أدركت حكومات إثيوبيا المتعاقبة ضعف الدولة المتزايد في مصر، فطورت خطابها تدريجيا، بدء من المطالبة بتقاسم عادل للمياه بزعم أن الاتفاقيات الدولية في هذا الشأن تم ابرامها في عصر الاستعمار، ثم تطور الأمر في خطوة أخرى بالإعلان عن الشروع في بناء السد كتصريحات لج
"هناك عناصر من أصحاب البشرة البيضاء انضموا إلى مسلحي التيغراي في القتال ضد
الحكومة"
هذا ما أعلنه رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد أثناء إحاطة قدمها لكبار المسؤولين
الحكوميين حول الأوضاع الجارية، واعتبر آبي أحمد أن ذلك يؤكد مشاركة عناصر أجنبية
في المعارك، دون ذكر أي تفاصيل أخرى.
هذه التلميحات الرسمية الاثيوبية تشير الى دور مصري محتمل في المعارك الدائرة داخل
إثيوبيا، بين قومية التيجراي المتمردة على حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد، والتي
حاولت تقليص نفوذ قومية التيجراي المهيمن على الحكم في إثيوبيا منذ عقود.
ولكن هل لمصر حقا دور فيما يجري في إثيوبيا؟ بمعنى هل يمكن أن تكون مصر داعمة لطرف
معين بشكل ما في إثيوبيا؟
أم أن الاتهامات الإثيوبية هي تصريحات موجهة للداخل الاثيوبي بالمقام الأول، وهدفها
الاستهلاك الإعلامي وشد أذر الموالين لحكومة آبي أحمد؟ أو إيجاد هدفا لتجميع
الإثيوبيين مرة أخرى في قضية مشتركة بينهم لا يختلف عليها إثيوبي؟
لذلك لكي نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة وتبين حقيقة أن لمصر دور في ما يجري من
حرب أهلية في الداخل الاثيوبي يجب علينا فهم السلوك المصري تجاه اثيوبيا في قضية
النيل عموما، ومشكلة سد النهضة بصفة خاصة.
مصر والنيل وسد النهضة
قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت قبل 24 قرنا مضت مقولته الشهيرة، مصر هبة النيل،
فالأرض المصرية القاحلة، والتي يغلب عليها الطابع الصحراوي، يخترقها نهر النيل من
الجنوب إلى الشمال، ليحول الوادي والدلتا إلى أضخم واحة طبيعية على سطح الكرة
الأرضية، فلولا هذا النهر ما تحولت تلك الصحاري إلى حضارة زراعية عريقة، ولم يبالغ
العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته (المجاعة في مصر القديمة) عندما أشار إلى أن
النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر.
ولذلك نظر حكام مصر منذ القدم الى النيل بمثابة الركيزة الأولى والأساسية للأمن
القومي المصري، فشرعوا في بناء السدود والمنشآت عليه لحماية مياهه من الضياع، كما
تنبهوا الى منابعه حيث تشير دلائل عديدة على أنهم اكتشفوا منابعه منذ العصور
الفرعونية السحيقة، وحرصوا على وجود نوع من الهيمنة على الأراضي الواقعة على امتداد
النهر من مصبه الى هذه المنابع.
ونتيجة للنزوع الى الهيمنة النابعة من مخاوف التحكم في مياه النيل، ساد نوع من
المنافسة والشكوك المتبادلة بين الإمبراطورية الاثيوبية القديمة، والتي امتدت
هيمنتها الى منابع النيل (وبالتحديد على النيل الأزرق والذي يمد نهر النيل الأسي
بما يوازي 80% من موارده المائية) وبين الحكومات التي تحكم مصر سواء كانت أجنبية أو
من المصريين أنفسهم.
ونظرا لقوة الدولة المصرية حتى وقت قريب لم تجرؤ أي سلطة أثيوبية على مجرد التفكير
في عمل مشروع على المنابع يتحكم في مياه النيل.
ولكن مع غروب قوة الدولة المصرية في خمسينات القرن الماضي، تعالت الأصوات داخل
أثيوبيا بضرورة التحكم في مياه النهر، ولا نعني بغروب قوة الدولة المصرية مجرد
تناقص قوتها المسلحة، ولكن نعني بها هيبة الدولة وتأثيرها وهذه تشترك فيها عناصر
متعددة، أهمها وجود نظام سياسي يكون له طموح إقليمي بزعامة تناسب إمكانيات مصر
الجغرافية والاقتصادية والسياسية، ولا يكون أقصى أمانيه مجرد الحفاظ على كراسي
الحكم ومناصب زائلة.
أدركت حكومات إثيوبيا المتعاقبة ضعف الدولة المتزايد في مصر، فطورت خطابها تدريجيا،
بدء من المطالبة بتقاسم عادل للمياه بزعم أن الاتفاقيات الدولية في هذا الشأن تم
ابرامها في عصر الاستعمار، ثم تطور الأمر في خطوة أخرى بالإعلان عن الشروع في بناء
السد كتصريحات لجس النبض بدون أن تتعدى التصريحات ميدان الأقوال، وبعد ذلك تصاعد
التهديد بتجييش دول منابع النيل في اتفاقيات مشتركة لاتخاذ مواقف موحدة، وفي مرحلة
لاحقة تعاقدت الحكومة الاثيوبية مع مكاتب هندسية لعمل دراسات ومخططات مشاريع السد
ومصادر التمويل، ثم انتظرت إثيوبيا اللحظة المناسبة والتي أتت في أعقاب اندلاع
الثورة المصرية وما ترتب علبها من شيوع الفوضى في مصر فشرعت في البناء الفعلي،
ويقول الباحث السعيد عاطف احمد خضر ان الانشغال بالأمور الداخلية والصراع على
السلطة بين مختلف القوى السياسية، وعدم إعطاء القضايا الخارجية مساحة هامة وكافية
لتحقيق سياسة خارجية فعالة ومستقرة، أدى إلى حدوث قدر كبير من التخبط و ضعف السياسة
الخارجية للدولة المصرية.
ولا شك أن كل هذه الأمور أعطت مساحة للحكومة أثيوبيا في المناورة في المفاوضات
وإعطائها الوقت الكافي لإنجاز اكبر قدر من المشروع .
ولكن بعد تغييرات 30 يونيو عام 2013، حدثت النقلة الكبرى النوعية الاثيوبية بانتزاع
موافقة مصر على انشاء السد، ونقل المفاوضات من هدف وجود السد وعدمه الى مرحلة
القبول به ثم التفاوض على كمية المياه التي يحتجزها، وذلك بالضغط على النظام المصري
ومقايضته بإلغاء عدم الاعتراف به والذي أقرته منظمة الوحدة الافريقية وبين توقيع
اتفاقية مبادئ مع الحكومة المصرية، والتي تقر فيها مصر لأول مرة في تاريخها بوجود
سد على النيل في منبع النهر.
ومنذ ذلك التاريخ تعاظمت وتسارعت أعمال انشاء السد، وتراوح رد الفعل المصري بين
ضغوط الدبلوماسية وتحفيز الحليف الأمريكي في الضغط على الحكومة الإثيوبية والتي لم
تلق بالا لهذا التحرك، واستمرت في عملية الخداع الاستراتيجي من مفاوضات واجتماعات
سواء على مستوى اللجنة الثلاثية او غيرها من الاجتماعات، من اجل كسب مزيد من الوقت
يمكنها من المضي في تنفيذ مشروعها، وهذا أدى الى انتقال التهديدات المصرية الى
التلويح غير الرسمي بضرب السد والتنسيق مع السودان، ثم النفي الرسمي لتحضير عملية
عسكرية في نفس الوقت.
وعند اندلاع الحرب في اثيوبيا كان الجميع يدرك أن مصر تبدو من أكثر الدول المستفيدة
من هذا التقاتل الداخلي بين القوميات في إثيوبيا، فقد وصل التوتر بين البلدين حدا
خطيرا ازاء قضية سد النهضة التي تعتبره مصر تهديدا لأمنها القومي، نظرا لأنه كما
أسلفنا سيتحكم في مجرى النيل الذي يعتبر الشريان الحيوي لإمداد المياه التي يتوقف
عليها الحياة عموما للبشر.
وبالرغم من تصاعد الدعوات داخل مصر للحكومة المصرية لأخذ موقف عسكري ضد إثيوبيا،
وانتهاز فرصة الانقسام والتطاحن الداخلي الاثيوبي لإغلاق ملف سد النهضة للأبد، الا
أن الحكومة المصرية لم يتعد موقفها نطاق التصريحات والدعوة الى استمرار المفاوضات
الثلاثية بين السودان واثيوبيا ومصر رغم المماطلة الاثيوبية، وهذا عزز من التكهنات
بأن الموقف المصري سوف يتجه وسيركز على الأعمال الاستخبارية، وعزز هذه الفرضية
التصريحات والتلميحات الاثيوبية الرسمية بذلك، والتي كانت تشير الى دور مصري في
تسليح وتدريب مقاتلي التيجراي الذين يقاتلون الجيش الحكومي، وفي نفس الوقت هناك صمت
مصري مريب مقصود فليس هناك نفي أو تأكيد.
ولكن يبدو أن هناك إصرار إثيوبي على تصعيد الدفاع عن سد النهضة وتصديره للواجهة،
عسى أن يعمل هذا التوجه على تجميع الاثيوبيين إزاء الخطر المشترك، أو على الأقل
تعزيز شرعية نظام آبي أحمد والذي بدأ يفقد شرعيته وشعبيته بين الاثيوبيين بعد أن
ظهر عجزه عن إدارة الصراع بين قوميات اثيوبيا.
لقد جاءت تصريحات وزير الطاقة والمياه الإثيوبي هابتامو إيتيفا في هذا المسار والتي
نقلت شبكة إي بي سي نيوز الإثيوبية عن الوزير الإثيوبي قوله، انه بجانب القتال ضد
الإرهابيين، نحن مستمرون في بناء سد النهضة العظيم، وأضاف أن البناء المنتظم
والأعمال المتعلقة بسد النهضة تتقدم بشكل جيد، مشيرا إلى أن اكتمال المرحلة الثانية
من السد، سيتيح توليد 600 إلى 700 ميغاواط من الكهرباء.
لا شك في أن النظام المصري يواجه ورطة حقيقية فاذا سلمنا بفرضية أنه يقوم بالفعل
بالتحريض، وأن له دورا في تأليب طائفة التيجراي وغيرها من الطوائف على التمرد وقتال
الحكومة، وهذا لن تعترف به مصر أبدا (ان وجد)، فمن يضمن أن التيجراي في حال
انتصارها سوف تلبي الشروط المصرية فيما يتعلق بسد النهضة؟ خاصة أن التيجراي عندما
كانوا بالحكم هم الذين بادروا الى تصعيد قضية سد النهضة، ودفعها الى الواجهة
واعتبار قضية سد النهضة هي قضية حياة وموت للشعب الاثيوبي؟