تقع جرائم فرنسا تحت أربعة عناوين رئيسة: الإبادة الجماعية والقتل ثم التعذيب وبعدها التجارب النووية، وآخر هذه الجرائم محاولة تغيير الهوية الإسلامية للشعب الجزائري.
"على الجزائريين ان يتعلموا كيف يحترموا فرنسا"
هذا ما أعلنته زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني في فرنسا والمرشحة في انتخابات
الرئاسة الفرنسية القادمة مارين لوبان، في الخامس عشر من نوفمبر الحالي أي منذ أكثر
من عشرة أيام في تصريح لإذاعة فرانس إنفو، وأضافت أنها لن تمنح الجزائريين تأشيرات
دخول حال فوزها بالرئاسة، إذا لم تقبل الجزائر باستعادة مواطنيها غير المرغوب بهم
في فرنسا.
وقالت إذا اعتبرت الجزائر نفسها أنها دولة عظمى حصلت على استقلالها، فيجب عليها أن
تتصرف كأمة عظيمة، وأن تحترم القانون الدولي.
وتابعت: لن تكون هناك تحويلات مالية من قبل الخواص باتجاه الجزائر، في حال استمرت
هذه الأخيرة في رفض استعادة مواطنيها غير المرغوب بهم في فرنسا.
وتساءلت لوبان من غير المعقول ألا تستفيد فرنسا من الأموال التي تحول إلى الجزائر
والتي تقدر بـ1.8 مليار يورو، وهو مبلغ لا يدخل في الاقتصاد الفرنسي بالرغم من أنها
أموال ناتجة من وظائف على التراب الفرنسي، وبالتالي يجب أن تضخ في الاقتصاد
الفرنسي.
واعتبرت أنه يجب على الجزائر احترام القرارات المتخذة بشأن المواطنين الجزائريين
الذين لا ترغب فرنسا في وجودهم على أراضيها لأسباب تعود سواء لكونهم غير شرعيين أو
لارتكابهم جرائم في فرنسا، وأعربت عن يقينها من أن هناك طريقة لإيصال الجزائر إلى
رشدها في هذا الخصوص.
بهذه الكلمات الوقحة والمستفزة، كشفت فرنسا عن وجهها الصريح غير المتلون بالكلمات
المستترة المعسولة والتي يجيدها المسئولون الفرنسيون الرسميون، وكان آخرها ما أوضحه
ماكرون في مقابلة صحفية حينما قال: أتمنى حدوث تهدئة مع الجزائر لأنني أظن أنه من
الأفضل التحاور والمضي قدما، وأضاف: أكن احتراماً كبيراً للشعب الجزائري وأقيم
علاقات ودية فعلاً مع الرئيس تبون.
ولذلك يثير هذا التناقض في التصريحات والمواقف كثير من علامات الاستفسار والتعجب
حول طبيعة العلاقات الفرنسية الجزائرية وفي نفس الوقت كثيرا من شجون.
فهل هذه العلاقات لازالت تخضع لمنطق روابط دولة استعمارية بمستعمرة من مستعمراتها
السابقة؟ ...
هل لازالت هناك عقد وحساسيات في تلك العلاقة؟ ....
ما هي أهم الأسس والقواعد التي تحكم هذه العلاقات الآن؟ ...
للإجابة على هذه الأسئلة ينبغي استعراض لمحة تاريخية سريعة حول تاريخ فرنسا في
الجزائر، لندرك ما تركته الممارسات الاستعمارية في نفسية الجزائريين.
الاحتلال الفرنسي للجزائر
في عام 1830 غزت فرنسا الجزائر، لتبدأ حقبة استعمارية طويلة امتدت لما يزيد عن مائة
وثلاثين عاما أي دام قرابة قرن وثُلث قرن من الزمن، لتعتبر من أطول فترات الاستعمار
في التاريخ الحديث.
تقع جرائم فرنسا تحت أربعة عناوين رئيسة: الإبادة الجماعية والقتل ثم التعذيب
وبعدها التجارب النووية، وآخر هذه الجرائم محاولة تغيير الهوية الإسلامية للشعب
الجزائري.
فالإبادة الجماعية والقتل كانت سمة أساسية للاحتلال الفرنسي، ومن الصعب تتبع هذه
المجازر كلها، ولكن أحد أكبر وأبشع المجازر ما ارتكبته فرنسا في يوم واحد، حين خرج
مئات الآلاف من الجزائريين في عام 1945، للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية،
ولمطالبة فرنسا بالوفاء بوعدها بمنحهم الاستقلال، لكن قوات الاستعمار استخدمت
الرصاص الحي، وقتلت 45 ألفا من المتظاهرين العزل في جريمة ضد الإنسانية، وفي أكتوبر
عام 1957، خرج حوالي 60 ألف جزائري في فرنسا؛ للتظاهر ضد استعمار بلدهم، فقابلت
السلطات الفرنسية المحتجين بالرصاص الحي وألقت الكثير منهم في نهر السين، وبلغت
الحصيلة 1500 قتيل، و800 مفقود، إضافة إلى آلاف المعتقلين.
وقد قدر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عدد القتلى الجزائريين بأكثر من 5 ملايين
قتيل طيلة قرن وربع قرن، أما الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، فكشفت في
تقرير عام 2017 أن عدد ضحايا الاستعمار الفرنسي فاق 10 ملايين شخص.
وقد اعترفت فرنسا ببعض هذه المجازر، ففي عام 2005 اعترف السفير الفرنسي بالجزائر
رسمياً بأن هذه المجازر كانت مأساة لا تغتفر، وفي عام 2017 وفي تصريح غير مسبوق،
وصف الرئيس الفرنسي استعمار الجزائر بجريمة ضد الإنسانية.
أما عن أساليب التعذيب فحدث ولا حرج من استخدام أساليب الصعق الكهربائي واستخدم
الآبار المائية سجوناً والقاء المعتقلين من المروحيات، وفق مؤرخين.
وبماذا نسمي احتفاظ فرنسا إلى اليوم بـثمانية عشر ألف جمجمة في متحف الإنسان
بباريس، منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها، وفق ما كشفت عنه وسائل إعلام
فرنسية عام 2016، وفي عام 2020 استعادت الجزائر 24 جمجمة لقادة من مقاومة الجزائر،
قتلوا ثم قطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي منتصف القرن الـتاسع عشر.
ومن الجرائم التي قامت بها فرنسا ما أجرته السلطات الاستعمارية الفرنسية من تجارب
نووية على الأراضي الجزائرية، بلغت ما يقرب من 17 تجربة نووية تحت وفوق الصحراء
الجزائرية وذلك قبل انسحابها من الجزائر بفترة صغيرة، وتسببت التجارب النووية بمقتل
42 ألف جزائري وإحداث عاهات مستدامة؛ بسبب الإشعاعات النووية التي لا تزال تلوث
المكان حتى اليوم، وما زالت السلطات الجزائرية تطالب نظيرتها الفرنسية بتسليمها
خرائط دفن نفايات هذه التجارب لحماية السكان من إشعاعاتها لكن فرنسا تماطل في ذلك.
ثم كانت محاولة طمس الهوية الإسلامية، فلم تكتف فرنسا باحتلال الأرض ولكنها حاولت
احتلال العقول، وإعادة صياغة الهوية الجزائرية العقيدية للشعب الجزائري.
ارتكزت معركة الهوية التي قامت بعا فرنسا ضد الجزائريين على ثلاثة ركائز أساسية:
أولها تغيير اللسان العربي وفرض اللغة الفرنسية سواء في مناهج التعليم أو من خلال
فرنسة لغة المصالح الحكومية، ثم كانت الركيزة الثانية بتشجيع الخرافات والبدع
والشعوذة والممارسات الصوفية الخاطئة، وجاءت الركيزة الثالثة متمثلة باللعب بالورقة
العرقية واثارة النعرة البربرية والقومية العربية فحاولوا إقناع البربر بأنهم من
سلالة أوروبية وعليهم عدم التفريط في لغتهم البربرية، فمنعوا تعليم اللغة العربية
في المناطق التي يكثر فيها البربر.
ولكن كيف أثر هذا التاريخ الدموي العدائي على النظرة الجزائرية وعموم العلاقات
الفرنسية الجزائرية؟
انطبعت النفسية الجزائرية تجاه فرنسا بطابع القسوة والرغبة في الثأر من هذه
الممارسات القاسية التي مارستها فرنسا على الجزائر، وكانت هناك دائما حساسية في أي
تصريح أو ممارسات فرنسية، خاصة أن التدخلات الفرنسية لم تنته بسحب جنودها من
الجزائر، بل عملت على تشجيع الطبقة المتفرنسة وهي تمثل أقلية صغيرة من الجزائريين
والتي عملت على أن يظل الإرث الفرنسي الثقافي متغلغلا في الجزائر، وبالتالي تكريس
التبعية الجزائرية لفرنسا.
ولذلك فإن معركة الهوية التي يخوضه الجزائريون بشراسة هي جزء لا يتجزأ من معركة
الاستقلال عن فرنسا، وفي نفس الوقت فإن فرنسا نفسها تستميت في ترسيخ العلمانية
الجزائرية وتعتبر الانتصار فيها استمرارا لاحتلالها الجزائر وهيمنتها عليها.
وتمثل ذلك جليا في أزمة انتخابات 1992 والتي اكتسحتها الجبهة الإسلامية للانقاذ،
وتدخلت فرنسا من وراء ستار ليبدأ فريقها داخل الجيش الجزائري في مجازره ضد الشعب
الجزائري، والتي كانت في تشابه غريب ما قامت به فرنسا أثناء حقبة الاحتلال.
ولكن يظل هناك طبقة من السياسيين في الجزائر في حالة عداء تاريخي مع فرنسا، وهذه
الطبقة لها من يؤيدها في جنرالات الجيش الجزائري، وفي نفس الوقت لا ترغب هذه الطبقة
في العودة لمسار انتخابي يتيح للشعب الجزائري اختيار من يحكمه، لأن هؤلاء السياسيين
المتحالفين مع فريق من الجيش الجزائري خائف على مصالحه المالية ونفوذه السياسي، أو
حتى خوفا من صعود تجربة للإسلاميين مرة أخرى، تكون هذه التجربة منبوذة إقليميا
ودوليا، وتنتقل بها البلاد الى فوضى غير مأمونة العواقب.