مما لا شك فيه أن هناك تنافس قوي بين إيران وإسرائيل على النفوذ والهيمنة على المنطقة بعد عقود طويلة من الصداقة والتحالف السري بينهما
يبدو أن القصف الإسرائيلي على سوريا لا يتوقف، ففي فجر الثلاثاء الماضي نقلت وكالة
الأنباء السورية الرسمية (سانا) عن مصدر عسكري قوله، إن العدو الإسرائيلي نفذ فجر
اليوم عدوانا جويا برشقات من الصواريخ من عمق البحر المتوسط غرب مدينة اللاذقية
مستهدفا ساحة الحاويات في الميناء التجاري بالمدينة، وأشارت الوكالة إلى أن القصف
أدى إلى حدوث أضرار مادية كبيرة واندلاع حرائق يجري العمل على إخمادها.
وليست هذه المرة الأولى، فخلال الأعوام الماضية شنت إسرائيل مئات الضربات الجوية في
سوريا، مستهدفة مواقع للجيش السوري وأهدافا إيرانية وأخرى لحزب الله اللبناني، حتى
أن ميناء اللاذقية الذي تم قصفه قد استهدف قبل عدة أسابيع، وهو أيضا الهجوم العاشر
المنسوب لإسرائيل في سوريا خلال شهر ونصف.
والسؤال الأهم في هذا الصدد هل هذه الهجمات لها علاقة بحرب التصريحات المتبادلة
والتوتر المتصاعد بين إيران والكيان الصهيوني؟
هل هناك تصفية حسابات بين القوتين الإقليميتين في الشرق الأوسط على الأرض السورية؟
ما قدمته إسرائيل من تبرير الضربة والذي أذاعته قناة كان الرسمية الإسرائيلية، من
إن الضربة الجوية استهدفت شحنة أسلحة إيرانية متطورة مهربة من إيران عن طريق البحر
ومخزنة في ساحة الحاويات بالميناء، يعطي انطباعا على أن هدف الضربة هي إيران.
ومما لا شك فيه أن هناك تنافس قوي بين إيران وإسرائيل على النفوذ والهيمنة على
المنطقة بعد عقود طويلة من الصداقة والتحالف السري بينهما.
فمتى بدأ هذا التحالف ولماذا انهار؟
الإجابة على هذين السؤالين سيكشفان عن الغموض حول الأسباب الحقيقية للضربات
الإسرائيلية المتلاحقة والدورية على الأراضي السورية.
التحالف الصهيوني الفارسي
في عام 1950 اعترفت إيران بإسرائيل في الساحة الدولية وأنشأت سفارتها هناك، والتي
كان قد مضى عامان فقط على اعلان الكيان الصهيوني تأسيسه فوق أرض فلسطين، وفي عام
1958 توطدت العلاقة بين البلدين في ظل حكم الشاه، لكن دون علاقات دبلوماسية كاملة
جرّاء الضغط العربي والباكستاني، وفي عام 1960 صرّح الشاه أن السفارة في تل أبيب
أغلقت بسبب شحّ الميزانية فقط، ولكن النظام الإيراني وقتها استمرت علاقاته مع
إسرائيل، التي اتخذت أشكالا أخرى مع اندلاع الثورة الخمينية عام 1979.
لم تأت علاقات إسرائيل بإيران صدفة، ولكنها جاءت وفق استراتيجية إسرائيلية صاغها
رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها ديفيد بن جوريون والذي تولى رئاسة وزراء إسرائيل من
مايو 1948 حتى يناير 1954؛ ومن نوفمبر 1955 حتى يونيو 1963.
عرفت تلك الاستراتيجية بنظرية شد الأطراف، والتي تتطلب وفقا للرؤية الاسرائيلية
علاقات قوية وتنسيق في الأدوار مع الدول المحيطة بالوطن العربي، كإيران وتركيا
وأثيوبيا لتشكل وظيفيا كمصادر ضغط وتهديد مباشر على العواصم العربية.
فهذه الاستراتيجية عملت على التعاون مع الدول القوية في المحيط العربي، مستغلة اما
الحالة المذهبية الشيعية في إيران ونظرتها الحاقدة لدول أهل السنة المجاورة، أو
الحالة الدينية المسيحية الاثيوبية وعداءها التقليدي مع محيطها المسلم الافريقي، أو
الحالة التركية في ذلك الوقت ونظرتها القومية المتعصبة ضد العرب وتحميلهم سبب
انهيار الدولة العثمانية وتآمرهم عليها.
بعد قيام الثورة الإيرانية وبالرغم من الشعارات المرفوعة من الموت لإسرائيل ورفع
شعارات تحرير القدس، الا أن العلاقات بين إسرائيل وإيران استمرت ولكنها اتخذت
أشكالا أخرى تقوم على العداء الظاهري والتعاون الخفي، لأن التحالف بين الدولتين
قائم على أساس استراتيجي مستمد من حقد صهيوني فارسي مشترك ضد العرب وأهل السنة، ولا
يتأثر بأنظمة الحكم في كل من إسرائيل وإيران، سواء هيمن على الحكم علمانيون أو
علماء دين في البلدين.
وبالرغم من محاولات ايران لإخفاء علاقاتها وتحالفها مع إسرائيل، الا أن وسائل
الاعلام الغربية قد كشفت عن كثير من خفايا العلاقة.
ففي مستهل عام 1980 توجه أحمد كاشاني الابن الأصغر لآية الله أبو القاسم الكاشاني
بزيارة لإسرائيل للتنسيق فيما بينهما حول مبيعات أسلحة إسرائيلية لإيران، علاوة على
ترسيخ سبل التعاون العسكري بينهما ضد البرنامج النووي العراقي.
وعندما قامت الحرب بين العراق وإيران في نفس السنة أي عام1980، عقد وزير خارجية
إسرائيل موشي ديان مؤتمرًا صحفيًا حث فيه الولايات المتحدة على نسيان الماضي ودعم
إيران في حربها ضد العراق، في دعم علني وواضح وصريح.
واستمرار لاستراتيجية إسرائيل في اعلان العلاقة وعدم إخفاءها، في مقابل الصمت
الإيراني وعدم النفي واستمرار السخرية من الشعوب الإسلامية بإصرار المسئولين
والمتظاهرين الإيرانيين على رفع شعارات الموت لإسرائيل، أكد ديفيد كيمحي المدير
العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية أن مصلحة إسرائيل تكمن في أن يكون الجيش
الإيراني قويًا للقضاء على العراق عدوهما المشترك، وأن الخميني إذا تمكن من تصدير
ثورته وزرع الاضطراب في الدول العربية فإن ذلك بالتأكيد سيخدم إسرائيل.
وتجلى التعاون الإسرائيلي الإيراني في تدمير الطائرات الإسرائيلية للبرنامج النووي
العراقي عام 1981، فقد ذكرت صحيفة الصنداي البريطانية وقتها إلى أن إسرائيل استعانت
بصور فوتوغرافية وخرائط إيرانية للمنشآت النووية العراقية، وأن أمر الهجوم على
المفاعل تمت مناقشته قبل شهر من العملية بين إسرائيل ومندوبون عن الخميني في فرنسا،
واطلع ممثلو إسرائيل على المحاولات الفاشلة التي قامت بها إيران في الثلاثين من
سبتمبر 1980م لتدمير المفاعل، ووافقت إيران على هبوط الطائرات الإسرائيلية في مطار
تبريز الايراني خلال رحلتها لتدمير المفاعل.
وتوالت الصفقات التسليحية بين إيران وإسرائيل في الثمانينات ابان الحرب الإيرانية
العراقية، وكانت إسرائيل هي الواسطة بين أمريكا وإيران للصلح بينهما وتجاوز أزمة
الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران، وبعدها تدفق السلاح الأمريكي على إيران بعد
مروره عبر إسرائيل.
وقد أثارت تلك الصفقات مع إسرائيل غضب المعارضة الإيرانية، وانتهزتها فرصة لتصفية
حساباتها مع نظام الخميني، حيث هاجم زعيم منظمة مجاهدي الشعب مسعود رجوي التعاون
التسليحي بين إيران وإسرائيل، وصرح بأن الخميني منافق يعادي إسرائيل في العلن
وينادي واقدساه، ولكنه في الخفاء يتعاون مع إسرائيل ويشتري منها السلاح.
وبلغ أوج التعاون الإسرائيلي الإيراني في لبنان، حين انسحبت إسرائيل من الجنوب
اللبناني بعد ضمان استبدال الوجود المسلح الفلسطيني في الجنوب، بالهيمنة الشيعية
الإيرانية ممثلة في حزب الله الذراع الإيراني في لبنان كما يقر بذلك صراحة حسن نصر
الله.
والمثير في هذه العلاقات الحميمية أنها بلغت آفاقا واسعة حتى قبل شهور قليلة من
الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في عام 2006، فقد كشفت صحيفة الحياة اللندنية
في عددها الصادر في الرابع والعشرين من أبريل من ذلك العام، نقلاً عن صحيفة يديعوت
أحرونوت الاسرائيلية أن ثلاثة مهندسين يهود عادوا إلى الكيان الصهيوني قبل نحو
أسبوع من نشر الخبر، قادمين من طهران تلبية لدعوة رسمية، للمساهمة في إعادة تأهيل
بنى تحتية دمرها زلزال قبل سنوات، وذكرت الصحيفة أن المهندسين الثلاثة أبدوا
سعادتهم وارتياحهم للاستقبال الحميمي الذي لاقوه من المسئولين والشعب الإيراني، بل
وأكدت الصحيفة أن استعانة إيران بالخبراء الصهاينة ممتدة منذ نحو عقد ونصف.
ولكن بعد ذلك تدهورت العلاقات بين البلدين وسادها التوتر والاضطراب...، لماذا؟
مع تراجع المشاريع العربية للاتحاد والتحرك كمنظومة استراتيجية واحدة، وصاحب هذا
تراجع أمريكي عن المنطقة لتحاول أن تتفرغ للعدو الأخطر في نظرها وهو النفوذ الصيني
في العالم الذي بات يزاحم أمريكا في تفردها بالنظام الدولي، أوجد ذلك فراغا في
المنطقة خاصة أن أمريكا تريد أن تترك مصالحها في الشرق الأوسط لحليف إقليمي تعتمد
عليه، هنا برز الخلاف بين المشروعين الإسرائيلي والإيراني ليتحول من تعاون الى
تنافس على الهيمنة في المنطقة.
وفي نفس الوقت فإن الدولتين تضعان حدودا لذلك التنافس بحيث لا يقضي نهائيا على
إمكانية تعاونهما إذا ظهر في الأفق من يهدد مصالحهما المشتركة، وتجلى ذلك أثناء
الثورة السورية.
ففي أعقاب الثورة السورية وتساقط المناطق والمدن السورية تباعا في أيدي الثوار
السوريين المسلحين، تدخلت إيران بثقلها لدعم حليفها ولكن عجزت عن إيقاف الثوار
واندحرت قوات حزب الله أمام قوات المقاومة السورية، وقد نقلت الصحافة الإسرائيلية
جوانب الرعب الذي أصاب قادة الكيان الصهيوني من تصور عجز القوات الشيعية عن التصدي
للثوار السوريين فنقلت صحيفة هآرتس الاسرائيلية، عن محافل استخبارية إسرائيلية
قولها إن المفاجأة تمثلت في نجاح قوات المعارضة السورية في دحر جنود النظام ومقاتلي
حزب الله دون أن تبذل جهودا كبيرة، منوهة إلى أن مظاهر الإعياء باتت واضحة على نظام
الأسد بشكل غير مسبوق.
وشددت المصادر الاستخبارية الإسرائيلية بحسب الصحيفة، على أن الدعم الإيراني
ومساندة قوات حزب الله العاملة إلى جانب نظام الأسد لم تكن كافية لتمكين النظام من
تأمين احتفاظه بالمناطق التي تعد ذخرًا استراتيجيًا لبقائه، وشددت المصادر على أن
إسرائيل ستكون منزعجة جدا من سيطرة الثوار على مطار دمشق، وذلك لتواجد مخازن ضخمة
من السلاح النوعي في محيطه، مشيرة إلى أن حصول الثوار على هذا السلاح سيمثل تهديدا
استراتيجيا للعمق الإسرائيلي.
يعني هذا الكلام أن إسرائيل غير خائفة من السيطرة الحالية لإيران وميليشياتها على
مطار دمشق، ولكنها تخشى من سيطرة الثوار.
وهذا يعطينا معلما هاما ومؤشرا واضحا على أن الخلافات الإسرائيلية الإيرانية، لها
حدود وهي ألا تتجاوز إيران دورها المرغوب فيه إسرائيليا، وهو أن تكون إيران بمثابة
أداة لدحر أي مشروع سني حقيقي يوحد العرب والمسلمين وينهض بهم لاستعادة دورهم
الإقليمي والعالمي.