تمتلئ وسائل الاعلام الغربية ومراكز البحث الأمريكية بالهجوم على الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، لأنه يناصر القضايا الإسلامية وينظر الى الغرب بمنظور ديني حسب ما عبرت عنه وما قالته وسائل الاعلام الغربي، حتى أن الرئيس الفرنسي ماكرون اتهم أردوغان صراحة بأنه يت
"أنا كاثوليكي متطرف أؤمن بالمسيحية وهناك بلد مسيحي مثل روسيا من المهم أن تكون
إلى جانبنا"
هذا جزء من تصريحات قائد البحرية الألمانية كاي آخيم شونباخ خلال اجتماع في معهد
الأبحاث والتحليلات الدفاعية في دلهي بالهند عقد الأسبوع الماضي.
وأضاف القائد الألماني: هل تريد روسيا حقًا قطعة صغيرة من الأراضي الأوكرانية؟ أو
غزو البلاد، لا هذا هراء.. ربما يمارس بوتين ضغوطًا، إنه يعلم أنه يستطيع فعل ذلك
ويقسم الاتحاد الأوروبي.. ولكن ما يريده حقا هو مستوى عال من الاحترام.
وقال: أنا كاثوليكي روماني متطرف، أؤمن بالله، وأؤمن بالمسيحية، وهناك بلد مسيحي
(في إشارة إلى روسيا) من المهم أن يكون إلى جانبنا، .... نحن والهند بحاجة إلى
روسيا جانبنا ضد الصين.
وبعد هذه التصريحات انهالت الانتقادات في أوساط الساسة الغربيين سواء في أمريكا أو
أوروبا، منتقدة ذلك الكلام الذي يصدر عن قائد عسكري أوروبي كبير، حيث انتهت تلك
الانتقادات الحادة الى اعلان القائد الألماني اعتذاره وتراجعه، وبعدها تطور الأمر
الى تقديم استقالته.
ولكن هل تلك الانتقادات الموجهة لكلام القائد الألماني تلك المتعلقة بالدين؟ وضرورة
وقوف الغرب المسيحي مع روسيا المسيحية، حتى على اختلاف المذاهب المسيحية حيث ان
روسيا تعتنق المذهب الأرثوذكسي بينما تعتنق أوروبا وأمريكا الكاثوليكية
والبروتستانتية.
أم أن النقد واللوم الذي تم توجيهه اليه يتعلق بأمور السياسة والتوازنات الدولية،
والتنافس بين القوى الكبرى؟
من خلال تتبعي لردود الأفعال الغاضبة من هذه التصريحات وجدت الآتي:
رد الفعل الغربي عبرت عنه أوكرانيا وخاصة أنها الدولة المعنية بالأزمة التي تجري
الآن بين الغرب وروسيا، فقد جاء في مذكرة سلمتها الخارجية الأوكرانية للسفيرة
الألمانية لدى أوكرانيا، ان هذه التصريحات لا يمكن قبولها لأن كلام قائد البحرية
الألمانية ادعى ان القرم لن تعود أبدًا إلى أوكرانيا التي لن تفي بمعايير عضوية
الناتو حسب زعم القائد الألماني، بالإضافة إلى ذلك اشتكت أوكرانيا مرة أخرى من أن
ألمانيا لا تريد توريد أي أسلحة دفاعية إلى البلاد.
ما معنى هذا؟
معناه أن الغرب ينتقد الجانب السياسي لهذه التصريحات، أما بعدها الديني فإن الغرب
صمت عنها، مما يعني أنه لا يرى فيها بأسا، بينما صدعنا وملأ الدنيا ضجيجا ويحدثنا
عن التطرف الإسلامي إذا جاء الدين في تصريحات أحد الساسة المسلمين.
وعلى سبيل المثال تمتلئ وسائل الاعلام الغربية ومراكز البحث الأمريكية بالهجوم على
الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، لأنه يناصر القضايا الإسلامية وينظر الى الغرب
بمنظور ديني حسب ما عبرت عنه وما قالته وسائل الاعلام الغربي، حتى أن الرئيس
الفرنسي ماكرون اتهم أردوغان صراحة بأنه يتبع سياسات اسلامية قومية متطرفة.
وهنا يجيء السؤال الهام وهو ما حجم تأثير الدين في السياسة الغربية؟
يأتي تأثير الدين في السياسة عموما من خلال مستويين:
الأول تأثيره كعقيدة يؤمن بها الفرد أو تعتنقها الجماعة وعليها تؤسس حياتها كلها
وتقيمها على أساس مناهج الدين وقوانينه، ويظهر ذلك جليا في الإسلام لأنه ليس عقيدة
فقط ولكنه منهاج للحياة كذلك يقيم بها المسلم حياته كلها، ويؤسس عليها امام
المسلمين دولته ويكون نشر الدين وإقامة شريعته يستمد منها شرعيته، وقد ظل المسلمون
سائدون الدنيا بتلك الحقيقة، وعندما غابت عنهم تداعت عليهم الأمم.
أما في الغرب فقد ظلت الكنيسة بمفاهيمها المنحرفة عن الدين الصحيح سائدة في أوروبا
طيلة العصور الوسطى، وعندما بدأت أوروبا تنفض عنها غبار التخلف، وجدت الدين المسيحي
كما نقلتها لهم الكنيسة هو سبب تخلفهم فنبذوه وأبعدوه عن حياتهم وبالتالي سياستهم.
ولكن في العقود الأخيرة وبالذات بعد انتهاء الحرب الباردة، بدأت تظهر دعاوى لإعادة
الاعتبار للدين في الحياة العامة الغربية وبالتالي في السياسة، وظهرت أحزاب وجماعات
ضغط تؤسس لهذه الحقيقة وازدادت سطوتها على السياسة الغربية، وفي الولايات المتحدة
أكثر منها في أوروبا، لأن أمريكا ظهرت للوجود أساسا على يد البروتستانت الفارين من
الاضطهاد الكاثوليكي في أوروبا.
اتخذ الدين في السياسة الغربية أشكالا عديدة:
فيبرز دوره في التعبئة السياسية، فعندما حدثت هجمات سبتمبر عام 2001، عبأ الرئيس
الأمريكي بوش الابن الشعب وراءه، حينما ذكر بدء ما سماها الحملة الصليبية ضد
الإرهاب، وقتها توقع كثيرون من المتخصصين في الشئون الدولية قرب بزوغ عصر يتدخل فيه
الدين في السياسة الدولية إلى حدود قصوى. وقد حدث.
ورأينا كذلك جميعا أنه في الانتخابات الأمريكية والتي جرت عام 2016 والتي فاز بها
ترامب، كيف عبأت الجماعات الأصولية وحشدت لصالح ترامب حتى أنه دشنت حملة طرق
الأبواب فكانوا يذهبون الى منازل الأمريكان في الولايات المختلفة ويطرقون أبوابها
ويقنعون ساكنيها بضرورة التصويت لترامب، لمصلحة المسيحية والتي ستتلاشى إذا جاءت
هيلاري كلينتون لسدة الرئاسة الأمريكية، وكان ذلك هو العامل الأبرز في فوز ترامب
حينها.
كما جرى استخدام الدين كحائط صد دفاعي في مواجهة نفاذ القوى الخارجية، مثلما حدث في
فرنسا عندما صرح رئيسها الأسبق ميتران، إن تركيا لن تنضم الى الاتحاد الأوروبي لأنه
نادي مسيحي، وكما حدث أيضا في حرب البوسنة والهرسك في أوائل التسعينات، وكيف تحولت
إلى نزاع ديني مذهبي في أوروبا، كشف فيه الوجه الديني للقارة العجوز والتي تحاول أن
تظهر به كحامي للحرية الدينية، وناشرة العلمانية وتنحية الدين من السياسة، فاذا
بالجزء الكاثوليكي من القارة ينحاز للكروات في مواجهة الصرب الارثوذكس عندما حدثت
المواجهات بينهم، ثم تتكتل القارة كلها بكاثوليكها وأرثوذكسيها عند المواجهة مع
المسلمين للحيلولة أن يحكم المسلمون أي قطعة أرض أوروبية.
وفي نفس الوقت استخدم الدين كأداة للتغييرات السياسية، وتحقيق التوازن السياسي بين
الجماعات المختلفة، مثل ما يحدث الآن في أوروبا إزاء موجات الهجرة القادمة لأوروبا،
وخوف الساسة هناك من ضياع الهوية الأوروبية في العقود القادمة، فعمدوا الى احياء
عناصر هذه الهوية سواء كانت دينية أو قومية، فأحيوا الروح القومية الأوروبية وتفوق
الجنس الأبيض، وفي نفس الوقت شجعوا الثقافة الدينية المسيحية كحاجز صد أمام الإسلام
المكتسح في هذه الأراضي.
ومن ناحية أخرى يشجع الساسة والمفكرون في أوروبا وأمريكا الدين كإنقاذ للمجتمعات
الغربية من التفسخ والانحلال، وفي كتابه (موت الغرب) يرصد السياسي والمفكر الأمريكي
جيمس بيرنهام، أن نصف كل الزواجات تنتهي بالطلاق، والعلاقات هي ما تدور الحياة
حولها والحب الذي لا يجرؤ أحد على أن ينطق باسمه لا يغلق فمه، ويقول عالم السكان
البلجيكي رون لسثايغي إن انهيار الزواج والخصوبة الزوجية يعود إلى تحول في نظام
تشكيل الأفكار الغربية، فابتعد منذ أمد طويل عن القيم التي أكدتها النصرانية مثل
التضحية، والإيثار، وقدسية الالتزام ـ وتوجه نحو فردية علمانية محاربة تركزت على
الذات.
كما ارتفعت معدلات الانتحار في ألمانيا لدرجة بلغ فيها متوسط عدد محاولات الانتحار
في أنحاء البلاد محاولةً واحدة كل 4 دقائق؛ حيث إن 60 % من الشباب فكروا في محاولة
الانتحار، ومتوسط ضحايا الانتحار قتيل واحد كل 47 دقيقة.
وغيرها الكثير من مظاهر التخلل الأخلاقي والاجتماعي، والذي يحاول ساسة الغرب التصدي
له بتشجيع الجماعات الدينية والتي أصبح لها نفوذ كبير بسبب تلك المشاكل الاجتماعية
وتحولت الى جماعات ضغط فاعلة في الحياة السياسية الغربية.
ولكن مع عودة الدين الى السياسات الغربية سواء كانت أوروبية أو أمريكية، يتصاعد في
الوقت نفسه دعوات نخب ليبرالية داخل المجتمعات الاسلامية تدعو الى اقصاء الدين عن
حياة وسياسات المسلمين، باعتباره رمزا للتخلف، وضرورة من ضرورات العصر، وشرطا
للتقدم ومسايرة الغرب.... فهل يعي المسلمون خطورة تلك الدعوات، وأن تمسكهم بالإسلام
كان دائما سبب تقدمهم وتصدرهم في قرون خلت؟