لا راحة إلا في الرضا بما قسم الله تعالى للمرأة والرجل على حد سواء، فترضى المرأة بخلقتها، ويرضى الرجل بخلقته
الحمد لله العليم الحكيم؛
شرع الشرائع لمصالح العباد، وفصّل لهم الحلال والحرام، ونهاهم عن الإثم والعدوان،
نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له؛ خلق الخلق ودبرهم، وهو أعلم بما يصلح لهم ويصلحهم ﴿أَلَا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، تركها على
بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، وعظموا أمره ونهيه؛ فإن الجزاء يوم
القيامة على الأعمال ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا
يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 8- 9].
أيها الناس:
السنة النبوية وحي يجب الأخذ به كالقرآن الكريم؛ فما ثبت منها فلا يسع مؤمنا إلا
العمل به، وإلا كان من الزائغين، والله تعالى يقول ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، وقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَلَا
إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ
وَمِثْلَهُ مَعَهُ»
رواه أحمد.
وهذا حديث عظيم من أخبار
النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل، يجسد طبيعة المرأة وما جبلت عليه من حب
الزينة ولفت الأنظار إليها، وفتنة الرجال بها وبزينتها. فروى أبو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«كَانَتِ
امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَصِيرَةٌ تَمْشِي مَعَ امْرَأَتَيْنِ
طَوِيلَتَيْنِ، فَاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ، وَخَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ
مُغْلَقٌ مُطْبَقٌ، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكًا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ، فَمَرَّتْ
بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ، فَلَمْ يَعْرِفُوهَا، فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا»
رواه مسلم.
فلما كانت المرأة قصيرة
طولت نفسها بخشب في رجليها لتوازي قريناتها، وزادت عليهن باتخاذ خاتم يفوح مسكا،
تحركه إذا مرت بالرجال؛ للفت أنظارهم إليها. كما جاء به مصرحا في رواية أحمد:
«وَاتَّخَذَتْ
خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَحَشَتْ تَحْتَ فَصِّهِ أَطْيَبَ الطِّيبِ الْمِسْكَ،
فَكَانَتْ إِذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ فَنَفَحَ رِيحَهُ»
وفي رواية ابن حبان:
«وَصَاغَتْ
خَاتَمًا فَحَشَتْهُ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالْمَسْجِدِ أَوْ
بِالْمَلَأِ قَالَتْ بِهِ، فَفَتَحَتْهُ فَفَاحَ رِيحُهُ».
وفي رواية أخرى لأحمد وابن
حبان: افتتح النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة العجيبة بالتحذير من الفتنة
بالدنيا وبالنساء فقال:
«إِنَّ
الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَاتَّقُوهَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ
نِسْوَةً ثَلَاثة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...».
وفي رواية لابن خزيمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«خَطَبَ
خُطْبَةً، فَأَطَالَهَا، وَذَكَرَ فِيهَا أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،
فَذَكَرَ: أَنَّ أَوَّلَ مَا هَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّ امْرَأَةَ
الْفَقِيرِ كَانَتْ تُكَلِّفُهُ مِنَ الثِّيَابِ أَوِ الصِّبْغِ، أَوْ قَالَ:
مِنَ الصِّيغَةِ مَا تُكَلِّفُ امْرَأَةُ الْغَنِيَّ...».
وهذا قد وقع في هذه الأمة، ويزداد وقوعه.
والنبي صلى الله عليه وسلم
حين حدّث بهذه الواقعة التي وقعت في بني إسرائيل فلعلمه بأن أمته يقع فيها من
نسائها مثل ما وقع لنساء بني إسرائيل؛ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
«لَتَتْبَعُنَّ
سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ،
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ»
متفق عليه.
ولما كانت الفتنة بالدنيا
وبالنساء عظيمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من ذلك؛ لكثرة وقوعها في بني
إسرائيل، وفي أمته أيضا تبعا لبني إسرائيل؛ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
«إِنَّ
الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ
فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»
رواه مسلم.
ولعظيم الفتنة بالنساء
جاءت الشريعة بأحكام تقلل فرص فتنة الرجال بها، وتضيق مسالكها، وتسد منافذها، منها:
منع اختلاطها بالرجال ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب:
53]، ومنها: منع خلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها، قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لاَ
يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»
رواه الشيخان، ومنها: منع نظر الرجال إلى النساء والعكس؛ لقول الله تعالى ﴿قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 30- 31]،
«ومَا
ظَهَرَ مِنْ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ الظَّاهِرَةُ»،
ومنها: منع سفر المرأة بلا محرم؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا
يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا
رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا»
رواه الشيخان. ومنها: منع المرأة من الخضوع بالقول وهو ليونته وغنجه؛ لأنه يعمل
عمله في قلوب الرجال ويؤثر فيهم ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32]،
ومنها: منع النساء من إسماع الرجال صوت ما يلبسن من الحلي ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ [النور: 31]، قال
قَتَادَة:
«كَانَت
الْمَرْأَة تضرب برجلها ليسمع قعقعة الخلخال فِيهَا، فَنهى عَن ذَلِك».
ومنها: أمر النساء بالقرار في البيوت، فلا يخرجن إلا لحاجة، ونهيهن عن التبرج ﴿وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
[الأحزاب: 33]، ومنها: منع المرأة من التعطر حال خروجها من المنزل ولو إلى المسجد
فكيف بغيره؟ كما خاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء فقال:
«إِذَا
شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا»
رواه مسلم. واشتد نهيه عن ذلك فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَيُّمَا
امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ
زَانِيَةٌ»
رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه.
والمرأة تحب لفت أنظار
الرجال إليها بجمالها أو بلباسها أو بصوتها أو بريح طيبها، تستميل بذلك قلوبهم،
وتظهر ضعفهم أمامها؛ ولذا لما أرادت المرأة القصيرة لفت الانتباه إليها طولت نفسها
بخشب في رجليها، واتخذت خاتما حشت فصه مسكا يفوح، تحركه إذا مرت بالرجال؛ ليضعفوا
أمامها. وهذا من طبع المرأة إلا أن يمنعها دينها وخلقها، أو خوفها من أوليائها. وما
وقع من نساء بني إسرائيل سيقع في هذه الأمة، وما وقع من رجالهم من الفتنة بالنساء
سيقع في هذه الأمة؛ ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفتنة العظيمة التي
تذهب بدين الرجل والمرأة على حد سواء، وتفتح أبواب الشر والفساد، وتجر الشؤم
والبلاء على كل أمة تتساهل فيه ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾
[النساء: 27].
بارك الله لي ولكم في
القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
[آل عمران: 131- 132].
أيها المسلمون:
المرأة في سعيها وراء الجمال ولفت الأنظار إليها تنفق مالا عظيما، وربما كلفت وليها
أو زوجها ما لا يطيق؛ لأجل الزينة، وكذلك وقع في بني إسرائيل. ووقع مثله من نساء
هذه الأمة، ولا يزال يقع، حتى توسع النساء في الزينة توسعا كبيرا وصل إلى حد تغيير
خلق الله تعالى عبر عمليات التجميل، وهذا من كيد الشيطان وتزيينه؛ فقد حكى الله
تعالى عنه أنه قال ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾
[النساء: 119]، وعقّب الله تعالى على ذلك محذرا عباده من كيد الشيطان فقال سبحانه ﴿وَمَنْ
يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا
مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾
[النساء: 119 - 121]، وفي الحديث
«لَعَنَ
اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ
لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»
متفق عليه.
وقد وجدت دوافع لزينة
النساء ما كانت موجودة من قبل، كظهور بعضهن في وسائل التواصل الجماعي، ولفت الأنظار
إليهن، وتكثير متابعيهن، وجني الأموال الطائلة بأجسادهن واستعراضهن، وتنافسهن في
تغيير خلقتهن؛ طلبا للحسن، وتكثيرا للمشاهدين، في لهاث لا يتوقف، وسباق لا نهاية
له. حتى تسقط إحداهن سقطة لا إفاقة منها. وغدا بعضهن من كثرة عمليات التجميل
والتغيير في أشكالهن كمسوخ بشرية تمشي على الأرض. فما رضين بخلق الله تعالى لهن،
فعوقبن بمسخ أنفسهن بأموالهن وإرادتهن، وعذاب الآخرة أشد وأنكى.
وكثرت عيادات التجميل،
وعظمت أرباحها بسبب عدم رضا كثير من النساء عن صورهن، ولحقهن بعض الرجال في هذا
الإثم. ولا راحة إلا في الرضا بما قسم الله تعالى للمرأة والرجل على حد سواء، فترضى
المرأة بخلقتها، ويرضى الرجل بخلقته ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾
[غافر: 64]، وترضى المرأة بما قسم الله تعالى لها من زوج وولد، ويرضى الرجل بما قسم
الله تعالى له من زوج وولد، ويُشغل الجميع بصلاح قلوبهم عن العبث في أشكالهم،
وبتنمية عقولهم عن تحسين صورهم؛ فإن الله تعالى لا ينظر إلى صور الناس وأشكالهم،
ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم، ومن رضي عن الله تعالى رضي الله عنه وأرضاه، ومن
سخط على الله تعالى سخط عليه وأسخطه، ولن يجد الرضا مهما عمل.
وصلوا وسلموا على نبيكم...