أوتيت عائشة رضي الله تعالى عنها ما أوتيت من العلم والحفظ والفقه؛ توفيقا من الله تعالى لها، وبما وهبها من حافظة قوية، وفهم ثاقب، ورأي صائب، وحرص على الحفظ والفهم والفقه، وأكرمها الله تعالى بأن الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندها
الحمد لله العليم الحكيم؛
﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾
[الرحمن: 2 - 4] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له؛ فضل البشر بعضهم على بعض بالإيمان والعمل الصالح، فلا تفاضل عنده
سبحانه إلا بالتقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
[الحجرات: 13]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى نبيا لهذه الأمة،
وشهيدا على الناس كافة، واصطفى له خير الأصحاب، واختار له أفضل الزوجات، صلى الله
وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتزوا بدينكم؛ فإنه الحق من ربكم، وفاخروا بأسلافكم؛
فإن أمتكم أفضل الأمم، وخيارها خيار الناس ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
أيها الناس:
من تكريم الله تعالى لأهل الإسلام أن خصهم بخاتم أنبيائه عليه الصلاة والسلام، وهيأ
له أصحابا وأزواجا نقلوا أقواله وأفعاله وكل أحواله؛ ليكون المسلم على بينة من
دينه، مقتفيا أثر نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعائشة رضي الله عنها زوج
النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين؛ هي أعلم نساء هذه الأمة وأفقهها وأحفظها
لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أطبق على ذلك من عاشوا زمنها، ونهلوا من
علمها، ورجعوا فيما أشكل عليهم إليها، من الصحابة والتابعين، والنقول عنهم في ذلك
كثيرة. قال أَبو مُوسَى الأشعري رضي الله عنه:
«مَا
أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا»
رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
وكان الإمام الزهري من
أفقه التابعين، وأكثرهم رواية للحديث، وقد روى مرسلا:
«لَوْ
جُمِعَ عِلْمُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فِيهِنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَانَ عَلِمُ عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْ عِلْمِهِنَّ»
رواه الطبراني.
وحين ترجم لها لإمام
الذهبي في سيره قال:
«أَفْقَهُ
نِسَاءِ الأُمَّةِ عَلَى الإِطْلاَقِ».
وقال أيضا:
«وَلاَ
أَعْلَمُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلاَ فِي
النِّسَاءِ مُطْلَقاً امْرَأَةً أَعْلَمَ مِنْهَا».
وعلمها رضي الله عنها كان
شاملا منوعا؛ فهي راوية للحديث، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفين
ومائتي حديث، وهي الرابعة في الأكثر رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي
هريرة وأنس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، لكنها انفردت عنهم برواية أحاديث لم
يشركها فيها أحد، ولولاها لما علمت، وهي الأحاديث المتعلقة بحياة النبي صلى الله
عليه وسلم الخاصة ومع أزواجه وفي بيته.
وكانت فقيهة فلم تكتف
بالحفظ حتى تفهم ما حفظت، وكانت عالمة بالفرائض وبشعر العرب، حدث بذلك خاصة طلابها،
وأكثر الناس أخذا عنها ابن أختها عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين، وهو من
الفقهاء السبعة، وهم في زمنهم كانوا أكبر علماء المدينة ، قال عروة عن خالته عائشة:
«مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِفَرِيضَةٍ وَلَا أَعْلَمَ بِفِقْهٍ وَلَا بِشِعْرٍ
مِنْ عَائِشَةَ».
وكانت تحفظ كثيرا من الشعر حتى نقل عنها أنها قالت:
«رَوَيْتُ
لِلَبِيدٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَذْكُرُهَا،
فَيَتَعَجَّبُ مِنْ فِقْهِهَا وَعِلْمِهَا، ثُمَّ يَقُوْلُ: مَا ظَنُّكُمْ بِأَدَبِ
النُّبُوَةِ».
وعلمها وحفظها وفقهها
أهلها للفتوى مع حضور الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم، حتى قال ابن أخيها القاسم
بن محمد وهو من أكثر الناس ملازمة لها، وأخذا للعلم عنها، وهو أيضا من الفقهاء
السبعة الكبار في المدينة زمن التابعين، قال رحمه الله تعالى:
«كَانَتْ
عَائِشَةُ قَدِ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَتْوَى فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى أَنْ مَاتَتْ يَرْحَمُهَا اللَّهُ، وَكُنْتُ
مُلَازِمًا لَهَا مَعَ بِرِّهَا بِي».
وروى ابن سعد بسنده عن محمود بن لبيد -وهو من صغار الصحابة أو من كبار التابعين-
أنه قال:
«كَانَ
أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم يَحْفَظْنَ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلّى
الله عليه وسلم كَثِيرًا، وَلَا مِثْلًا لِعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ
عَائِشَةُ تُفْتِي فِي عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، يَرْحَمُهَا
اللَّهُ، وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم
عُمَرُ وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ يُرْسِلَانِ إِلَيْهَا فَيَسْأَلَانِهَا عَنِ
السُّنَنِ».
ومن تلامذة عائشة الكبار
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو من كبار علماء التابعين، وقد أخذ عن عائشة علما
كثيرا، قَالَ رحمه الله تعالى:
«مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، وَلَا
أَفْقَهَ فِي رَأْيٍ إِنِ احْتِيجَ إِلَى رَأْيِهِ، وَلَا أَعْلَمَ بِآيَةٍ فِيمَا
نَزَلَتْ، وَلَا فَرِيضَةٍ مِنْ عَائِشَةَ».
وكان مسروق بن الأجدع من
أقرب الناس إلى عائشة، ومن أكثرهم أخذا للعلم عنها، حتى كانت تعده ابنا لها، وهو
تكنى بأبي عائشة من محبته لها، وقد سئل عن عائشة فقِيلَ لَهُ:
«هَلْ
كَانَتْ عَائِشَةُ تُحْسِنُ الْفَرَائِضَ؟ فَقَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْأَكَابِرَ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ».
وكانت مع علمها بالشريعة
عالمة بالأنساب وبتاريخ العرب، قال ابن أختها عروة:
«مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِفَرِيضَةٍ وَلَا
بِحَلَالٍ وَلَا بِحَرَامٍ وَلَا بِشِعْرٍ وَلَا بِحَدِيثِ الْعَرَبِ وَلَا
بِنَسَبٍ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا»
وهي مع ذلك عالمة بالطب
أيضا، قال لها ابن أختها عروةَ:
«يَا
أُمَّتَاهُ، لَا أَعْجَبُ مِنْ فَهْمِكِ، أَقُولُ: زَوْجَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ
بِالشِّعْرِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُولُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ مِنْ
أَعْلَمِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ كَيْفَ هُوَ؟
وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَتْ: أَيْ
عُرَيَّةُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْقَمُ
فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ
وَجْهٍ، فَتَنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ، فَمِنْ ثَمَّ».
ورغم ما حبا الله تعالى
عائشة رضي الله عنها من العلم والحفظ والفقه، حتى كانت بحرا من بحور العلم، وشامة
في نساء هذه الأمة لا تدانيها امرأة في العلم والفقه والحفظ؛ فإنها كانت متواضعة،
ولا تأنف إذا سئلت عما لا تعلم أن ترد الجواب على من يعلم، ومن ذلك ما جاء عَنْ
شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ:
«أَتَيْتُ
عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: عَلَيْكَ
بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَسَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ»
رواه مسلم.
ولعائشة رضي الله عنها
استدراكات على الصحابة استدركت عليهم مسائل صححتها لهم، وقد ألف فيها مصنفات من
كثرتها.
رضي الله تعالى عن أمنا
عائشة وأرضاها، وجمعنا بها في دار كرامته، ومستقر رحمته، إنه سميع مجيب..
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أيها المسلمون:
أوتيت عائشة رضي الله تعالى عنها ما أوتيت من العلم والحفظ والفقه؛ توفيقا من الله
تعالى لها، وبما وهبها من حافظة قوية، وفهم ثاقب، ورأي صائب، وحرص على الحفظ والفهم
والفقه، وأكرمها الله تعالى بأن الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو
عندها، ولما اختصم نساء النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة، وأرسلوا أم سلمة تحاجج
عنهن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:
«يَا
أُمَّ سَلَمَةَ لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ
عَلَيَّ الوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا»
رواه البخاري. فكانت تعلم الوحي فور نزوله، ومع ذلك فهي تسأل النبي صلى الله عليه
وسلم عما أشكل عليها، كما روى مسروق بن الأجدع قَالَ:
«كُنْتُ
عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَ: قُلْتُ أَلَيْسَ اللهُ يَقُولُ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ [التكوير: 23] ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾
[النجم: 13] قَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَاكِ جِبْرِيلُ، لَمْ
يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، رَآهُ
مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»
رواه أحمد واللفظ له ورواه مسلم بنحوه.
وروى التابعي الجليل عبد
الله ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها:
«كَانَتْ
لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ،
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حُوسِبَ
عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ
يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: 8] قَالَتْ: فَقَالَ: إِنَّمَا
ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَكِنْ: مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ»
رواه البخاري.
وبعد أيها الإخوة:
فهذه أجزاء من السيرة العلمية لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأخبارها في العلم
والمعرفة والفقه كثيرة. وهي قدوة لكل امرأة مسلمة أعطيت حب العلم والمعرفة، أن
تتخلق بأخلاق عائشة، وأن تدرس سيرتها، وأن تقتدي بها في عفتها وحجابها وسترها؛ فإنه
على الرغم من أن عددا من الصحابة والتابعين كانوا طلابا لها؛ فإنها كانت تدرسهم
وتسمع منهم وتفتيهم من وراء حجاب، كما جاء عن مسروق أنه سألها مسألة، قَالَ:
«فَسَمِعْتُ
تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ»
ثم أجابته، رواه البخاري. وقالت عائشة لعروة:
«أَلَا
يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ»
رواه الشيخان.
وصلوا وسلموا على نبيكم...