• - الموافق2024/11/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
لاهاي ونفاق النظام الليبرالي العالمي

ولدت المحكمة الدولية كمشروع أممي ولادة قيصرية جعلتها كائناً ممسوخاً من البداية، فلم تكن الحاجة لوجودها بإجماع عالمي بقدر ما جعلتها المنظومة الغربية أحد أسلحتها مع انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وبداية انهياره


وافقت المنظومة الليبرالية الغربية مؤخراً على تولي المحامي البريطاني، كريم خان، مهام المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي، خلفاً للقاضية الغامبية، فاتوا بنسودا بعد أن أمضت المدة القانونية المقررة 9 سنوات اختتمتها بسلسلة من العقوبات الأمريكية على أعضاء المحكمة بسبب النبش في جرائم الحرب التي إرتكبها الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وكذلك جرائم جيش الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة.

نشأت المحكمة الدولية في عام 1998 بفقاعة من العالمية المحصنة بالشرعية التي توفرها لها الأمم المتحدة، لكن مع مرور الوقت ركزت المحكمة فقط على بلدان العالم الثالث، فقد كان نصيب الأفارقة الأكبر في ملفات الملاحقة التي فتحتها المحكمة حيث بلغ عدد الأشخاص الذين وجهت لهم لوائح اتهام 44 شخصاَ. وفي تقرير نشرته مجلة (فورين آفير) أكدت أن 10 من أصل 14 تحقيقاً جارياً للمحكمة يخص إفريقيا، بينما فتحت مؤخراً تحقيقات تتعلق بجورجيا وأفغانستان وفلسطين.

عقب الاستهداف المتعمد لإفريقيا شهدت محكمة الجنايات الدولية عام 2016 حالات مقاطعة ورفض ومواجهة من قبل دول افريقية منها جنوب افريقيا، فالمحكمة التي تمولها الديمقراطيات الليبرالية الغربية تتعرض لعقوبات صارمة في حال قامت بفتح تحقيقات تتعلق بالجرائم التي ترتكبها الجيوش الغربية في العالم وهذا بالفعل ماحدث في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة عقب فتح تحقيق بشأن جرائم للجيش الأمريكي في أفغانستان. لقد ولدت المحكمة الدولية كمشروع أممي ولادة قيصرية جعلتها كائناً ممسوخاً من البداية، فلم تكن الحاجة لوجودها بإجماع عالمي بقدر ما جعلتها المنظومة الغربية أحد أسلحتها مع انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وبداية انهياره. فعقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية تم إقرار الفكرة عقب إنشاء الأمم المتحدة لكن تم تجاهلها لتعود إلى الواجهة عام 1989 بعد أن طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من لجنة القانون الدولي لصياغة مشروع قانون لهذه المحكمة عام 1994، وقد تم تبني نسخته النهائية بعد 4 سنوات وعرف باسم "نظام روما الأساسي"، الذي ترجم إلى تأسيس محكمة الجنايات الدولية.

رغم وجود علاقة شرعية لكنها غير صارمة بين الأمم المتحدة والمحكمة الدولية إلا أنها لا تزال تمثل إشكالية بين الدول الكبرى فقد رفضت الصين الانضمام إلى المحكمة ورفضت كذلك عدد من الدول التوقيع على ميثاق روما الأساسي، كما رفضت أيضاً تبعية المحكمة لمجلس الأمن الدولي لاعتبارات تتعلق بوجود سلطات غير متكافئة تتحكم فيها الدول الكبرى قد تؤثر على المحكمة لذلك حققت المحكمة فشلاً ذريعاً في الكثير من التحقيقات لاسيما عقب رفض الولايات المتحدة و"إسرائيل" الانضمام إليها لرفضهما الواضح للخضوع للقانون الدولي.

شكلت فترة تولي المحامي الارجنتيني لويس أوكامبو، مهام المدعي العام في المحكمة بين عامي 2003 و 2012 فترة اختبار مهمة لمهام المحكمة وصلاحياتها، فقد بدأت باستهداف الدول الافريقية وبرزت كثيراً عقب إصدار مذكرات توقيف بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير على خلفية المعارك في منطقة دارفور بين عامي 2009 و 2010 وكذلك استدعاء الرئيس الكيني اوهورو كينياتا على خلفية ملفات عنف مرتبطة بالانتخابات لكن تلك الخطوات التي نفذتها المحكمة كانت كفيلة بإعتبار المحكمة جزء من منظومة النفاق الغربي للرقابة على العالم الثالث لاسيما وان تلك التحقيقات كانت تجري وسط تجاهل تام للمحكمة للجرائم التي كانت جيوش الناتو ترتكبها في العراق وافغانستان، وهذا الأمر أكده فشل محاولات بنسودا لفتح تحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق وهجمات الجيش البورمي على المسلمين الروهينغا في ميانمار وجرائم الجيش الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وفي ديسمبر 2020 بدأت بنسودة بإظهار تراجع أمام العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية عقب تراجعها عن مقاضاة جنود بريطانيين قاموا بارتكاب جرائم حرب في العراق. لذلك جرى تعيين المدعي العام الحالي كريم خان بعد تدقيق كبير ودورتين انتخابيتين سريتين وجولات مفاوضات بين أعضاء المحكمة أفضت إلى تكليف المحامي المتخصص في القانون الجنائي الدولي لتولي هذه المهمة، وقد برز اسم خان سابقاً في ملفات محاكمة شخصيات مثل سيف الإسلام القذافي وقاد كذلك فريق الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم تنظيم "داعش" في العراق، وهذا الأمر كفيل بإيضاح الطريق الذي قد يسير فيه خان دون الخروج عن المسار الذي حددته المنظومة الغربية سلفاً للمحكمة.

ورغم إلغاء إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن العقوبات على مسؤولي المحكمة إلا أن واشنطن بجناحيها الجمهوري والديمقراطي ترفض الانضمام إلى المحكمة والتعاون معها وهذا الأمر كفيل بتفسير الغاية من وجودها، فحينما طرحت المحكمة الملف الفلسطيني للتحقيق وضعت الفلسطينيين والجيش الصهيوني في نفس الكفة وبدلاً من التركيز على محاسبة الجيش على جرائمه في حرب 2014 ركزت على الفلسطينيين بصفتهم طرف مدان يحمل السلاح ويهاجم الإسرائيليين.

إن الصورة الإعلامية والسياسية التي وضعها الغرب لمحكمة الجنايات الدولية بصفتها منظمة عالمية تكشف حجم نفاق النظام العالمي الذي يصدرها بصفتها ممثل للقانون الدولي بينما تؤكد أفعاله على الأرض أن لديه مشكلة مع شرعية المحكمة وصلاحياتها وقدرتها على ملاحقة مجرمي الحرب الغربيين لذلك لايمكن تصنيف المحكمة سوى أداة للرقابة على بلدان العالم الثالث وجزء من سياسيات الإخضاع الغربي للأوتقراطيات السياسية الخاضعة له.

 

 

 

 

أعلى