خاضت إسرائيل وحماس ثلاث حروب منذ أن تولت حماس شؤون السلطة في قطاع غزة، وانتهت الصراعات الثلاث بعد أن أقنعت القوى الإقليمية والدولية الجانبين بقبول هدنة غير رسمية
"سنوجّه إليهم ضربات لم
يتخيلوها، وهذه مجرد بداية فقط"؛ هكذا هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
باتخاذ مزيد من الإجراءات المؤلمة إزاء فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة
حماس، كان نتنياهو يتحدث منتشيًا بعد استشهاد عدد من قيادات فصائل المقاومة خلال
الغارات التي تشنها طائرات جيش الاحتلال على قطاع غزة، وبالرغم من أن العملية
العدوانية التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "حارس الأسوار"، تستهدف المدنيين والمباني
السكنية والخدمية بشكل مباشر في القطاع، إلا أن القادة الإسرائيليين قد دأبوا منذ
اللحظة الأولى على تصويرها على أنها دفاع عن النفس، على الجانب الآخر كان للمقاومة
الفلسطينية رأيها الخاص في التعامل مع الموقف ـ وبشكل مخالف للعقيدة العسكرية
الإسرائيلية ـ قد تمكنت، وربما للمرة الأولى في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية
منذ ما بعد حرب 1948، من نقل الحرب إلى داخل العمق الإسرائيلي، إذ بدأت فصائل
المقاومة الفلسطينية بالرد على تلك الغارات برشقات متتالية من الصواريخ التي طالت
العديد من المدن المحتلة، وصولًا إلى تل أبيب، وكانت العملية التي تناصر من خلالها
أهل القدس والمصلين بالمسجد الأقصى، أطلقت عليها اسم "سيف القدس"، بمثابة مفاجأة
صادمة للمجتمع اليهودي الذي تدوي صافرات الإنذار في شوارعه كل ساعة تقريبًا.
شرارة الغضب
على مدى عقود؛ كانت
المنظمات الإسرائيلية الموالية للمستوطنين تهدف إلى طرد الفلسطينيين من منازلهم
بالقدس الشرقية، واستبدالهم بمئات العائلات اليهودية التي تزعم أن تلك المنازل كانت
تمتلكها ذات
يوم، ولطالما كان ذلك مصدر توتر شديد في القدس، لا سيّما في حي الشيخ جراح، حيث
تفاقم الغضب في أبريل الماضي مع استمرار قضايا الإخلاء في المحاكم الإسرائيلية، مما
دفع شرطة الاحتلال إلى زيادة تواجدها في جميع أنحاء المدينة والتشاجر العنيف مع
المواطنين الفلسطينيين الذين يدافعون عن منازلهم ضد المغتصبين اليهود، تصاعدت
المواجهات وتطورت الأمور إلى أن قامت السلطات الإسرائيلية بالتضييق على الفلسطينيين
ومنعهم أحيانا من الصلاة في المسجد الأقصى في أقدس ليالي شهر رمضان الفضيل، فيما
سمحت للإسرائيليين اليمينيين والمتطرفين بالسير في شوارع البلدة القديمة في القدس
وتدنيس ساحات الأقصى، وهو تقليد سنوي استفزازي يحتفل باحتلال اليهود للقدس الشرقية
منذ حرب 1967، وضمّها لها كعاصمة مستقبلية لدولتها المزعومة، كانت هذه المسيرة هى
شرارة الغضب التي أدت إلى تصاعد الأحداث بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال.
في
المسجد الأقصى، أقدم الفلسطينيون على رشق الحجارة، فرد الاحتلال بإطلاق الرصاص
والقنابل الصوتية، ومع تطور الاشتباكات.. أطلقت فصائل المقاومة عدة صواريخ على
الأراضي المحتلة ردًا على العدوان الإسرائيلي، وقد كان التهديد بإطلاق المزيد من
الصواريخ أمرًا حقيقيًا لدرجة أن أعضاء الكنيست اضطروا إلى إخلاء المبنى في منتصف
جلسته، لتبدأ معركة أكبر لا تزال تتوسع حتى الآن، فيما يُوصف بأنها
أعنف أعمال عنف منذ حرب غزة عام 2014، ولا يلوح حتى الآن أي حل في الأفق،
خاصةً بعد أن أعلن
نتنياهو رفض إسرائيل أيّ مقترحات لوقف العملية العسكرية في غزة، مؤكدًا أيضا أنه لا
يخطط لتقييد نشاط المستوطنين في القدس، أو حتى تعليق البناء في المدينة التي يقول
إنها عاصمة الأمة اليهودية منذ آلاف السنين، ويرى أنه "مثلما تبني كل أمة عاصمتها
وتبني في عاصمتها، نحتفظ أيضًا بالحق في بناء القدس والبناء فيها".
حارس
لا يحرس!
اتخذ الصراع الآن العديد من السمات المميزة عن نظيره السابق الذي دام 50 يومًا بين
إسرائيل وحماس في 2014، فقد اندلعت للمرة الأولى احتجاجات كبيرة وعنيفة من قبل عرب
إسرائيل لدعم الفلسطينيين في القدس وغزة، وهو وضع جديد لم تشهده إسرائيل منذ
نشأتها، وقد عبّر عنه الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، حين قال إن "الحرب اندلعت
في شوارع إسرائيل، والأغلبية هنا مذهولة ومندهشة ولا تصدق ما تراه، فنحن نخلق وضعًا
نسمح فيه بالحرب الأهلية لأننا صامتون"، من السمات الأخرى أن استراتيجية حماس
وفصائل المقاومة قد باتت تتلخص في التغلب على نظام القبة الحديدية الدفاعي، الذي
يتتبع الصواريخ القادمة ويسقطها، ولطالما روّجت إسرائيل بأن أخطاء هذا النظام
نادرة، ولكن رؤية الحرائق والإصابات البشرية في الداخل الإسرائيلي الآن تكشف عكس
ذلك تماما، فبطاريات الصواريخ باهظة الثمن لم تستطع حماية المدنيين بشكل كامل تماما
كما كان يروّج لها، وللمرة الأولى منذ سنوات تُسمَع صافرات الإنذار في قلب تل أبيب
وبالقرب من مفاعل ديمونة النووي، وتُفتَح الملاجئ في مختلف المدن المحتلة، كما تم
توجيه كافة الطائرات من مطار بن غوريون إلى قبرص واليونان، وهى سابقة نادرًا ما
تحدث، وكأن "حارس الأسوار" لا يستطيع حراستها!
لقد
خاضت إسرائيل وحماس ثلاث حروب منذ أن تولت حماس شؤون السلطة في قطاع غزة، وانتهت
الصراعات الثلاث بعد أن أقنعت القوى الإقليمية والدولية الجانبين بقبول هدنة غير
رسمية، وفي كل مرة كانت إسرائيل تواجه انتقادات شديدة بسبب قصفها العشوائي للمباني
السكنية والمدنيين في قطاع غزة، وهذه هى إحدى الجرائم التي تخضع الآن لتحقيق من قبل
المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب، لكن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة وترفض
هذا التحقيق، بعيدًا عن المواجهات.. لا يزال من غير الواضح كيف سيؤثر القتال في غزة
على مستقبل نتنياهو السياسي، لقد فشل في تشكيل ائتلاف حكومي بعد انتخابات برلمانية
غير حاسمة في مارس الماضي، وأمام منافسيه السياسيين الآن 3 أسابيع فقط لمحاولة
تشكيل حكومة جديدة، لكن كلما طال أمد القتال، زاد احتمال إعاقة محاولاتهم للتحالف،
وفي النهاية سيكون مصيرهم الفشل، ومن المحتمل أن يعزز ذلك من موقف نتنياهو إذا تم
إجراء انتخابات أخرى، لأن الأمن هو حجته القوية والمقنعة للناخبين الذين سئموا من
صراعات السياسيين والأحزاب على السلطة.
اختبار
لبايدن
تصرفات إسرائيل في القدس
الشرقية هي اختبار آخر أيضا، هذه المرة لحقوق الإنسان بالنسبة للرئيس الأمريكي جو
بايدن، فإدارته قالت في أكثر من مناسبة إنها تضع حقوق الإنسان في قلب سياستها
الخارجية، وبشكل غريب عندما جاءت فرصتها لإثبات ذلك حيال القضية الفلسطينية، كان
الفشل هو العنوان العريض، فقد فشلت مساعي بايدن وكبار أعضاء فريقه في وقف العنف
وتجنب صراع أوسع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولم يستطع حتى التحدث بقوة ضد
تصرفات حليفه نتنياهو، اكتفى بايدن بالتعبير ـ خلال اتصال هاتفي مع نتنياهو ـ عن
أمله وتفاؤله في انتهاء الصراع عاجلًا وليس آجلًا، وفي نفس الوقت أكد على دعمه
المطلق لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وهذا التأكيد قد كرره وزير دفاعه لويد
أوستن في مكالمة أخرى مع نظيره الإسرائيلي بيني غانتس، بالرغم من ذلك فإن الدعوات
في الحزب الديمقراطي لبايدن تتزايد للعب دور أكثر نشاطًا في هذا الصراع، فبعض
الليبراليين يحثونه على تحدي النشاط الاستيطاني الإسرائيلي بحزم أكبر، مما يجعل
التوصل إلى حل سلمي مع الفلسطينيين أكثر سهولة.
قد تبدو إدارة بايدن قلقة
ظاهريًا بشأن العنف الذي تمارسه إسرائيل، لكن تصريحاتها العلنية تندد بهجمات حماس
الصاروخية، والتي وصفها البيت الأبيض بأنها "تصعيد غير مقبول"، يبدو أن إدارة بايدن
ترى أن التكاليف السياسية للوم إسرائيل تفوق بكثير فوائد التمسك بسياستها الخارجية
والتي تتمحور اسميًا حول حقوق الإنسان، لذا فقد اكتفت
ببيانات سطحية وتصريحات فاترة حول هذه القضية التي تدعو من خلالها المسؤولين
الإسرائيليين والفلسطينيين إلى التحرك لتهدئة التوترات ووقف العنف، وهو ما يؤكد أن
القضية الفلسطينية ليست ضمن اهتمامات إدارة بايدن أو معظم الأمريكيين، وهذا أمر
مفروغٌ منه، فأولوية بايدن القصوى في الشرق الأوسط هى محاولة استعادة الاتفاق
النووي مع إيران، وهو الأمر الذي عارضه نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين
منذ فترة طويلة، كما أن الأوضاع في فلسطين وإسرائيل ـ ومنذ تولي بايدن منصبه ـ وهى
تشهد تقلبًا سياسيًا هائلاً، فإسرائيل مستمرة في جهودها الفاشلة لتشكيل حكومة
دائمة، أما الفلسطينيون فقد فشلوا في التوجه نحو الصناديق وتم تأجيل انتخاباتهم،
وهذا مصدر آخر للاضطرابات وتعقيد الجهود المبذولة لابتكار سياسة أمريكية واضحة حيال
القضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، فالشريك الإسرائيلي (وهو نتنياهو الآن) يكافح من
أجل التمسك بالسلطة، أما الشريك الفلسطيني (وهو الرئيس محمود عباس) فإن تأثيره على
إطلاق الصواريخ والاحتجاجات والأوضاع بشكل عام، يكاد يقترب من الصفر.
سيف
القدس
لطالما واجهت حماس معضلة حين تحاول تحقيق التوازن بين دورها كحكومة لغزة وباعتبارها
جماعة مقاومة رائدة ضد إسرائيل، منذ عام 2007، نجحت حماس في الاحتفاظ بالسلطة على
الرغم من الضغوط الإسرائيلية والدولية، غالبًا ما تدفع غزة ثمنًا باهظًا في الحرب،
لكن حماس ومعها باقي فصائل المقاومة العسكرية غالبًا ما تخرج بانجاز كبير وبقدر كاف
كي تسوغ نصرًا مهمًا في نظر سكان القطاع وفلسطين، بل وفي نظر العالم العربي
والإسلامي بأكلمهما، وبغض النظر عن التدمير والخسائر التي تلحق بالقطاع فإن اهتزاز
هيبة ومكانة جيش الاحتلال في حد ذاتها تمثل انتصارًا معنويًا كبيرًا للفلسطينيين في
قضيتهم العادلة صد الاحتلال الإسرائيلي، وبالرغم من أن معركة "سيف القدس" الحالية
ليست كغيرها من حيث العمليات السابقة للمقاومة، سواء من حيث الأهداف أو الأسلوب أو
الأدوات، فقد كان الاحتلال الإسرائيلي مطمئن في البداية من أنها ستكون مجرد رد باهت
بعدة صواريخ تسقط في مناطق مفتوحة بعيدة عن المباني والأرواح، لكن كانت المفاجأة
حين سقطت تلك الصواريخ في الجبهة الداخلية، والتي تعدّ خاصرة إسرائيل الضعيفة.
أثبتت
المقاومة الفلسطينية أيضا أن العزلة لم تمنع غزة من النمو العسكري، ربما جعلت الوضع
الاقتصادي مترديًا، لكنها لم تؤثر على الزخم العسكري للفصائل المسلحة، وحتى في ظل
تغير الشرق الأوسط سياسيًا وتراجع الأمل في الدعم الخارجي، فقد ظلت القضية
الفلسطينية حاضرة في أذهان الناس، وتثير اهتمام العالم من وقتٍ لآخر وسط التحولات
الكبرى التي كانت تتلاحق، مثل نقل الولايات المتحدة لسفارتها إلى القدس وتوقيع
اتفاقيات التطبيع، وكانت إسرائيل تأمل في أن تتضاءل جاذبية حماس وغيرها من فصائل
المقاومة من خلال العزلة والعقاب العسكري، لكن ما حدث مؤخرًا هو العكس تماما،
إسرائيل تضرب غزة الآن بشدة وقد تتصاعد ضرباتها أكثر، وربما تدخل بريًا، مما يؤدي
إلى سقوط المزيد من الشهداء والمنازل هناك، لكن حماس أيضا ستواصل هجماتها الصاروخية
رداً على ذلك، وبالرغم من الخسائر على الجانبين والتأييد الذي يحظى به كل طرف؛
سينتظر الجميع لمعرفة من المنتصر.. سيف القدس أم حارس الأسوار؟!