعدة الفاعلة.
ووجدت أمريكا ضالتها في جمال عبد الناصر الزعيم الطموح والراغب في الصعود، فكان
السيناريو الذي ذكره مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم، وهو عميل المخابرات
الأمريكية والذي زار مصر ويعرف ناصر شخصيا، حيث تم استدعائه إلى مقر المخابرات
الأمريكية في واشنطن وجرى معه صياغة الأسلوب الأمثل للتعامل مع عبد الناصر.
جرى السيناريو على النحو التالي، كان الرئيس المصري قد تقدم بطلب إلى البنك الدولي
لتمويل انشاء مصر للسد العالي، فرفضت امريكا الطلب المصري ومن المعروف أن الولايات
المتحدة هي التي تسيطر على هذا البنك، فأعلن الرئيس المصري عبد الناصر تأميم شركة
قناة السويس بحجة استخدام عائدها لتمويل بناء السد، فاعتبرت بريطانيا أن هذا مساسا
بهيبتها العالمية وتحكمها في المسار الذي يتحكم في النسبة الأكبر من التجارة
العالمية وقتها، فأصدرت قرارا بغزو مصر متحالفة مع فرنسا وإسرائيل، واحتل التحالف
بالفعل سيناء ومدن القناة.
وبعد أن وصلت انجلترا الى بعد ما يقرب من مائة كيلو متر من القاهرة، وقعت في المأزق
هل تكرر سيناريو ١٨٨٢ والثورة العرابية وتحتل مصر من جديد، ولكن الزمن تغير فوقتها
كانت بريطانيا هي القوة الأكبر في العالم، وكان رأس النظام في مصر مواليا لها
(الخديوي سعيد)، وأيضا الدولة العثمانية والتي كانت تتولى السيطرة على مصر اسميا،
سحبت تأييدها لعرابي بل اعتبره الخليفة العثماني عاصيا، أما في عام ٥٦ فالظروف
مختلفة، والنظام العالمي قد تغير، وأصبح يطلق على بريطانيا القوة الكبرى التي غابت
عنها الشمس، فالنظام المصري الموجود بالقاهرة ليس مواليا لها، كما انها تجابه
الاستنزاف من المقاومة الشعبية المصرية بعد أن انهارت القوة النظامية كالعادة
(الجيش المصري).
وهنا بدا الطلب الأمريكي لها بالانسحاب بمثابة القشة التي تنقذها، لتعلن أمريكا
نفسها رسميا زعيمة للغرب.
وثمة مثال آخر يتعلق ليس باستدراج الولايات المتحدة هذه المرة، ولكن استغلال أمريكا
الفرصة والايقاع بالاتحاد السوفيتي الذي كان المنافس الوحيد للأمريكان على الزعامة
العالمية.
فقبل أكثر من أربعين سنة تعرضت أفغانستان لغزو سوفيتي في عام 1979 استمر لمدة عشر
سنوات، انسحبت بعدها القوات السوفيتية بعد أن كلفت الحرب الاتحاد السوفيتي 50 مليار
دولار (وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت)، وبعد أن تكبد الجيش السوفيتي خمسة عشرة ألف
قتيل وخمسة وثلاثين ألف جريح.
وجدت أمريكا حينها الفرصة سانحة لإسقاط الاتحاد السوفيتي، فقرر الكونغرس سنة 1982
تبني الجهاد الأفغاني وركوب موجته، وقامت الأجهزة الأمريكية بعملية تعبئة ضخمة
للعالم الإسلامي عن طريق الأنظمة السياسية، ليتدفق راغبي الجهاد والاستشهاد، وتلقى
الأفغان يومها دعماً عسكرياً كبيراً من الأميركيين والأنظمة الموالية لها، حيث لم
تتردد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في تسليح وتمويل المقاتلين بأفغانستان
بشكل سري، حتى أنها لم تتردد أي الولايات المتحدة الأميركية في إرسال صواريخ ستينغر
المضادة للطائرات للمقاتلين الأفغان مساهمةً بذلك في قلب موازين الحرب.
وخلال فترة الثمانينيات، استقبل الرئيس الأميركي رونالد ريجان أكثر من مرة قادة
المقاومة الأفغانية بالبيت الأبيض وحيّا قتالهم ضد الاتحاد السوفيتي واصفاً إياهم
بالمقاتلين من أجل الحرية، ومؤكداً على ضرورة خروج الجيش السوفيتي لحل الخلاف
بأفغانستان.
وفي النهاية انسحب الجيش السوفيتي بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها، وما لبث أن
انهار بعدها بشهور وتتفكك وحداته، وحُل حلف وارسو وأُزيل جدار برلين بين
الألمانيـتـيـن.
وسرعان ما استقلت الجمهوريات المتعددة عن روسيا وسقطت الأنظمة الشيوعية في دول
أوروبا الشرقية تباعا كأحجار الدومينو ليتم الإعلان عما أسماه نيكسون في كتابه
الشهير (نصـر بـلا حرب).
هكذا تصوغ القوى العظمى استراتيجيتها لتغيير موازين القوى في العالم.
ولكن ألم يكن بوتين يعرف ويدرك ألاعيب الكبار تلك؟ فلماذا يغامر بتلك الحرب؟
وضع بوتين لروسيا عدة سيناريوهات لإنهاء الحرب في أوكرانيا ظهرت في تصريحات ومواقف،
وكان من بينها هو دعوة الجيش الأوكراني لاستلام السلطة، بديلا عن الرئيس الأوكراني
الموالي للغرب في نظر الروس، وهذا الخيار يمكن روسيا من سحب الجزء الأكبر من قواتها
بعد تأمين أوكرانيا وتطهيرها من النفوذ الغرب، وبذلك تتجنب روسيا سيناريو
الاستنزاف.
ولكن هذا السيناريو يواجه صعوبة أي تنصيب حكومة موالية لها، خاصة أن النظام الذي
يحكم أوكرانيا هو نظام منتخب، والأسواء في هذا السيناريو بالنسبة للروس هو نجاح
النظام الحالي في الاختباء وتنظيم صفوفه، والقيام بحرب عصابات مدعومة من الغرب خاصة
من الدول المجاورة، وامداد المقاومة الأوكرانية بالسلاح والمعلومات.
ولكن نعود ونكرر هل مثل هذه الحسابات غائبة عن بوتين؟
بالطبع ليست غائبة، اذن ثمة عامل آخر يدفع بوتين الى الحرب في أوكرانيا وتوريطه
فيها بالرغم من ادراكه لسيناريوهات الاستدراج ومن ثم الهزيمة، وهو العامل الذي يجعل
الطغاة لا يدركون ما يقدمون عليه، يدفعهم الشعور بالعظمة وأنهم كائنات فائقة القوة
لا يضاهي أحد ذكاءهم وخبرتهم.
كانت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل قد شككت في مدى عقلانية الرئيس
الروسي عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم، وبدأ الانفصاليون الموالون لها هجوما في
شرق أوكرانيا عام 2014، وبحسب تصريحات نقلتها عنها الصحافة الأمريكية يومها، قالت
ميركل إن بوتين في عالم آخر، كما أكد على هذا المعنى رئيس الوزراء الهولندي مارك
روته، حين وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه مصاب بجنون العظمة.
ويقول رئيس تحرير مجلة (فيلوسوفي ماجازين) ميشال إلتشانينوف إن بوتين يعاني من شكل
من أشكال الانفصال عن الواقع باسم أيديولوجيته التي يمكن وصفها بأنها ارتيابيّة،
وأضاف قلنا دائما إنه قائد براغماتي، ولكن هل سيضحي ببراغماتيته باسم أيديولوجيته؟
هذا ممكن.
بينما تصف صحيفة ذا تايم البريطانية تعامل بوتين مع الوضع بأنه بمزيج من الثقة
الزائدة وجنون العظمة والحقد.
وبالرغم من كل هذه المعطيات فإن سيناريو نهاية الحرب المنتظر سواء في الشرق والغرب،
هو أن ترضخ روسيا في النهاية لوقف تمددها الاستراتيجي في مناطق النفوذ الأمريكية في
العالم خاصة في سوريا وليبيا وغيرهما، نظير أن يقف حزب الناتو تمدده في أوكرانيا
وجورجيا.