فضحت المعركة التي بادرت بها المقاومة فشل كل أجهزة الاستخبارات والتقدير في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بدليل أن أي منها لم يشعل الضوء الأحمر أمام قيادة الدولة السياسية محذراً من مبادرة حماس لعملية عسكرية كبيرة
"لن يخرج السنوار والضيف وهما يرفعان الراية البيضاء ويتوسلان وقف إطلاق النار".
هذا ما كتبه الصحفي الإسرائيلي رون بن يشاي في صحيفته يديعوت أحرنوت ويقصد الصحفي
الصهيوني يحيي السنوار قائد حماس في قطاع غزة وتعتبره الأوساط الأمنية الإسرائيلية
الرجل القوي في حماس والمقرب من القسام، أما محمد أبو ضيف فهو الشخص الخفي (بتعبير
خبير إسرائيلي) والذي يعتبر القائد الأعلى لكتائب القسام الجناح العسكري لحماس
المسيطرة على قطاع غزة.
ولكن بعد اجتماع أمني مصغر للحكومة الصهيونية أمس الاثنين، فإن رئيس الوزراء
الصهيوني بنيامين نتانياهو يصر على استمرار العملية العسكرية، وتقول صحيفة يديعوت
أحرنوت نقلا عن أحد المسئولين الذين حضروا هذا الاجتماع، أنه لن تكون تهدئة قبل يوم
الخميس القادم على الأقل.
ونقلت قناة سي إن إن الأمريكية عن قيادي في حماس أن حماس رفضت الهدنة قبل أن ترفضها
إسرائيل، وخرج الناطق باسم حماس ليجدد شروط المقاومة لوقف الحرب، وهي أن توقف
إسرائيل اعتداءاتها على المسجد الأقصى والفلسطينيين في قطاع غزة، وأن توقف إجراءات
طرد السكان من حي الشيخ جراح.
ويعلنها صراحة نتانياهو: العملية العسكرية في غزة متواصلة لأيام قادمة وسوف تتغير
المعادلة بعدها.
وهنا السؤال لماذا الإصرار الصهيوني هذا على التصعيد وما هي المعادلة التي يأمل
نتانياهو أن تتغير؟
لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية من خلال هذه الحرب، تطبيق استراتيجية جديدة نقلتها
إلى مربع جديد في ساحة مواجهتها مع العدو الغاصب، هذه الاستراتيجية تقوم على ثلاثة
رءوس هي: المبادرة – الردع – الحشد.
أولا/ المبادرة:
في يناير الماضي قال رئيس أركان جيش الاحتلال الاسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي، في
كلمته أمام المؤتمر السنوي الذي نظمه معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (INSS)
تحت عنوان الحاجة لإعادة تعريف الأمن القومي في ظل نظام دولي جديد: ان أي من أعداء
إسرائيل على الجبهات التي نحارب فيها في وقت واحد سواء في سوريا أو لبنان أو غزة أو
الضفة الغربية أو إيران لا يفكر في المبادرة لمهاجمة إسرائيل.
يعني أن إسرائيل فوجئت بما قامت به المقاومة الفلسطينية الأسابيع الماضية، عندما
بادرت بالهجوم على إسرائيل وإطلاق الصواريخ على القدس وغيرها، ردا على ترحيل
الفلسطينيين من حي الشيخ جراح واقتحام المسجد الأقصى من قبل المتطرفين اليهود.
لقد فضحت المعركة التي بادرت بها المقاومة فشل كل أجهزة الاستخبارات والتقدير في
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بدليل أن أي منها لم يشعل الضوء الأحمر أمام قيادة
الدولة السياسية محذراً من مبادرة حماس لعملية عسكرية كبيرة، إذا ما استمرت إسرائيل
في تغولها على القدس والأماكن المقدسة.
إذن سيف القدس هي الحرب الأولى فلسطينيا، التي تقرر المقاومة الفلسطينية فيها
المبادرة إلى الحرب، وتحدد ساعة الصفر لانطلاقها. وهي الحرب الثانية عربياً، بعد
حرب أكتوبر 1973، التي يبدأ بها العرب. وجميع الحروب الأخرى كانت بمبادرة الكيان
الصهيوني، ابتداء من حرب النكبة والعدوان الثلاثي والنكسة، وانتهاء بحروب غزة
الثلاث، وآخرها حرب عام 2014، مرورا بحرب لبنان الأولى عام 1982، وحرب لبنان
الثانية عام 2006، بالإضافة إلى عشرات المعارك والعمليات العسكرية الأخرى.
وهذه المبادأة تعكس الثقة الفلسطينية بالنفس والتي تغذيها العقيدة القوية التي يؤمن
بها رجالات المقاومة.
ثانيا/الردع:
تنوعت أسلحة المقاومة الفلسطينية والتي واجهت بها إسرائيل، من حيث استخدامها أسلحة
لأول مرة أو أسلحة قديمة جرى تطويرها وتوظيفها بشكل مغاير، ومن حيث مفاجآت جديدة
دائما يتم التلويح بها دائما ولم يكشف عنها بعد.
فقائد الجبهة الداخلية الإسرائيلية الجنرال أوري غوردين يعترف بأن ثلاثة آلاف صاروخ
تم اطلاقهم على إسرائيل في غضون أسبوع واحد، وهي وتيرة غير مسبوقة في تاريخ حروب
اسرائيل على حد تعبير القائد الصهيوني.
والمصادر الإسرائيلية تقول ان حماس لديها 16 ألف صاروخ، بينما تقدرها مصادر أخرى
بنحو 12 ألف صاروخ، ولكن بصرف النظر عن الأعداد الحقيقية فالمتحدث باسم الجيش
الإسرائيلي يقول: انه إذا أرادت حماس الاستمرار في استهداف إسرائيل فإنها تمتلك ما
يلزمها للقيام بذلك.
أما عن كفاءة تلك الصواريخ فتشير صحيفة الفاينيشال تايمز البريطانية بعد عدة أيام
من الحرب إلى أن حماس والمقاومة الفلسطينية أطلقت 1050 صاروخ من غزة، 200 فقط ما تم
اسقاطه بالقبة الحديدية و850 صاروخ وصلت لأهدافها، أي بنسبة تقترب من 20 %. بينما
هناك مراكز أبحاث إسرائيلية تتحدث عن كفاءة القبة الحديدة تتراوح ما بين 25 إلى 65
%.
وتبلغ تكلفة صاروخ حماس من 300 إلى1000 دولار، بينما صاروخ القبة الحديدية يصل
تكلفته من 35 ألف دولار إلى 65 ألف دولار، مع الأخذ في الاعتبار أن كل صاروخ
للمقاومة سيتعامل معه صاروخان من القبة الحديدية لكي ينجح في اسقاطه.
ولعلنا نتذكر أنه في أول حرب على غزة منذ عشرين عاما بلغ أول صاروخ للقسام مداه
حينها 3 كم، أما الآن فنتحدث عن صواريخ مداها يصل إلى 250 كم تطال محيط مطار بن
جوريون، وتطال القدس، وتطال أشدود وعسقلان وبئر السبع.
والمثير في الأمر أن هذه الصواريخ صناعة فلسطينية في الأساس، يقول الصحفي
الاسرائيلي عاموس عوز في قناة 12 الاسرائيلية: ان كل ما يطلق علينا لم يصل من إيران
ولا من سيناء ولا من السودان كله صنعته غزة بنفسها، بينما يعدد خبير إسرائيلي على
قناة الحرة مصادر تكنولوجيا الصواريخ التي حصلت عليها المقاومة فيقول: من الانترنت
فالمعلومات متاحة عليه، ومنها إيران التي حرصت على تزويد الجهاد الفلسطيني في
الأساس ثم حماس، ومن هذه المصادر المهندسين الفلسطينيين الذين تلقوا تعليمهم في
الخارج.
أكبر أثر هذه الصواريخ ليس تأثيرها المادي فقط ولكن تأثيرها المعنوي والنفسي
والمجتمعي، فهذه أربعة زوايا ينبغي النظر إليها عند الحديث عن التأثير.
فهناك صواريخ وصلت إلى مطارات ومدن بعيدة في شمال إسرائيل تبعد عن غزة 220 كلم بصرف
النظر عن دقتها، كذلك عندما نتحدث عن الطلب من 5.5 مليون النزول للملاجئ، أو تحويل
الطائرات بعيدا عن المطارات الإسرائيلية، أو اجلاء الأمريكان من إسرائيل.
فمنذ انشاء الكيان عام 1948 والمواطن الإسرائيلي في المدن الساحلية والداخلية كان
يشعر بالأمان الآن الوضع المختلف.
ويتحدث الخبير العسكري الأردني فايز الدويري عن القبة الاسرائيلية والتي تتصدى
لصواريخ المقاومة فيقول: القبة الحديدية كانت في البداية تسمى القبة الذهبية، ثم
جرى تخفيض مستواها إلى القبة الحديدية، وقد تعاملت معها المقاومة بطريقة ذكية، حيث
تطلق عدد كبير من الصواريخ في نفس التوقيت، وفي نفس الوقت تختلف زوايا الاطلاق،
فمنها من ينطلق بزاوية منخفضة ومنها من ينطلق بزاوية مرتفعة مما يقلل من فاعلية
القبة الحديدية وقدرتها على تتبع هذه التباينات، كذلك أضيف على هذه الصواريخ بعض
أجهزة التشويش لكي تضلل صواريخ القبة الحديدية.
لقد اعترف جنرالات إسرائيل بقدرات هذه الصواريخ، فهذا اللواء في الاحتياط
الإسرائيلي إيتاي بارون فيقول: صواريخ غزة شوشت حياة ملايين الإسرائيليين، وقدرة
إسرائيل على ضرب المنظومة الصاروخية محدودة لوجودها تحت الأرض، فيما قال مستشار
الأمن القومي السابق يعقوب عميدرور: الجيش الإسرائيلي لا يستطيع وقف إطلاق الصواريخ
من غزة، يبدو أن ذلك يتجاوز قدرته.
ولم تقتصر وسيلة الردع الفلسطينية على الصواريخ فقط فقد استخدمت لأول مرة الغواصات
المسيرة، وقد تحدثت عنها الصحفية الإسرائيلية طال شنيدر فقالت: لدى حماس غواصات
مسيرة انتحارية وصواريخ قادرة على ضرب حقول الغاز الصهيونية وساسة إسرائيل وعسكرها
تكتموا على هذا الخطر.
ويقول صالح النعامي الباحث الفلسطيني المتخصص في الشأن الإسرائيلي: ما يثير استفزاز
الكثير من النخب الصهيونية حقيقة أن إسرائيل التي تنفذ مئات الغارات في سوريا،
العراق ومئات العمليات السرية في إيران دون أن تواجه برد يذكر تعجز عن ردع مقاومة
غزة والمس بدافعيتها للقتال والمواجهة
ولكن ما يمكن اعتباره انجاز استراتيجي للمقاومة هو تعطيل العمل بخط أنبوب إيلات
عسقلان، وهو المشروع الذي تقدمه إسرائيل كبديل عن قناة السويس، فاضطر الصهاينة
لإغلاق بعض منصات استخراج الغاز وهذا يقلص رغبة الشركات العالمية في الاستثمار في
قطاع الغاز.
ثالثا/ الحشد
لقد نجحت المقاومة الفلسطينية طيلة الأيام الماضية في ادخال عامل جديد لم يكن
متواجدا في مواجهاتها السابقة مع إسرائيل وهو ادخال عرب 48 في المواجهة، أصبحنا
نتحدث يوميا عن مواجهات القرى العربية في أم الفحم وحيفا ويافا وغيرها من المناطق
التي يتواجد فيها فلسطينيو الداخل بكثافة.
وبالطبع تحركت مدن الضفة في رام الله والبيرة ونابلس وبيت لحم وجميع قرى ومدن
الضفة، ليكون هتافها موحدا "حط السيف قبال السيف احنا رجال محمد ضيف".
هكذا استطاعت المقاومة أن توحد الأجزاء الفلسطينية الثلاثة: غزة والضفة والمثلث، في
تناغم واستراتيجية واحدة غير مسبوقة الأمر الذي أربك الاحتلال الإسرائيلي وأصابه
بالإحباط والاضطراب.
ويتحدث الصحفي الصهيوني جيف كراوز عن هذا الإنجاز فيقول: إسرائيل تضلل جمهورها بهدف
إقناعه بأن تدمير عدد من الأنفاق وقتل عدد من مقاتلي (حماس) بشبه اقتحام نورمندي،
هذا فقط انجاز تكتيكي، في حين هزمتنا حماس استراتيجيا، فقد صفت مكانة السلطة
الفلسطينية وربطت فلسطيني الداخل بالنضال الفلسطيني من أجل تدمير إسرائيل.
سيطول أمد الحرب حتى تكسر إسرائيل هذه الثلاثية للمقاومة: محاولة قص أجنحة المقاومة
وقدرتها على المبادأة، ثم الردع المضاد وجعل الفلسطينيين يدفعون الثمن غاليا بمزيد
من قصف البيوت وقتل المدنيين وتدمير البنية التحتية الفلسطينية، وأخيرا محاولة فك
اللحمة الفلسطينية والايقاع بين المكونات الفلسطينية الثلاث بسياسة العصا والجزرة.
ولكن كل المؤشرات على الأرض لا توحي بنجاح استراتيجيتها تلك والفلسطينيون ماضون في
طريقهم نحو النصر المنشود وان طال الزمن.