• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الولايات المتحدة وأوروبا ومستقبل العلاقة بين ضفتي الأطلسي

سيبقى التوجه الأطلسي واحدًا من أهم أولويات السياسة الأمريكية في المرحلة المقبلة التي يشهدها تطور النظام الدولي الحالي، وأن اتجاهات التكامل بين ضفتي الأطلسي سوف تترسخ أكثر من ذي قبل


يثور السؤال حول مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا، ويثور بكامل قوته اليوم في سياق الحديث المتواصل حول إمكانية التحول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب يصير فيه الاتحاد الأوروبي قطبًا دوليًا في النظام الدولي الجديد. الإجابة الأكثر شيوعيًا ترى أن التباعد هو المستقبل الأكثر احتمالًا للعلاقات الأمريكية – الأوروبية. ويعود السبب إلى جملة التغيرات البنيوية التي برزت بعد الحرب الباردة.

 يسوق هذا الرأي عددًا من المؤشرات الدالة على اتساع الشقة بين ضفتي الأطلسي: أن أوروبا صارت أقل استعدادًا للإذعان للولايات المتحدة بسبب زوال الخطر الروسي، وبالتالي ثمة طموح أوروبي في السعي إلى الحصول على حكم ذاتي استراتيجي بعيدًا عن الولايات المتحدة، انطلاقًا من أن أوروبا يجب أن تعتمد بدرجة أقل على الشراكة عبر الأطلسي وتعزيز قدرتها على العمل المستقل عن الولايات المتحدة. فضلًا عن الفوارق في التطور الاقتصادي بين الولايات المتحدة المتقدمة على صعيد العلم والتكنولوجيا وبلدان الاتحاد الأوروبي التي تواجه صعوبات في استئناف وتائر النمو الاقتصادي الأمر الذي يجعل من أولويات أوروبا مختلفة تمامًا عن أولويات الولايات المتحدة. بالإضافة إلى اختلاف مصادر التهديدات حيث تصر الولايات المتحدة على أولوية مواجهة الإرهاب وانتشار القوة في النظام الدولي والتحول إلى نظام متعدد الأقطاب، بينما ترى أوروبا في الهجرة واليد العاملة والعولمة والفقر والطاقة وتحقيق الاستدامة البيئية ومحاربة التغير المناخي أولوية لها. كما تسعى الولايات المتحدة إلى حماية موقعها بوصفها القوة العظمى الوحيدة عبر ترسيخ سياسة التفرد المعتمد على القوة العسكرية، على خلاف أوروبا فبسبب نقصها النسبي في القوة تفضل التحرك على أساس التعاون والميل إلى التعددية والقانون أي بوصفها قوة تحويلية من خلال جملة من القواعد والمعايير تعكس مصالح النظام الدولي تُفرض على من يريد الاحتكاك بهذا النظام من خلال وضع مقاييس لحماية الأقليات وللممارسة السياسية وحقوق الإنسان والديمقراطية والقانون الجزائي والهوية الجنسية وبموجب هذه المعايير تفرض أوروبا قوتها على الدول التي تريد الدخول معها في علاقة أو من تريد أن تكون جزءًا من النظام الدولي.

يستخلص أصحبا هذا الرأي من كل ما تقدم احتمال يدب الضعف في الرابطة الأطلسية، وبالتالي فالعلاقات الأمريكية - الأوروبية على مفترق طرق. فانطلاقًا مما تقدم، يشير اتجاه العلاقة الحالية إلى اتساع الفجوة بين ضفتي الأطلسي ولن تعود الشراكة الوثيقة التي سادت العلاقات بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلى سابق عهدها خلال حقبة الحرب الباردة.

ونحن نرى خلاف هذا الرأي أنه كلما أشتد خلاف الولايات المتحدة مع منافس مكافئ غير ليبرالي أو ما يعرف بـ"نظرية تحول القوة من الغرب إلى الشرق" من جهة، وتحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب من جهة أخرى، في مثل هذه الأحوال فإن ما تحتاجه الولايات المتحدة هو مؤازرة الشراكة الأطلسية أكثر من ذي قبل فيصيح التعاضد هو مستقبل العلاقة بين جانبي الأطلسي. فليس للولايات المتحدة- والحالة هذه- إلا تكريس وحدة ضفتي الأطلسي بسبب الأهمية الاستراتيجية لهذه العلاقة لجهة الضبط الغربي للنظام الدولي الحالي وتأمين استمرارية سيطرة الغرب المتواصلة على الكون السياسي منذ نشوء النظام الدولي الحديث.  إن الولايات المتحدة تريد موقفًا أوروبيًا مآزرًا في مواجهتها مع الصين من جهة، وعرقلة بروز قوى دولية غير ليبرالية من جهة ثانية، وأخيرًا الحيلولة دون الفوضى الدولية بسبب انتشار القوة.

وعليه، سيبقى التوجه الأطلسي واحدًا من أهم أولويات السياسة الأمريكية في المرحلة المقبلة التي يشهدها تطور النظام الدولي الحالي، وأن اتجاهات التكامل بين ضفتي الأطلسي سوف تترسخ أكثر من ذي قبل.  فالولايات المتحدة بوصفها قوة وضع راهن تواجه ضغوطًا من الجهات الفاعلة في البيئة الدولية يدفعها الى التعاضد الاستراتيجي مع أوروبا لبلورة استراتيجية موحدة تجاه القوى الدولية غير الليبرالية الصاعدة من خارج الغرب (أوروبا والولايات المتحدة).

 في الواقع إن مدى قدرة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي أسسته الولايات المتحدة على الاستمرار كهيكل أساسي لاستراتيجية الولايات المتحدة العالمية أصبحت اليوم موضع سؤال في السياسة الأمريكية لجهة مدى قدرته على امتصاص الضغوط الجيوسياسية الصاعدة. ومؤخرًا تبلورت قناعة لديها بأنها لكي تصبح أكثر فعالية في إدارة النظام الدولي فيتوجب عليها أن تعمل على تحسين كفاءة النظام الدولي الحالي، والمدخل إلى ذلك يكمن في تجديد الأصول الاستراتيجية للغرب عمومًا. وها هنا تعمل الولايات المتحدة على التأثير في عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي كجزء من استراتيجيتها التي تهدف إلى تقليص دور المنافسين على القيادة العالمية والمحافظة على بقاء مركز النظام في الغرب. إن تجديد العلاقة مع أوروبا، العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة، أصبح ممرًا اجباريًا كي تتمكن من عرقلة ظهور منافس ينال من مركز قوتها بوصفها قوة وضع راهن ووضع والحيلولة دون تحول القوة وانتشارها.

 وهكذا، إن تحسين آليات النظام الدولي بالنسبة للولايات المتحدة يمر عبر ضغوط تفرضها هذه اللحظة التاريخية المخصوصة التي يشهدها تطور النظام الدولي، والتي تدفع إلى سبيل تكون علاقات مماثلة بالمخاطر الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأوروبا تمس بالمصالح العليا للنظام الدولي الحالي ومستقبله، لا تؤثر على الولايات المتحدة فحسب بل وكذلك تؤثر على أوروبا وعلى مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة.

من هنا ترى الولايات المتحدة أن هذه اللحظة التاريخية التي يكر بها النظام الدولي وما ينبثق عنها من تهديدات، تفرض على ضفتي الأطلسي بحكم التماثل في المخاطر، تخطي ما يعيق تجديد الرابطة بين أوروبا والولايات المتحدة وتطويرها بما يتناسب مع التحديات الراهنة، وذلك لأجل تنظيم فعال للنظام الدولي الحالي ضد منافس من خارج الغرب الليبرالي. إن منطق المماثلة بين الولايات المتحدة وأوروبا أصبح يفرض نفسه على التوجهات الاستراتيجية الكبرى بين ضفتي الأطلسي. إن الوحدة الاستراتيجية أصبحت هي الإمكانية التي تبزغ في أفق العلاقات الأطلسية، تدفع أوروبا إلى تخطي إشكالية التنافر الاستراتيجي (أي الاختلافات العميقة بين الدول الأوروبية عبر جميع مجالات سياسات الدفاع الوطني، وعلى الأخص تصورات التهديد، والنقص الحاد في القدرات العسكرية). وبالتالي تعيد تعريف دورها الدولي بمؤازرة الولايات المتحدة. نتيجة لذلك من غير المرجح أن تشهد العلاقات الأوروبية - الأمريكية تنافرًا في ظل وطأة تحولات النظام الدولي التي تمس مصالح الطرفين معًا.

ونحن نرى أن اللحظة التاريخية المخصوصة التي يمر بها النظام الدولي الراهن، تجعل من أي فكرة ترمي إلى استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة فكرة وهمية. إن مضمون هذه اللحظة التاريخية واضح ومباشر: إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا تريدان تعريف استقرار النظام الدولي وفقًا لقيمهما الخاصة، فعليهما توثيق الروابط أكثر من ذي قبل، والدخول في طور جديد أكثر تماثلًا في الاسترتيجيا. وعليه، إن المرحلة الجديدة التي يمر بها النظام الدولي ستقضي تمامًا على أية محاولة ترمي إلى استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة تلك الفكرة التي تلاعب أفئدة العديد من الأوربيين وإذ سيكون تحقيقها أصعب من ذي قبل، فإذا كانت ممكنة في الماضي فإنها ستصبح مستحيلة في المستقبل. وعليه، إن اللحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها النظام ستجعل من الولايات المتحدة وأوروبا متورطًا في الآخر.

 إن أوروبا ستشكل بالنسبة للولايات المتحدة نقطة الارتكاز الرئيسة في استراتيجيتها الكبرى الرامية إلى إعادة تشكيل النظام الدولي الحالي، فضلًا عن تمرير المسؤولية إلى الأوربيين في التصدي للتحولات التي يمر بها النظام الدولي الراهن.

وعليه، أن هناك تحالفًا أوروبيًا أمريكيًا أوثق من ذي قبل سوف يظهر في المستقبل القريب علته التماثل الاستراتيجي بين الطرفين، والنتيجة هي تعميق التحالف بين ضفتي الأطلسي.

فما يُظهره تحليلنا هو أن الولايات المتحدة ستكون غير قادرة بمفردها بشكل فعال على مواجهة تحديات النظام الدولي المذكورة آنفًا. ولتخطي هذا الضعف ستعتمد أكثر على أوروبا وأن الأخيرة سترتبط أكثر بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. على قاعدة أن إمكانية خروج النظام الدولي من الغرب سيدفع أوروبا إلى التطابق استراتيجيًا مع الولايات المتحدة.  وتشكل أوروبا من لحاظ ذلك نقطة الارتكاز الرئيسة في الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في التحكم بتوجهات النظام الدولي عبر تحسين آليات النظام الدولي الحالي بهدف إقامة نظام دولي وفقًا لقيمها الخاصة فهذا الأمر يعد جزءًا لا يتجزأ من سياستها الخارجية الراهنة في ظل إدارة الرئيس جو بايدن.    

من هذا اللحاظ، فإن الغرب في موقفه من التشكيلات الجيوبولتيكية الأخرى سوف يتصرف مستقبلًا كقوة جيوبولتيكية واحدة. سوف يشكل ذلك واحدًا من أهم الأصول الاستراتيجية في أية مواجهة بين قوى الوضع الراهن والقوى الساعية إلى تغييرة، تحدد ملامح المرحلة المقبلة في مسيرة تطور النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

 

 

أعلى