يعتقد الرئيس شي، أن الصين يجب أن تكون قوة أكثر تنافسية مع الولايات المتحدة ولها الكلمة العليا في آسيا، وتعمل على توسيع هيمنتها البحرية لتشمل سيطرتها على شرق الصين وبحر الصين الجنوبي
البيان/ فورين أفيرز
في المؤتمر السنوي لنواب الشعب الصيني الذي عقد في بكين مارس 2021 بمشاركة 3000
برلماني صيني، تحدث الرئيس، شي جين بينغ، بلغة أكثر إنتصاراً وثقة بالنفس متفاخراً
بأن بلاده تمكنت من السيطرة على وباء (كورونا) وقدمت المساعدة للعديد من دول العالم
للسيطرة عليه، وهي أول بلد يستعيد نموه الاقتصادي بصورة إيجابية، داعياً أبناء شعبه
للوقوف "شامخين بفخر حينما يسافرون إلى الخارج". كان خطاب الرئيس الصيني أكثر
ترويجاً لدور بلاده القادم على المسرح العالمي وخطوة جديدة نحو ولادة النظام الدولي
الجديد، فالصين وفقاً لدراسة نشرتها مجلة (فورين آفيرز) أكبر قوة تجارية في العالم،
وأكبر مصدر للإقراض وتمثل الكتلة الديمغرافية الأكبر من حيث عدد السكان ويعد جيشها
الأضخم على المسرح العالمي، وتسابق الزمن لتصبح مركزاً عالمياً لرواد الإبتكار
ويتوقع أن يتجاوز الناتج الإجمالي للصين في عام 2030 الناتج المحلي للولايات
المتحدة.
تحاول الصين أن تصبح أكثر تفاعلاً مع النظام العالمي الجديد لكنها حتى الآن ترفض
سلوك الإحتكاك العسكري مثلما تفعل روسيا، لذلك هناك القليل من الضبابية حول الرؤية
الصينية الأشمل لدورها القادم، فهناك من يرى رغبتها بإعادة تشكيل نظام دولي جديد،
وهناك من يعتقد أن الصين تريد فقط فرض بعض التعديلات على النظام الحالي بما يضمن
حماية مصالحها، ويرجع البعض تضخم عملية التسليح الصيني إلى محاولة الصين حماية
نظامها السياسي ومصالحها الاقتصادية ونفوذها داخل النظام الدولي مستفيدة من التجربة
الأمريكية التي أنهكتها الحروب المتواصلة وحولتها إلى إمبراطورية مريضة استنزفتها
الديون.
يعتقد الرئيس شي، أن الصين يجب أن تكون قوة أكثر تنافسية مع الولايات المتحدة ولها
الكلمة العليا في آسيا، وتعمل على توسيع هيمنتها البحرية لتشمل سيطرتها على شرق
الصين وبحر الصين الجنوبي، وهذا الأمر يجري تحقيقه بفعل تراجع الدور الأمريكي في
المحيط الهادئ، فقد ذهبت الصين بعيداً في خططها لنشر نفوذها عبر تبني مشاريع البنية
التحتية والموانئ والسكك الحديدية وكابلات الألياف الضوئية والأقمار الصناعية،
وأصبحت بديلاً شرساً للشركات الأوروبية والأمريكية واليابانية التي سادت لعقود مضت،
ولم تخض الصين معركة التنافس على المسرح العالمي مع الولايات المتحدة فقط على
الصعيد السياسي والعسكري مثلما تفعل موسكو، بل إنها غزت النظام الدولي بهوية
إقتصادية شاملة تطرح بدائل أكثر تطوراً واقل كلفة في عالم السيارات والتصنيع
العسكري والحلول التقنية والمالية والبنية التحتية، لتصبح الصين بديلاً عن الشركات
الغربية العالمية العابرة للقارات التي كانت تفرض هويتها الرأسمالية أينما حلت. لكن
أحد أوجه الطموح الصيني للهيمنة والسيطرة ما عبر عنه الرئيس الصيني في خطاب ألقاه
في أكتوبر 2021 ما أسماه بــ" إنجاز المهمة التاريخية لإعادة التوحيد الكامل للوطن
الأم"، متعهداً بإنجازها ويقصد بذلك السيادة على هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي
وتايوان، وهي قضية زادت في الأعوام القليلة الماضية من حدة التصادم بين بكين و
واشنطن.
ولاشك أن ما يفعله الرئيس شي بعقليته الشيوعية الأوتقراطية أكثر إيضاحاً لرغبة
الصين في إتباع سياسية عدوانية في محيطها، فقد نشر أسطول صيد ضخم تحميه البحرية
الصينية لترهيب جيرانه الخمس بروناي وماليزيا والفلبين وتايون وفيتنام، وفي أوج
إنشغال العالم بأزمة كورونا أشعلت الصين نزاعاً مع الهند بسبب قضية ميتة منذ أربعة
عقود. كما مارست الصين مجموعة عقوبات على تايوان وضاعفت من المناورات العسكرية على
طول الساحل التايواني الأمر الذي أكد نوايا عدوانية صينية لشن هجوم عسكري على
تايوان، ورغم هذه الضغوط ترفض الأخيرة الضغوط الصينية للوحدة مع بكين مستندة بذلك
إلى دعم ياباني وأوروبي كبير.
حاولت الصين إختراق الدائرة الأمنية التي فرضتها الولايات المتحدة في آسيا منذ
الحرب العالمية الثانية، وروجت عام 2014 لفكرة تكوين نظاماً أمنياً آسيوياً يضمن
وضع حلول للمشكلات التي تعاني منها آسيا والمحيط الهادي من خلال التشاور على أن
يقود وزير الدفاع الصيني هذا النظام، كما حاولت بكين تصوير التحالفات الأمريكية على
أنها آثار عفا عليها الزمن وأصبحت تعول على التشكيك في فاعلية الدور الأمريكي عبر
الضغط على تايوان وتأجيج الصدامات البحرية في بحر الصين الجنوبي ومواصلتها دعم
النظام الحاكم في كوريا الشمالية، لكن تلك الخطوات زادت من قلق جيرانها وولدت حالة
من التصعيد العسكري الأمريكي في محيطها كانت أبرز خطواته صفقة الغواصات النووية بين
استراليا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى.
تقوم مبادرة الحزام والطريق الصينية على فكرة ربط الصين بالعالم عبر ممرات بحرية
وبرية وجوية تمر بقرابة 60 دولة حول العالم، بإنفاق بلغ 200 مليار دولار، ولا يتعلق
الأمر فقط في دول مثل باكستان التي تعد أحد أهم الممرات الملاحية للمشروع الصيني
عبر ميناء جوادر بل ايضاً اليونان التي استفادة من التمويل الصيني من خلال تحويل
ميناء بيرايوس إلى أفضل الموانئ في أوروبا، فبكين تسعى لأن تكون المبادرة وسيلة
لنقل قيمها السياسية والثقافية لذلك يشمل المشروع الصيني العديد من المبادرات
التدريبية مثل البرامج السياسية والثقافية، وهناك التجربة التنزانية فهي خير مثال
على تطبيق ثقافة القمع الصينية من خلال تقييد وسائل التواصل الاجتماعي والتحكم في
تدفق المعلومات لمواطنيها، كما شاركت أحزاب سياسية في اثيوبيا وجنوب افريقيا
والسودان في تلقي تدريبات حول بنية الحزب الشيوعي الصيني وعلاقاته بالمجتمع
الصيني،ونظام الدعاية الصينية، ففي كينيا قدمت الصين عشرات الآلاف من ساعات البث
البرامجي الصينية لبثها عبر القنوات التلفزيونية الكينية بالإضافة إلى بلدان أخرى
في القارة السمراء بهدف نقل القيم الصينية. لكن الوجه المشرق للغرو الاقتصادي
الصيني على مستوى العالم مليء بالمطبات، فهناك مستويات متفاوتة من الفساد في
المشاريع التي تنفذ في الخارج، وبيئة عمل سيئة إعتمدت على تجاهل العمالة المحلية
خلال تنفيذ المشاريع الصينية، ففي كازاخستان تظاهر السكان ضد مشاريع التعدين
الصينية بسبب إستخدام العمالة الصينية بدلاً من العمالة المحلية، وقامت كذلك الصين
بالإستحواذ على بعض المشاريع بعد عجز الدائنين عن الإلتزام بسداد قروضهم، لذلك في
أذربيجان ومنغوليا تم إلغاء إنشاء 25 محطة للطاقة تعمل بالفحم كانت ضمن مشروع
مبادرة الحزام والطريق، وبينت دراسة أجريت عام 2018 أن 270 من أصل 1814 مشروعاً
تعثرت من المبادرة الصينية بسبب صعوبات في الإدارة، وانعكس الفشل الصيني في تنفيذ
مبادرة الحزام والطريق على علاقاتها السياسية في الخارج، فقد خذلها عدداً من
المتلقين لإستثماراتها في القضايا الحرجة مثل هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي وملف
المسلمين الأيغور، ولم يغب الفيلسوف الصيني كونفوشيوس عن محاولات الصين للصدام مع
الرأسمالية الغربية بكافة ألوانها، لذلك دعمت حكومتها نشر الثقافة الصينية عبر
إنشاء معاهد كونفوشيوس كوجه لهويتها الثقافية حول العالم وأسست شراكات مع العديد من
الجامعات والمراكز الخارجية، وصرح أحد أركان المبادرة وعضو اللجنة الدائمة للمكتب
السياسي، تشانغ تشون، عام 2011 قائلا:"إن معهد كونفوشيوس هو علامة تجارية جاذبة
لتوسيع انتشار ثقافتنا في الخارج، ويعد مساهمة مهمة في قوتنا الناعمة"، لكن تشكلت
جبهة عنيدة ضد المشروع الثقافي الصيني قادها أكاديميين من كندا والولايات المتحدة
وعدداً من الدول الأوروبية وأسهمت حملة منظمة على تضييق سرعة انتشاره، ولا شك أن
ضعف الروابط المشتركة بين الهوية الثقافية الصينية والمجتمع الدولي ساهمت في ضعف
التفاعل مع المشروع الصيني. كانت الصين تخطط لإنشاء 1000 معهد كونفوشيوس في افريقيا
وأماكن انتشارها حول العالم، لكنها بحلول عام 2020 لم تفلح إلا بإنشاء 61 معهداً،
وقد يكون أحد أهم نقاط فشل المشروع عدم فاعلية اللغة الصينية خارج حدود البر الصيني
بخلاف اللغة الانجليزية.
تتصرف الصين بعقلية شيوعية دكتاتورية طغت على سياساتها الخارجية وهذا الأمر يشي
بنوعية النظام الدولي الجديد الذي تريده الصين وهو ربما عالم اسوء بكثير من العالم
الذي اسسته الإمبريالية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد هددت الصين شركات
الطيران العالمية بتداعيات مالية خطيرة في حال عدم إعترافها بالسيادة الصينية على
هونغ كونج وبحر الصين الجنوبي وتايوان، وفي أعقاب تغريدة لداريل موري، المدير العام
لهيوستن روكتس، بشأن المظاهرات في هونغ كونغ قامت المتاجر الصينية بسحب المنتجات
التي تحمل العلامة التجارية لروكتس، من رفوفها، وتوقف التلفزيون الصيني عن بث
مباريات الدوري الأمريكي للمحترفين. وفي عام 2019 ذكرت صحيفة لوموند الفرنسية أن
بكين هددت بمنع الصادرات الزراعية من البرازيل وأورغواي إذا لم تدعم البلدان المرشح
الصيني لمنصب المدير العام لمنظمة الغذاء والزراعة.
أحد أهم عوامل قوة الصين على المسرح العالمي هو إمكاناتها الاقتصادية، وموقعها
كمحرك للنمو العالمي لكن مؤخراً اتبع الرئيس الصيني سياسيات قد تؤدي على المدى
البعيد إلى عزل الاقتصاد الصيني عن المنافسة العالمية، والسبب في ذلك هو نموذجه
الاقتصادي المعروف باسم "الدوران المزدوج"، الذي يركز على سيطرت الحزب الشيوعي
الحاكم على مفاصل الشركات الصينية الضخمة، ويتم التركيز على الصادرات وسلاسل
التوريد الحيوية مع إضعاف الواردات من راس المال والمعرفة، وبدأت نتائج هذه
التدخلات تؤثر سلباً على سمعة الشركات الصينية لا سيما في ما يتعلق بقطاعات التقنية
وقد فرضت العديد من الدول الغربية قيود على ضوابط إستيراد التقنيات الحساسة من
الصين.
رغم الطموحات الصينية الكبيرة للتواجد كلاعب مركزي على المسرح العالمي إلا أن
مبادرتها للمواجهة العسكرية مع الهند وسلوكها العسكري المحفوف بالمخاطر في شرق
الصين وبحر الصين الجنوبي وتهديدها المتواصل بإستخدام القوة للسيطرة على تايوان،
يؤكد أن الصين نسخة جديدة من الاتحاد السوفيتي تحاول الاستفادة من نموها الاقتصادي
لزيادة هيمنتها العسكرية في محيطها وحول العالم وهذا الأمر جعل الكتلة الغربية
تتحرك تحت مظلة مجموعة السبع لقيادة تحرك واسع لمحاصرة الإنتشار الصيني. الأمر
الآخر الأكثر تأثيراً على النمو الصيني هو المتغيرات في أسعار الطاقة العالمية و
الإرتباك الكبير في أسعار الدولار الامر الذي سبب إرتفاعاً حاداً في أسعار الشحن
من الأسواق الصينية وأدار بوصلة المستوردين إلى بدائل أخرى مثل تركيا وإيطاليا.
العقبة الأكثر خطورة على استقرار الوضع السياسي في الصين أيضاً تتجسد في نظام الحكم
القائم على شخصية الرئيس الصيني بصفته رئيساً للحزب الشيوعي الحاكم وإنعدام وجود
آلية للديمقراطية والإحتكام إلى الدستور، وهو نظام سياسي دكتاتوري يوسع دائرة
الفساد داخل طبقات النظام السياسي لإعتبارات تتعلق بضعف الراقبة وعدم وجود معايير
قضائية تكون أكثر فاعلية في محاسبة أعضاء الحزب بصفتهم يهيمنون على المناصب
القيادية في الدولة، وهذا الأمر يجعل دورة الحكم تضعف بمرور الوقت وهو أمر يمكن
قياسه على ماجرى في الاتحاد السوفيتي سابقاً وتسبب في تعجيل إنهياره.