ثمة مؤشرات عديدة تدعو الى الاعتقاد بأن التوتر والتصعيد في أوكرانيا ربما تم التخطيط له أمريكيا كرد على التدخل الروسي في ليبيا عبر قوات الفاجنر
"أي تصعيد يمكن أن يمثل بداية النهاية لأوكرانيا، وليس رصاصة في الساق لكن في
الوجه"
هذه المقولة أتت في سياق تحذير غير مسبوق إلى أوكرانيا وجهه مسئول روسي كبير، حيث
قال ديمتري كوزاك المسؤول في الرئاسة الروسية: إن القوات الروسية يمكن أن تتدخل
للدفاع عن مواطنيها، وأضاف: يعتمد كل شيء على احتدام الصراع، وشبّه كوزاك الوضع
الحالي للأوكرانيين من أصل روسي بمذبحة سربرنيتسا وهي المدينة الواقعة في البوسنة
والهرسك، والتي شهدت مقتل 8000 مسلم على يد قوات صرب البوسنة في عام 1995، وقال
المسئول الروسي: إذا دُبرت أحداث هناك كما يقول رئيسنا مماثلة لسربرنيتسا، فربما
نضطر للدفاع عنهم....طبعا لم يذكر الرجل أن الروس كانوا أكبر داعمين للصرب في ذبحهم
للمسلمين هناك.
ولكن ما الذي دفع المسئول الروسي ليطلق هذه التصريحات؟
فقد تصاعدت في الأيام الأخيرة التوترات في منطقة البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا
الأمر الذي بات ينذر بحرب بين البلدين.
وقد جاء هذا التوتر بعد الإعلان عن مناورات سيجريها حلف الناتو مع أوكرانيا في
البحر الأسود في يونيو القادم حيث ترى روسيا أن الهدف من المناورات، هو إعادة سيطرة
أوكرانيا على القرم، وكرد على هذه المناورات، بدأت روسيا تحرك جيشها على الحدود
الأوكرانية حيث تزعم إنه سيتدخل لحماية الأوكرانيين من أصل روسي، والذين تقدرهم بعض
المصادر بما يقرب من ثمانية مليون من ذوي الأصول الروسية ويتركزون في شرق أوكرانيا،
وسط شعب تعداده أكثر من أربعين مليون، في حين أعربت الولايات المتحدة عن قلقها مما
يحدث عبر المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي، والتي ذكرت أن عدد القوات الروسية
هناك يعد الأعلى منذ عام 2014 عندما بدأ الصراع في شرقي أوكرانيا ووصفت الوضع بأنه
مقلق للغاية، بينما قال مسؤول عسكري أميركي إن بلاده تبحث إرسال سفن حربية إلى
البحر الأسود خلال الأسابيع المقبلة، لإظهار الدعم لأوكرانيا ردا على الحشد الروسي
المتصاعد شرق هذا البلد، ونقلت شبكة "سي إن إن" عن مسؤول بوزارة الدفاع الأميركية
(البنتاغون)، أن طائرات البحرية حلقت فوق البحر الأسود لمراقبة النشاط البحري
الروسي، وكان البنتاغون أعلن الأسبوع الماضي أن القوات الأميركية بأوروبا رفعت
مستوى تأهبها بعد التصعيد الأخير للعدوان الروسي شرق أوكرانيا، وطمأن الرئيس بايدن
نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بدعمه الثابت.
وفي مؤشر آخر على خطورة الوضع، زار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المنطقة
يوم الخميس الماضي لتفقد مواقع التصعيد، وأجرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل
اتصالا هاتفيا مع الرئيس الروسي بوتين، ودعت روسيا إلى تهدئة التوترات من خلال خفض
تعزيزات قواتها، بينما اتهم بوتين خلال نفس الاتصال، أوكرانيا بتأجيج الوضع في شرقي
البلاد.
وتعد جذور هذه التوترات وهذا الصراع بين أوكرانيا وروسيا إلى ما بعد سقوط الاتحاد
السوفيتي في أواخر ثمانينات القرن الماضي، فقبل سقوط الاتحاد السوفيتي كانت
أوكرانيا ثاني أكبر جمهوريات من حيث عدد السكان، حيث كانت تضم كثيرا من الإنتاج
الزراعي والصناعات العسكرية الدفاعية للاتحاد السوفييتي بما في ذلك أسطول البحر
الأسود وبعض الترسانات النووية.
ولكن بمجرد أن تأكد الجميع أن الإمبراطورية السوفيتية على وشك السقوط، قامت
أوكرانيا بقطع العلاقات عام 1991، وبعدها سارت توجهات أوكرانيا تجاه الغرب ممثلا في
الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ولكن كان الداخل في أوكرانيا منقسما على نفسه بين غالبية أوكرانية من أصل الدولة
تريد الاتجاه نحو الغرب، وبين أقلية من أصول روسية تريد دعم الارتباط بروسيا.
وفي 2014 أعلنت روسيا عن ضم منطقة القرم إلى أراضيها، وفي أعقاب ذلك استولى
الأوكرانيون من أصل روسي بدعم جنود من الجيش الروسي على منطقتي دونيتسك ولوهانسك في
شرق أوكرانيا.
ثم تجدد الصراع مرة أخرى عام 2016، عندما ذكرت أوكرانيا أن روسيا زادت وجودها
العسكري على طول خط حدود القرم، وأعقب ذلك اغلاقها للمعابر الحدودية حيث أعلنت
روسيا مقتل جنديين وجرح 10 في اشتباكات مع قوات الكوماندوز الأوكرانية في (القرم)،
وحذر وقتها الرئيس الأوكراني من أن روسيا كانت تستعد لغزو شامل لأوكرانيا.
وفي عام 2018 وبالقرب من مضيق كيرتش الذي تسيطر عليه روسيا، أطلقت سفن حربية روسية
النار على ثلاث سفن أوكرانية، وبعدها بيوم واحد أيد المشرعون في البرلمان الأوكراني
بشكل ساحق فرض الأحكام العرفية على طول المناطق الساحلية الأوكرانية والمناطق
المتاخمة لروسيا، رداً على إطلاق روسيا النار على السفن البحرية الأوكرانية
والاستيلاء عليها بالقرب من شبه جزيرة القرم قبل يوم واحد.
والمتأمل في هذا الصراع يرى أنه يتصاعد ثم ما يلبث أن يهدأ مرة أخرى، ويبقى السؤال
ما الذي أجج الوضع الآن مرة أخرى في هذا التوقيت؟
ثمة مؤشرات عديدة تدعو الى الاعتقاد بأن التوتر والتصعيد في أوكرانيا ربما تم
التخطيط له أمريكيا كرد على التدخل الروسي في ليبيا عبر قوات الفاجنر.
فبالإضافة إلى أن أمريكا تعتمد على مقولة زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي
الأمريكي الأسبق في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى والتي يقول فيها: إن هيمنة روسيا على
أوكرانيا كفيلة بعودة الاتحاد السوفييتي السابق مرة أخرى، والتي تكشف عن نظرة
الولايات المتحدة وهدفها في هذا الصراع الدائر في هذه المنطقة على أنه تحد لعودة
ظهور قوة روسيا مرة أخرى كقوة مهيمنة منافسة بشدة لأمريكا في سلم النظام العالمي.
إلى أن الولايات المتحدة تريد أن تستخدم الورقة الأوكرانية كوسيلة لإجبار الروس على
ترك ليبيا والاكتفاء بصفقات اقتصادية فقط دون أي وجود عسكري روسي في هذه المنطقة.
فروسيا تحاول تطويق أوروبا جنوبا بتدخلها في ليبيا بإقامة قاعدة عسكرية لها في
ليبيا، بعد أن تمكنت من حصار أوروبا في شرق المتوسط، من خلال القاعدة البحرية في
طرطوس في سوريا ضمن اتفاق وقع مع حكومة بشار الأسد عام 2017.
بينما تنظر أمريكا إلى ليبيا وجنوب المتوسط، بأنه منطقة نفوذ للناتو بمقتضى اتفاق
سابق عقد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، كما تعد ليبيا مدخلا
لمنطقة جنوب الصحراء، والتي باتت محورا للصراع بين عدة قوى كبرى وهي أمريكا والصين
وفرنسا حيث يدور الصراع حول مكافحة الإرهاب والنفط.
وبالتالي فلن تسمح الولايات المتحدة لأي قوة دولية باختراق هذه المنطقة عسكريا
وسياسيا.
لذلك فإن استراتيجية أمريكا واضحة في ليبيا يتمثل هدفها في اخراج روسيا منها ثم بعد
ذلك تمثلت خطواتها فيما يلي:
إعطاء الضوء الأخضر للأتراك للدخول عسكريا للحيلولة دون وقع ليبيا كلها في أيدي
الروس. وتمثلت الخطوة الثانية في الدفع باجتماع للقوى الليبية في جنيف، لتخرج حكومة
مؤقتة تستطيع اجراء انتخابات في عموم ليبيا.
ثم تأتي الخطوة الثالثة والمتمثلة في ايجاد الحكومة المنتخبة وهي التي سوف يكون من
حقها دعوة القوى الخارجية الى الخروج من ليبيا، وبالتالي الغاء شرعية وجود هذه
القوات.
ولكن الروس قابلوا هذه الخطوات بزيادة أعداد الفاجنر، وتزويدهم بمقاتلات روسية
حديثة بطيارين ينتمون للجيش الروسي وسط إصرار منهم على البقاء ومد النفوذ
الجيوبولتيكي الروسي إلى جنوب المتوسط ومنه إلى افريقيا.
فكان الرد الأمريكي في أوكرانيا منطقة النفوذ الروسي التقليدية وعلى حدود روسيا
الجغرافية.
ويظهر ذلك جليا في المحادثة الهاتفية والتي جرت بين الرئيس الروسي بوتين والمستشارة
الألمانية ميركل أول أمس، والتي على ما يبدو كانت تقوم بنقل رسالة أمريكية إلى
روسيا، فذكرت وكالات الأنباء أن في هذه المكالمة أعرب الرئيس الروسي والمستشارة
الألمانية عن قلقهما من تصاعد التوتر بجنوب شرق أوكرانيا، ثم الأوضاع في ليبيا حيث
رحب بوتين وميركل بتشكيل جهات السلطة المركزية للفترة الانتقالية في ليبيا وتم
الاتفاق على مواصلة التنسيق على هذا المسار.
وجاءت المكالمة بين الرئيس التركي أردوغان وبوتين لتصب في نفس الاتجاه، حيث ذكرت
الأنباء أن الرجلين تباحثا بشأن أزمة أوكرانيا، ثم استعرضا في المكالمة آخر
التطورات في ليبيا، حيث أعربا عن ارتياحهما إزاء التزام جميع الأطراف بوقف إطلاق
النار ونجاح تشكيل مؤسسات حكم انتقالي في ليبيا، وأبدى الجانبان الروسي والتركي
استعدادهما للإسهام في العملية السلمية واستعادة وحدة ليبيا.
فليبيا كانت حاضرة في الأزمة الأوكرانية كورقة في صفقة تبادلية بين الغرب وروسيا.