• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
‏ ليبيا وأوكرانيا... صفقة تبادلية

مثلت هذه المنطقة عقدة صراع ومشكلة بين أكبر جمهوريتين كانتا يضمهما الاتحاد السوفيتي سابقا، وبالرغم من التفوق الروسي إلا أن أوكرانيا كانت تنظر إلى نفسها دائما كند لروسيا.


كشفت تقارير استخباراتية أمريكية لصحيفة الديلي تلغراف البريطانية ووكالة بلومبرغ للأنباء الأمريكية، عن حشود للقوات الروسية على حدود أوكرانيا لاجتياحها ربما على غرار ما حدث في عام 2014.

كما أوردت وكالات الأنباء تحركات أميركية عاجلة، عكستها لقاءات مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السي_آي_إيه مع بوتين لتحذيره من اجتياح أوكرانيا، كما أجرت واشنطن اتصالاتها مع العواصم الغربية لتشاركها معلوماتها الاستخباراتية بخصوص اجتياح روسيا لأوكرانيا، كما تصاعدت أخيرا اعتراضات الطرفين لطلعات بعضهما بعضا الجوية فوق البحر الأسود.

ورفعت أمريكا درجة التحدي، عندما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الأوكراني ديميترو كوليبا في واشنطن: ليس لدينا وضوح بشأن نوايا موسكو لكننا نعرف استراتيجيتها.

وأوضح بلينكن هذه الاستراتيجية بقوله: هي قيام الروس باستفزازات لتنفيذ ما خططوا له منذ البداية.

وفي هذا المؤتمر الصحفي رحب وزير الخارجية الأوكراني بهذا الدعم الأمريكي حيث تحدث عن مواجهة ما أطلق عليه عدوانية روسيا المتزايدة باستمرار.

ولكن ما يثير العجب أن أوكرانيا نفسها قد نفت قبل هذا المؤتمر الصحفي بأيام قليلة، أي تحركات عسكرية روسية غير عادية، ويومها أكد الجيش الأوكراني أن التحركات العسكرية الروسية التي أفيد عنها هي نقل للقوات بعد تدريبات، واضعا إشاعة أنباء عن تعزيزات للجيش الروسي قرب الحدود الأوكرانية في إطار حرب نفسية محتملة ضد أوكرانيا.

هذا التناقض الأوكراني يطرح العديد من الأسئلة حول حقيقة ما يحدث في منطقة شبه جزيرة القرم، وهل هناك تدخل روسي بالفعل؟ أم أن هذه الزوبعة بمثابة ورقة أمريكية للضغط على روسيا في ملفات أخرى خاصة في ليبيا؟ وما هو الدور التركي في هذا الصراع؟ وفي النهاية ما تأثير ما يحدث على منطقتنا؟

للإجابة على هذه الأسئلة ينبغي أولا معرفة أهمية منطقة القرم لروسيا، ثم دراسة الملفات الساخنة بين أمريكا وروسيا.

نظرة روسيا لمنطقة القرم

تمتد شبه جزيرة القرم (وهي رسميا لم تزل جزء من أوكرانيا) من جنوبي أوكرانيا بين البحر الأسود وبحر آزوف، ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش.

مثلت هذه المنطقة عقدة صراع ومشكلة بين أكبر جمهوريتين كانتا يضمهما الاتحاد السوفيتي سابقا، وبالرغم من التفوق الروسي إلا أن أوكرانيا كانت تنظر إلى نفسها دائما كند لروسيا.

في أوائل عام 2014، جرت الاطاحة بالرئيس الأوكراني المنتخب (والموالي لروسيا) فيكتور يانوكوفيتش باحتجاجات ثورية في العاصمة كييف، وبعدها قامت قوات موالية لروسيا بالسيطرة على القرم، وفي أعقاب ذلك قام سكان القرم وغالبيتهم من ذوي الأصول الروسية بالتصويت في استفتاء عام للانضمام الى روسيا الاتحادية. ولكن أوكرانيا والدول الغربية قررت ان الاستفتاء كان غير شرعي.

ومنذ 2014 تشهد المنطقة الواقعة في شرق أوكرانيا، حربا بين القوات الحكومية والانفصاليين الموالين لروسيا أودت بحياة أكثر من 13 ألف شخص، وبعد هدنة تم التوصل إليها في النصف الثاني من 2020، تجددت في مطلع العام الحالي الاشتباكات المتقطعة بين قوات كييف والانفصاليين المتهمة روسيا بدعمهم عسكريا وماليا، وهو ما تنفيه الأخيرة.

وللعلم فإن سكان القرم في غالبيتهم كانوا مسلمين من قومية التتار، ولكن جرى تهجيرهم في عصر ستالين في منتصف القرن الماضي، بدعوى تعاونهم مع هتلر في الحرب العالمية الثانية.

القيمة الاستراتيجية الرئيسية لشبه جزيرة القرم بالنسبة لروسيا، في أن هذه المنطقة تمثل منفذا مهما للبحر الأسود وهو ميناء المياه الدافئة الوحيد في روسيا، فمنفذ روسيا المفترض انه يكون المنفذ البحري الرئيسي بالنسبة لها يقع في الشمال، لكنه يتعرض للانسداد بواسطة جليد القطب الشمالي طوال شهور عديدة من السنة، فامتلاك شبه جزيرة القرم التي تقع على مضيق يربط البحر الأسود ببحر آزوف، يعني السيطرة على البحر الأسود، ولذلك شيدت روسيا قاعدة بحرية كبيرة في القرم، وهذه القاعدة تستطيع بتواجدها في منطقة القرم السيطرة على البحر الأسود.

كما أن البعد الاقتصادي المرتبط أساسا بمجال الطاقة وبالغاز الطبيعي يأخذ حيزا هاما في النظرة الروسية لعلاقتها بأوكرانيا، التي تمر عبرها أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا، حيث ينتقل ما يقرب من مائة مليار متر مكعب من الغاز، وهو ما يعني أن نسبة 94% من إجمالي الغاز الذي تستهلكه أوروبا من روسيا، يمر عبر الأراضي الأوكرانية من خلال الخط المعروف بخط دورشيا (خط الصداقة)، بينما يمر 3% من الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا عبر أراضي بيلاروسيا.

  أمريكا وأوراق اللعب

يقول المستشار السابق لشؤون الأمن القومي الأمريكي بريجينسكي إن روسيا مع أوكرانيا تشكل إمبراطورية، وأن انفصال أوكرانيا ينهي الإمبراطورية الروسية، وهذا الكلام الصادر عن أحد واضعي السياسة الخارجية الأمريكية أو المنظرين الأساسيين لها يعكس الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة لروسيا ولاسيما شبه جزيرة القرم، كما يعكس النظرة الأمريكية لخطورة أوكرانيا لروسيا، وبذلك فتواجد أمريكا في الصراع الأوكراني الروسي، بل وتأجيجه يكسبها ورقة هامة ضد روسيا للتخلي عن ملفات تعتبرها أمريكا مجالا حيويا لها.

فما هي تلك الملفات المتشابكة بين روسيا والولايات المتحدة؟

هناك قضايا استراتيجية عديدة بين أمريكا وروسيا، ولعل أبرزها هو الملف الليبي الذي يجيء بصفة عاجلة مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي في ليبيا، وتولي سلطة منتخبة تكون قادرة على اخراج القوات والمرتزقة الأجانب من أراضيها، الأمر الذي يشكل هاجسا أمريكيا عاجلا.

فالتواجد الروسي في ليبيا ممثلا في المرتزقة الفاجنر وهم واجهة التدخل الروسي، يعتبر بالنسبة لأمريكا حصارا لأوروبا من جنوبها وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ، كما يمثل هذا التواجد العسكري، منفذا لروسيا إلى جنوب الصحراء الأفريقية حيث تتواجد القوات الأمريكية لمكافحة الإرهاب.

ويعبر عن القلق الأمريكي قائد القيادة الأفريقية في الجيش الأمريكي، الجنرال ستيفن تاوساند وتصريحه الذي أوردته محطة سي إن إن الإخبارية، حيث قال إذا سُمح لروسيا بتشكيل النتيجة النهائية للصراع الليبي فإن ذلك لن يعجب أمريكا وخصوصا الناتو وأوروبا، وأضاف تاوساند: تماما كما رأيتهم الروس يفعلونه في سوريا، يقومون بتوسيع رقعة وجودهم العسكري في أفريقيا باستخدام مجموعات مرتزقة مدعومة من الحكومة.

ولذلك فإن الوسيلة المجدية أمريكيا للخروج العسكري الروسي من ليبيا يتمثل في ثلاثة عناصر:

الأول هو الاغراء الاقتصادي والمتمثل في تخصيص حصة من كعكة إعادة الاعماء للشركات الروسية.

أما العنصر الثاني فهو انتخاب حكومة ليبية شرعية تدعو القوات الأجنبية للخروج وتكون دعوتها مؤيدة أمميا ودوليا.

أما العنصر الثالث وهو العملي فيقوم على مقايضة روسيا في ملفات أخرى مثل الملف الأوكراني، وهذا يفسر التصعيد الأمريكي الأخير وتحريض الحكومة الأوكرانية على استفزاز روسيا باتهامها بالإعداد لغزو أوكرانيا، ومن ثم طلب الدعم الأمريكي الغربي لذلك الذي سيكون حينها مقابلا للانسحاب الروسي من ليبيا. 

وهنا تتلاقى المصالح الأمريكية في المنطقة مع المصالح التركية.

فتركيا تبحث دائما عن طرق للصعود دوليا، وتلعب على التناقضات والصراعات بين القوى الكبرى، لعلها تجد منفذا للولوج مرة أخرى واستعادة الحلم العثماني مرة أخرى.

فتركيا أرسلت قواتها إلى ليبيا ومنعت الفاجنر من الاستيلاء على طرابلس، بل طاردتهم حتى أنهت وجودهم في الغرب الليبي بأكمله، وأرسلت إلى أوكرانيا طائرات مسيرة تركية التي أثبتت كفاءتها وفعاليتها في معارك عديدة.

تركيا اصطادت بحجر واحد عصفورين، أمريكا وروسيا...فتركيا منهكة في صراع مع القوتين الكبريتيين وتصادمت معهما في ملفات عديدة خاصة في سوريا والأكراد وقضية صواريخ إس 400 الروسية، وجاءت أزمة أوكرانيا وليبيا كورقة هامة تستخدمها تركيا مع روسيا كتحدي لها، ومع أمريكا كمحاولة للتصالح مع إدارة بايدن المناوئة لأردوغان في نفس الوقت.

وروسيا في مقابل لعبة الورق الأمريكية لا تقف مكانها صامتة، بل تستخدم ورقتي الغاز واللاجئين المتدفقين لأوروبا، ‏وهذا ما ورد في تصريحات رئيس بيلاروسيا الموالي للروس، والذي هدد بقطع الغاز عن أوروبا، كما هدد بدفع آلاف اللاجئين إلى بولندا تمهيدا لإغراق أوروبا بهم.

ولكن كيف تستفيد أمتنا من هذا الصراع؟

عندما توشك القوى الكبرى على التصادم، فإن هذا الصدام يعطي لأمتنا منفذا للولوج مرة أخرى إلى حلبة الساحة الدولية كقوة كبرى، ولكن بشرط وجود الرغبة والأدوات التي تستطيع بها وتؤهلها لإدارة الصراع والعودة مرة أخرى إلى مكانتها ورسالتها كخير الأمم.

أعلى